شريف الراس من مواليد مدينة حماة السورية عام 1930، وخريج قسم الفلسفة بجامعة دمشق التي انتسب إليها عام 1952، وكان خلال دراسته الأول على قسم الفلسفة، وأعفته الجامعة من رسوم الدراسة وقدرها 75 ليرة سورية في حينها، وعمل في الصحافة منذ انتسب إلى الجامعة، فكتب في عدد من الصحف اليومية والأسبوعية، في سوريا، ولبنان والعراق والكويت والإمارات وسواها، وتميز بأسلوبه الساخر، حتى عُدّ "الكاتب الساخر الأول"، كما دعاه الكاتب المصري: محمود السعدني.
تُوفّي في العاصمة الأردنية عمّان صباح الأربعاء الماضي (17-5-2000م) عن عمر يناهز سبعين عاماً، بعد إصابته بجلطة دموية ، ودُفن في مقبرة "سحاب" جنوب عمّان
(طاحون الشياطين) تفضح بعض الممارسات القمعية في سوريا
--------------------------------------------------------------------
شريف الراس بقلمه
أنا عبد الله محمد شريف بن خالد بن حسن الرأس، المعروف باسم شريف الراس.
ولدت في مدينة حماة في يوم غير معروف، لأنه مذكور في سجلّي أنني ولدت في سنة 1930 (من غير تحديد اليوم أو الشهر) بينما أخي محمد أديب رحمه الله، وكان أكبر مني بسنتين مسجّل في ولادات سنة 1930.
أبي رحمه الله هو الحاج خالد بن حسن السكاف (تم تعديل اسم العائلة من السكاف إلى الراس سنة 1950، وإن شهادة الدراسة الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية مكتوبة باسم: محمد شريف إسكاف). كان تاجر منتجات زراعية "بوايكي" حسب تعبير الدمشقيين و "عَلْوَجي" حسب تعبير البغداديين، حيث يُنزل الفلاحون عنده محاصيلهم الزراعية والألبان والأجبان فيبيعها لحسابهم بالجملة.
كان رحمه الله شديد التقوى والإيمان، حجّ إلى مكة ثلاث عشرة حجة، وعندما وفقه الله لبناء بيت سنة 1939 نذر الغرفة الملاصقة للباب مسجداً لأهل الحي، وكان يرفع الأذان فوق سطح البيت إلى أن مات، وكانت هذه الغرفة "مضافة" لرجال الحي (حي بيت الحوراني) وللفلاحين والبدو. وكان يتفرغ لها منذ صلاة العصر، فيحمص القهوة العربية ويصنعها، وبعد صلاة العشاء يوزع المصاحف على الحاضرين ليقرأ كل منهم صفحتين بالتتالي، وكان الشيخ عبد الله الصباغ إمام مسجد حارتنا (جامع رستم بك) مكلّفاً بالانتباه لتصحيح أخطاء أي قارئ. وبعد ذلك تبدأ السهرة العادية، ما عدا مساء الخميس إذ كانوا بعد الانتهاء من قراءة القرآن يقيمون حفلة مولد نبوي شريف، فتقرأ قصيدة البردة للبوصيري ثم ينشد الصوّيتة الأغاني الدينية والتواشيح والأناشيد في مدح الرسول، ويُختتم المولد بتوزيع كؤوس الشاي، وأحياناً كان يقام احتفال على طريقة المتصوفة النقشبندية، وكان أبي رحمه الله من جماعة الشيخ أبي النصر خلف (حمص) وكان شيخاه اللذان يقبّل أيديهما في حماة: الشيخ محمود الشقفة، والشيخ أحمد سليم المراد رحمهما الله.
في سنة 1940 أنشأ أبي، مع شيخه الشيخ محمود الشقفة ورجال كرام من أفاضل حماة المدرسة المحمدية الشرعية، حيث بنوا غرفها فوق سطح جامع الشرقية، فكان من الطبيعي أن ننتسب إليها أنا وأخوايَ إبراهيم وأديب اللذان ما لبثا أن تركا الدراسة بعد نيلهما شهادة الدراسة الابتدائية، وثابرت وحدي إلى الصف النهائي، وهو الصف التاسع (شهادة البروفيه - المتوسطة) كان المنهاج نفس منهاج وزارة المعارف، مضافاً إليه باهتمام شديد أربعة علوم: الفقه والتوحيد والقرآن والحديث، وبدلاً من جرس التنبيه المدرسي كان على واحد منا أن "ينبّه" بأن يهتف بأعلى صوته: إن الله وملائكته يصلّون على النبي.. يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً.
كان من أهم الأساتذة الذين فضّلوا علينا في هذه المدرسة الفقيرة والعظيمة والتي كان معظم طلابها من أبناء الفلاحين والفقراء: الشيخ محمود الشقفة، والأستاذ محمد فؤاد الشقفة، والشيخ محمد علي الشقفة، والشيخ محمد النبهان، والشيخ أديب هزاع، والأستاذ جميل الشقفة.
ثم أنشأ الشيخ محمود مع والدي ورفاقهم جمعية لبناء المساجد في قرى العلويين، وكان لهم نشاط ملحوظ، لكن جهدهم لم يثمر إلا في ترميم مسجد تكية أبي الهدى الصيادي في حماة (التي دمرها حافظ أسد بعد ذلك، بعد أن أرسل إليها مجرماً اغتال الشيخ محموداً طعناً بخنجر في بطنه، فمات رحمه الله عن أكثر من ثمانين عاماً).
توفي والدي رحمه الله في أواخر عام 1958، وكانت أمنيته أن أسافر إلى مصر للدراسة في الأزهر، لكنني كنت راغباً بالسفر إلى مصر لدراسة فن الرسم، فكان الحل الوسط أن أنتسب إلى جامعة دمشق عام 1952 - قسم الفلسفة.
وتوفيت والدتي أديبة بنت الشيخ رضا الصباغ رحمه الله بعد والدي بعشر سنوات، وكم آلمني أن غربتي في بيروت آنذاك (1968) حالت دون سفري إلى حماة لتشييعها، ذلك أنني منذ 1965 لم أتمكن من العودة إلى سورية أبداً. ماتت رحمها الله بتفتت الكبد، لكثرة ما بذلت من جهد في هذه الحياة الصعبة بعد أن أنجبت اثني عشر ولداً، ثلاث إناث وتسعة ذكور. وسافَرَتْ إلى الحج ثلاث مرات.. وكان الحلم الأكبر في حياتي أن أرتمي باكياً على قبرها إذا كتب الله لي أن أعود إلى الوطن، ولكن الطاغية حافظ أسد نسف قبرها وقبر أبي أثناء المذبحة، فطار الحلم.
انتقلت من المدرسة المحمدية الشرعية إلى ثانوية أبي الفداء، ودرست في الفرع العلمي ثلاث سنوات، ولكنني فشلت في امتحان شهادة الدراسة الثانوية فشلاً ذريعاً، فزعلت من "العلم" وقررت أن أشتغل معلماً، فتوظفت لدى مديرية المعارف معلماً في مدرسة قرية السقيلبية، وهي قرية مسيحية تبعد 60 كيلو متراً غربي حماة، على تخوم منطقة الغاب وجبال العلويين، وكان زميلاي في السكن والتدريس مصطفى بن مصباح الغنّامة، والشاعر رضوان الدرع الذي كان مأخوذاً إلى حد الهوس بالشاعرين أحمد الصافي النجفي، وإلياس أبي شبكة، وكان يحاول جهده أن يجرّنا إلى عالم الأدب مع إغراءٍ خاص بالتعلّق بالغناء البدوي، كان يغنّي مواويل ريفية عراقية.
كان أهل السقيلبية طيبين جداً معنا، وقامت علاقة صداقة وطيدة مع معظمهم ممن لا يمكن أن ننساهم أبد الدهر، بالإضافة إلى معزّة خاصة مع خوري القرية "أبو إبراهيم" إن ذكريات تلك السنة –على بساطتها وفقرها- أجمل وأنشط ذكرياتي، ربما لأنني كنت في ريعان الصبا وقتذاك (1950).
وفي السنة التالية استقلت وانصرفت لدراسة منهاج شهادة الدراسة الثانوية (الفرع الأدبي) في البيت، كانت أغنى سنة بالقراءة والمطالعة، توسعت بقراءة طه حسين والعقاد، وكتب كثيرة كنت أستعيرها من مكتبة جامع المدفن أو أستعيرها من المكتبات بالأجرة، وكان يطير عقلي نشوة واعتزازاً عندما نشرت لي جريدة "اليقظة" أول مقال في حياتي، كان تلخيصاً لأحد كتب الفيلسوف الإنكليزي المعاصر "هاكسكي".
يقع بيتنا في "حي بيت الحوراني" لذلك كان انتماؤنا "للجمعية الخيرية" التي كان عمادها المرحوم واصل حوراني، ثم انتماؤنا إلى حزب الشباب بعد ذلك انتماءً عفوياً طبيعياً، وهو الحزب الذي أصبح اسمه "العربي الاشتراكي" وأذكر أننا في سنة 1948 ذهبنا على شكل وفد يضم معظم شباب الحي إلى مركز الحزب في شارع المرابط، فأقسمنا اليمين على الانتماء رسمياً.
انتسبت للجامعة سنة 1952 وعندما اندمج "العربي الاشتراكي" مع "البعث العربي" إبّان محنة دكتاتورية الشيشكلي، صرت عضواً في حزب البعث العربي الاشتراكي، وكنت نشيطاً ومتحمساً ومقاتلاً ومبشراً، وفي سنة 1956 قدت المظاهرة الشهيرة التي أدت لاستقالة وزارة المرحوم سعيد الغزي، وفي سنة 1958 انفرط الحزب إكراماً للوحدة، وفي سنة 1962 جمع الأستاذ ميشال عفلق مؤتمراً قومياً للحزب في منزل الأتاسي بحمص (وقد أُعدم هذا الشخص بعد ذلك بتهمة التجسس لأمريكا) فقرر المؤتمر فصل الأستاذ أكرم الحوراني من الحزب.. فانتهى موضوعنا نهائياً، وبقيت منذ ذلك التاريخ منتمياً لعقيدتي في وحدة أمتنا العربية وفي الانحياز للفقراء والمضطهدين، وغير ملتزم بأي تنظيم سياسي.
كنت الأول على زملائي في دراسة الفلسفة، ولذلك كانت الجامعة تعفيني من رسوم الدراسة (75) ليرة كل سنة. وكنت في السنة النهائية من المرشحين للعمل في منظمة الأمم المتحدة بنيويورك كمترجم قدير باللغة الفرنسية، ولكنني انسحبت لأنني أعرف أن لغتي الفرنسية لا تؤهلني لربع عمل كهذا، ومع ذلك فقد أقنعني الأستاذ أنطون مقدسي بأن أقدّم أطروحة التخرج على شكل ترجمة لدراسة كتبها برغسون عن أستاذه رافيسون. وصدر الكتاب (مئة نسخة) عن مطبعة النواعير في حماة ولكن الواقع أن الأستاذ أنطون، بصفته المشرف تحمّل ثلاثة أرباع الجهد في الترجمة.
اقتحمت عالم الكتابة الأدبية من خلال مجلة الآداب البيروتية عندما نشرت لي تعليقاً نارياً رددت فيه على مقالةٍ لكاتب شيوعي مصري اسمه إسماعيل المهدوي، كان يدعو إلى القطرية وكنت أنادي بالوحدة (1954) ثم صرت أنشر في الآداب قصصاً قصيرة لاقت ثناءً وترحيباً من معارفي وأصدقائي، وفي سنة 1956 عندما صدرت جريدة "البعث" أسبوعية صرت أنشر فيها مقالة دورية بعنوان "لوحات من حياة الشعب".
ثم عملت مديراً لمدرسة التربية الاجتماعية (مدرسة الحزب في حماة) سنتين، كنت خلالهما ألقي دروس علم النفس في المدارس الثانوية الحكومية في حماة والسلمية.
وفي عام 1958 سافرت إلى الكويت للعمل، فحصلت على وظيفة في إدارة الميناء، ولكنني لم ألبث أن تركتها بعد أسبوع لأنني رفضت أن يكون رئيسي حاملاً شهادة الدراسة الثانوية وأنا أحمل ليسانس، وجاءت أخبار مقلقة عن تعرّض سورية لهجوم من تركيا فرجعت إلى دمشق.. حيث بقيت ستة أشهر أبحث عن عمل إلى أن قامت الوحدة وأُعلن عن وظائف شاغرة في مديرية الدفاع المدني، فتقدمت إلى المسابقة ونجحت الأول، ثم انتقلت إلى وزارة الثقافة رئيس شعبة الفنون الشعبية وبقيت فيها إلى يوم 8 آذار 1963 حيث كنت أول ضحاياها إذ اعتقلت في سجن المزّة أربعة أشهر لأنني كنت أشد الناس سفاهة في لعن طغيان جمال عبد الناصر، وكان صديق عمري الدكتور سامي الجندي (وزير الثقافة في عهد الثورة) قد أرسل إليّ قرار تسريحي من الوظيفة كأول سوري يسرّح في يوم 10 آذار. وربما كان ذلك أول أعماله الثورية، وعندما خرجت من السجن اشتغلت خطاطاً ومصمم كتب ومصلح بروفات طباعية وصاحب دار للإعلان ولصناعة أقواس النصر إلى أن تيسّر لي في الأسبوع الأخير من عام 1965 أن أغادر سورية إلى لبنان، ولم أكن أتوقع أن تطول المسألة كل هذه السنين.
عشت في لبنان أجمل عشر سنوات في حياتي، عملت صحفياً في مجلة الجديد (توفيق المقدسي) وفي مجلة الأحد (المرحوم رياض طه) ومدرّساً في المدارس الثانوية الخاصة لمواد الفلسفة وعلم النفس والأدب العربي، ونعمت بالحرية واشتريت بيتاً لأول مرة في حياتي وإنني لا أنسى ما حييت فضل صديقي المحامي الكويتي الأستاذ حمد يوسف العيسى الذي وظّفني مشرفاً على طباعة ما يجدّ من تعديلات على "موسوعة القوانين الكويتية" التي يصدرها لقاء راتب 500 ليرة شهرياً، على أن أكبر مردود مالي كان يأتيني من تأليف البرامج الإذاعية والمسلسلات التلفزيونية لشركات الإنتاج الفني الخاصة.
في سنة 1970 كنت أسكن بيتاً بالأجرة في شارع غنّوم في حي الرمانة ببيروت، سكن في جوارنا شاب عراقي ما لبث أن أصبح من أعز الأصدقاء، وهو الأستاذ نديم أحمد الياسين، وكان ملحقاً صحفياً في السفارة العراقية ببيروت، فوجّه لي دعوة لزيارة العراق، بصفتي صحفياً في مجلة الأحد، ضمن الوفد اللبناني إلى مهرجان المربد الأول، وفي بغداد والبصرة شعرت بأن "البعثيين" هنا يختلفون عن أولئك الأوغاد الذين في دمشق، كانوا يرحبون بي بحرارة وصدق واحترام، ورجوتهم أن يسعوا لي بجواز سفر فلبّوا طلبي، وبذلك فإنني عشت في بيروت ما بين عامي 1970 و 1975 بصفة مواطن عراقي، وعملت لمدة سنتين مراسلاً أدبياً لجريدة الثورة لقاء 60 ديناراً شهرياً.
وفي 25/10/1975 غادرنا لبنان إلى العراق نهائياً بسبب الحرب والمذابح، ومنذ يوم 26/10/1975 وأنا موظف في دار ثقافة الأطفال بوزارة الإعلام، وهو عمل أسفر عن وصولي إلى الحصول على الجائزة الأولى في تأليف كتب الأطفال من المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم (الجامعة العربية).
الرجال الذين تأثرت بسيرهم وتمنيت أن أكون مثلهم كثيرون، والأدباء الذين أعجبت بهم وتمنيت أن أكتب مثلهم كثيرون، ولكنني في النتيجة لم أكن إلا "أنا" أما ما لمسه النقاد في رواياتي الأخيرة مما سمّوه "النفس الإسلامي" أو التوجه الديني الأصيل فلا فضل فيه إلا لعفويتي في الكتابة حين أكتب، إذ أنني أترك يدي تكتب بحرية من غير تخطيط مسبق أو تدخّل تنظيمي من "العقل".
ولدت في مدينة حماة في يوم غير معروف، لأنه مذكور في سجلّي أنني ولدت في سنة 1930 (من غير تحديد اليوم أو الشهر) بينما أخي محمد أديب رحمه الله، وكان أكبر مني بسنتين مسجّل في ولادات سنة 1930.
أبي رحمه الله هو الحاج خالد بن حسن السكاف (تم تعديل اسم العائلة من السكاف إلى الراس سنة 1950، وإن شهادة الدراسة الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية مكتوبة باسم: محمد شريف إسكاف). كان تاجر منتجات زراعية "بوايكي" حسب تعبير الدمشقيين و "عَلْوَجي" حسب تعبير البغداديين، حيث يُنزل الفلاحون عنده محاصيلهم الزراعية والألبان والأجبان فيبيعها لحسابهم بالجملة.
كان رحمه الله شديد التقوى والإيمان، حجّ إلى مكة ثلاث عشرة حجة، وعندما وفقه الله لبناء بيت سنة 1939 نذر الغرفة الملاصقة للباب مسجداً لأهل الحي، وكان يرفع الأذان فوق سطح البيت إلى أن مات، وكانت هذه الغرفة "مضافة" لرجال الحي (حي بيت الحوراني) وللفلاحين والبدو. وكان يتفرغ لها منذ صلاة العصر، فيحمص القهوة العربية ويصنعها، وبعد صلاة العشاء يوزع المصاحف على الحاضرين ليقرأ كل منهم صفحتين بالتتالي، وكان الشيخ عبد الله الصباغ إمام مسجد حارتنا (جامع رستم بك) مكلّفاً بالانتباه لتصحيح أخطاء أي قارئ. وبعد ذلك تبدأ السهرة العادية، ما عدا مساء الخميس إذ كانوا بعد الانتهاء من قراءة القرآن يقيمون حفلة مولد نبوي شريف، فتقرأ قصيدة البردة للبوصيري ثم ينشد الصوّيتة الأغاني الدينية والتواشيح والأناشيد في مدح الرسول، ويُختتم المولد بتوزيع كؤوس الشاي، وأحياناً كان يقام احتفال على طريقة المتصوفة النقشبندية، وكان أبي رحمه الله من جماعة الشيخ أبي النصر خلف (حمص) وكان شيخاه اللذان يقبّل أيديهما في حماة: الشيخ محمود الشقفة، والشيخ أحمد سليم المراد رحمهما الله.
في سنة 1940 أنشأ أبي، مع شيخه الشيخ محمود الشقفة ورجال كرام من أفاضل حماة المدرسة المحمدية الشرعية، حيث بنوا غرفها فوق سطح جامع الشرقية، فكان من الطبيعي أن ننتسب إليها أنا وأخوايَ إبراهيم وأديب اللذان ما لبثا أن تركا الدراسة بعد نيلهما شهادة الدراسة الابتدائية، وثابرت وحدي إلى الصف النهائي، وهو الصف التاسع (شهادة البروفيه - المتوسطة) كان المنهاج نفس منهاج وزارة المعارف، مضافاً إليه باهتمام شديد أربعة علوم: الفقه والتوحيد والقرآن والحديث، وبدلاً من جرس التنبيه المدرسي كان على واحد منا أن "ينبّه" بأن يهتف بأعلى صوته: إن الله وملائكته يصلّون على النبي.. يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً.
كان من أهم الأساتذة الذين فضّلوا علينا في هذه المدرسة الفقيرة والعظيمة والتي كان معظم طلابها من أبناء الفلاحين والفقراء: الشيخ محمود الشقفة، والأستاذ محمد فؤاد الشقفة، والشيخ محمد علي الشقفة، والشيخ محمد النبهان، والشيخ أديب هزاع، والأستاذ جميل الشقفة.
ثم أنشأ الشيخ محمود مع والدي ورفاقهم جمعية لبناء المساجد في قرى العلويين، وكان لهم نشاط ملحوظ، لكن جهدهم لم يثمر إلا في ترميم مسجد تكية أبي الهدى الصيادي في حماة (التي دمرها حافظ أسد بعد ذلك، بعد أن أرسل إليها مجرماً اغتال الشيخ محموداً طعناً بخنجر في بطنه، فمات رحمه الله عن أكثر من ثمانين عاماً).
توفي والدي رحمه الله في أواخر عام 1958، وكانت أمنيته أن أسافر إلى مصر للدراسة في الأزهر، لكنني كنت راغباً بالسفر إلى مصر لدراسة فن الرسم، فكان الحل الوسط أن أنتسب إلى جامعة دمشق عام 1952 - قسم الفلسفة.
وتوفيت والدتي أديبة بنت الشيخ رضا الصباغ رحمه الله بعد والدي بعشر سنوات، وكم آلمني أن غربتي في بيروت آنذاك (1968) حالت دون سفري إلى حماة لتشييعها، ذلك أنني منذ 1965 لم أتمكن من العودة إلى سورية أبداً. ماتت رحمها الله بتفتت الكبد، لكثرة ما بذلت من جهد في هذه الحياة الصعبة بعد أن أنجبت اثني عشر ولداً، ثلاث إناث وتسعة ذكور. وسافَرَتْ إلى الحج ثلاث مرات.. وكان الحلم الأكبر في حياتي أن أرتمي باكياً على قبرها إذا كتب الله لي أن أعود إلى الوطن، ولكن الطاغية حافظ أسد نسف قبرها وقبر أبي أثناء المذبحة، فطار الحلم.
انتقلت من المدرسة المحمدية الشرعية إلى ثانوية أبي الفداء، ودرست في الفرع العلمي ثلاث سنوات، ولكنني فشلت في امتحان شهادة الدراسة الثانوية فشلاً ذريعاً، فزعلت من "العلم" وقررت أن أشتغل معلماً، فتوظفت لدى مديرية المعارف معلماً في مدرسة قرية السقيلبية، وهي قرية مسيحية تبعد 60 كيلو متراً غربي حماة، على تخوم منطقة الغاب وجبال العلويين، وكان زميلاي في السكن والتدريس مصطفى بن مصباح الغنّامة، والشاعر رضوان الدرع الذي كان مأخوذاً إلى حد الهوس بالشاعرين أحمد الصافي النجفي، وإلياس أبي شبكة، وكان يحاول جهده أن يجرّنا إلى عالم الأدب مع إغراءٍ خاص بالتعلّق بالغناء البدوي، كان يغنّي مواويل ريفية عراقية.
كان أهل السقيلبية طيبين جداً معنا، وقامت علاقة صداقة وطيدة مع معظمهم ممن لا يمكن أن ننساهم أبد الدهر، بالإضافة إلى معزّة خاصة مع خوري القرية "أبو إبراهيم" إن ذكريات تلك السنة –على بساطتها وفقرها- أجمل وأنشط ذكرياتي، ربما لأنني كنت في ريعان الصبا وقتذاك (1950).
وفي السنة التالية استقلت وانصرفت لدراسة منهاج شهادة الدراسة الثانوية (الفرع الأدبي) في البيت، كانت أغنى سنة بالقراءة والمطالعة، توسعت بقراءة طه حسين والعقاد، وكتب كثيرة كنت أستعيرها من مكتبة جامع المدفن أو أستعيرها من المكتبات بالأجرة، وكان يطير عقلي نشوة واعتزازاً عندما نشرت لي جريدة "اليقظة" أول مقال في حياتي، كان تلخيصاً لأحد كتب الفيلسوف الإنكليزي المعاصر "هاكسكي".
يقع بيتنا في "حي بيت الحوراني" لذلك كان انتماؤنا "للجمعية الخيرية" التي كان عمادها المرحوم واصل حوراني، ثم انتماؤنا إلى حزب الشباب بعد ذلك انتماءً عفوياً طبيعياً، وهو الحزب الذي أصبح اسمه "العربي الاشتراكي" وأذكر أننا في سنة 1948 ذهبنا على شكل وفد يضم معظم شباب الحي إلى مركز الحزب في شارع المرابط، فأقسمنا اليمين على الانتماء رسمياً.
انتسبت للجامعة سنة 1952 وعندما اندمج "العربي الاشتراكي" مع "البعث العربي" إبّان محنة دكتاتورية الشيشكلي، صرت عضواً في حزب البعث العربي الاشتراكي، وكنت نشيطاً ومتحمساً ومقاتلاً ومبشراً، وفي سنة 1956 قدت المظاهرة الشهيرة التي أدت لاستقالة وزارة المرحوم سعيد الغزي، وفي سنة 1958 انفرط الحزب إكراماً للوحدة، وفي سنة 1962 جمع الأستاذ ميشال عفلق مؤتمراً قومياً للحزب في منزل الأتاسي بحمص (وقد أُعدم هذا الشخص بعد ذلك بتهمة التجسس لأمريكا) فقرر المؤتمر فصل الأستاذ أكرم الحوراني من الحزب.. فانتهى موضوعنا نهائياً، وبقيت منذ ذلك التاريخ منتمياً لعقيدتي في وحدة أمتنا العربية وفي الانحياز للفقراء والمضطهدين، وغير ملتزم بأي تنظيم سياسي.
كنت الأول على زملائي في دراسة الفلسفة، ولذلك كانت الجامعة تعفيني من رسوم الدراسة (75) ليرة كل سنة. وكنت في السنة النهائية من المرشحين للعمل في منظمة الأمم المتحدة بنيويورك كمترجم قدير باللغة الفرنسية، ولكنني انسحبت لأنني أعرف أن لغتي الفرنسية لا تؤهلني لربع عمل كهذا، ومع ذلك فقد أقنعني الأستاذ أنطون مقدسي بأن أقدّم أطروحة التخرج على شكل ترجمة لدراسة كتبها برغسون عن أستاذه رافيسون. وصدر الكتاب (مئة نسخة) عن مطبعة النواعير في حماة ولكن الواقع أن الأستاذ أنطون، بصفته المشرف تحمّل ثلاثة أرباع الجهد في الترجمة.
اقتحمت عالم الكتابة الأدبية من خلال مجلة الآداب البيروتية عندما نشرت لي تعليقاً نارياً رددت فيه على مقالةٍ لكاتب شيوعي مصري اسمه إسماعيل المهدوي، كان يدعو إلى القطرية وكنت أنادي بالوحدة (1954) ثم صرت أنشر في الآداب قصصاً قصيرة لاقت ثناءً وترحيباً من معارفي وأصدقائي، وفي سنة 1956 عندما صدرت جريدة "البعث" أسبوعية صرت أنشر فيها مقالة دورية بعنوان "لوحات من حياة الشعب".
ثم عملت مديراً لمدرسة التربية الاجتماعية (مدرسة الحزب في حماة) سنتين، كنت خلالهما ألقي دروس علم النفس في المدارس الثانوية الحكومية في حماة والسلمية.
وفي عام 1958 سافرت إلى الكويت للعمل، فحصلت على وظيفة في إدارة الميناء، ولكنني لم ألبث أن تركتها بعد أسبوع لأنني رفضت أن يكون رئيسي حاملاً شهادة الدراسة الثانوية وأنا أحمل ليسانس، وجاءت أخبار مقلقة عن تعرّض سورية لهجوم من تركيا فرجعت إلى دمشق.. حيث بقيت ستة أشهر أبحث عن عمل إلى أن قامت الوحدة وأُعلن عن وظائف شاغرة في مديرية الدفاع المدني، فتقدمت إلى المسابقة ونجحت الأول، ثم انتقلت إلى وزارة الثقافة رئيس شعبة الفنون الشعبية وبقيت فيها إلى يوم 8 آذار 1963 حيث كنت أول ضحاياها إذ اعتقلت في سجن المزّة أربعة أشهر لأنني كنت أشد الناس سفاهة في لعن طغيان جمال عبد الناصر، وكان صديق عمري الدكتور سامي الجندي (وزير الثقافة في عهد الثورة) قد أرسل إليّ قرار تسريحي من الوظيفة كأول سوري يسرّح في يوم 10 آذار. وربما كان ذلك أول أعماله الثورية، وعندما خرجت من السجن اشتغلت خطاطاً ومصمم كتب ومصلح بروفات طباعية وصاحب دار للإعلان ولصناعة أقواس النصر إلى أن تيسّر لي في الأسبوع الأخير من عام 1965 أن أغادر سورية إلى لبنان، ولم أكن أتوقع أن تطول المسألة كل هذه السنين.
عشت في لبنان أجمل عشر سنوات في حياتي، عملت صحفياً في مجلة الجديد (توفيق المقدسي) وفي مجلة الأحد (المرحوم رياض طه) ومدرّساً في المدارس الثانوية الخاصة لمواد الفلسفة وعلم النفس والأدب العربي، ونعمت بالحرية واشتريت بيتاً لأول مرة في حياتي وإنني لا أنسى ما حييت فضل صديقي المحامي الكويتي الأستاذ حمد يوسف العيسى الذي وظّفني مشرفاً على طباعة ما يجدّ من تعديلات على "موسوعة القوانين الكويتية" التي يصدرها لقاء راتب 500 ليرة شهرياً، على أن أكبر مردود مالي كان يأتيني من تأليف البرامج الإذاعية والمسلسلات التلفزيونية لشركات الإنتاج الفني الخاصة.
في سنة 1970 كنت أسكن بيتاً بالأجرة في شارع غنّوم في حي الرمانة ببيروت، سكن في جوارنا شاب عراقي ما لبث أن أصبح من أعز الأصدقاء، وهو الأستاذ نديم أحمد الياسين، وكان ملحقاً صحفياً في السفارة العراقية ببيروت، فوجّه لي دعوة لزيارة العراق، بصفتي صحفياً في مجلة الأحد، ضمن الوفد اللبناني إلى مهرجان المربد الأول، وفي بغداد والبصرة شعرت بأن "البعثيين" هنا يختلفون عن أولئك الأوغاد الذين في دمشق، كانوا يرحبون بي بحرارة وصدق واحترام، ورجوتهم أن يسعوا لي بجواز سفر فلبّوا طلبي، وبذلك فإنني عشت في بيروت ما بين عامي 1970 و 1975 بصفة مواطن عراقي، وعملت لمدة سنتين مراسلاً أدبياً لجريدة الثورة لقاء 60 ديناراً شهرياً.
وفي 25/10/1975 غادرنا لبنان إلى العراق نهائياً بسبب الحرب والمذابح، ومنذ يوم 26/10/1975 وأنا موظف في دار ثقافة الأطفال بوزارة الإعلام، وهو عمل أسفر عن وصولي إلى الحصول على الجائزة الأولى في تأليف كتب الأطفال من المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم (الجامعة العربية).
الرجال الذين تأثرت بسيرهم وتمنيت أن أكون مثلهم كثيرون، والأدباء الذين أعجبت بهم وتمنيت أن أكتب مثلهم كثيرون، ولكنني في النتيجة لم أكن إلا "أنا" أما ما لمسه النقاد في رواياتي الأخيرة مما سمّوه "النفس الإسلامي" أو التوجه الديني الأصيل فلا فضل فيه إلا لعفويتي في الكتابة حين أكتب، إذ أنني أترك يدي تكتب بحرية من غير تخطيط مسبق أو تدخّل تنظيمي من "العقل".
إذا أردت مشاركة هذا الكتاب فشكرا لك, ولكن رجاء لاتزيل علامتنا المميزة
مع الشكر مقدما
No comments:
Post a Comment