"إلى كل من: أحب بلادي أحب الوطن، وكل من: قهرته الأيام لكنها لم تهزمه بعد" بهذه العبارة يقدم فتحي خليل البس لكتابه انثيال الذاكرة إذ يروي فيه سيرة حياة حافلة بالنضال والعطاء بدأها من مخيم الفوار حيث ولد عام 1951، وهو يروي قصة انتقال عائلته من مخيم الفوار إلى مخيم العروب حيث بدأ نشاطه السياسي باكراً حتى جاءت حرب 1967 التي شردت الفلسطينيين إلى مخيمات أخرى في الضفة الشرقية.
كما يتحدث عن معاناة أبناء شعبه والأحوال المعيشية السيئة التي عانيها النازحون، ويواصل المؤلف سرد ذكرياته حتى انتقاله إلى لبنان ليكمل دراسته الجامعية، ومن هناك كان يواصل نضاله مع حركة فتح كما يعرض للظروف السياسية التي قسمت الشارع اللبناني آنذاك ما بين مؤيد للوجود الفلسطيني ومعارض.
أنهى المؤلف دراسته في الجامعة الأميركية عام 1977 وحاز بكالوريوس الصيدلة وأصبح فيما بعد رئيس اتحاد الناشرين الأردني ونائب اتحاد الناشرين العرب لعدة دورات.
يستهل فتحي البس سيرة جيله من خلال ما يشبه سيرته الذاتية قائلاً: "عندما تنثال الذاكرة، تأخذ أشكالاً ثلاثة: صوراً وأحداثاً واضحة وجلية، وصوراً وأحداثاً ملتبسة تحتاج إلى تدقيق وفرز للاقتراب من الحقيقة، وصوراً وأحداثاً تستدعيها الذاكرة حسب ما تمنى الإنسان أن تكون، وليس كما كانت، وبالتالي، تعكس أماني الإنسان وأحلامه وقت وقوع تلك الأحداث. ولا تخلو ذاكرتي المنثالة من كل هذه الأشكال".
سيرة ذات مذاق حميم، يجتمع فيها الخاص والعام، تنثال من ذاكرة غنية بالتفاصيل الغزيرة، بالمتع والمعاناة، بالحب والصراع، بالخوف والجسارة، بتفتح الوعي وتفتح الجسد.
إنها ذاكرة ممتعة حقاً وشجية إلى حد بعيد، وزاخرة بالأحداث، تبدأ بمخيمات الضفتين الشرقية والغربية، ترصد تأسيس المخيمات وشقاء سكانها وإصرارهم على المواجهة من خلال تفاصيل الحياة اليومية: شقاوة الأطفال ومراوغة المراهقين وبواكير العمل السياسي وتفتح االقلب، وتحدي الصعاب، إلى الانتقال إلى بيروت من مخيم البقعة الذي أفرد له الكاتب مساحة واسعة بعنوان "مخيم البقعة طين وسقعة".
يترك الكاتب ذاكرته تنثال بعفوية وبصدق وشفافية. يروي صدمة الانتقال الحضارية والفكرية ويصف بيروت في نهاية الستينات ومطلع السبعينيات: الانضمام الى حركة فتح والحركة الطلابية ودورها في السياسة، تكوين "خط الجماهير – خط الشعب" وتأسيس االكتيبة الطلابية، الصراعات السياسية والاجتماعية وانعكاسها على حياته الشخصية، الإضراب الكبير لطلاب الجامعة الأمريكية وخفاياه، تفاصيل الاعتقال والطرد، الجوانب الإنسانية لشهداء سقطوا في مسيرة النضال من أجل تحرير فلسطين.مسيرة الحب والحرب، الانعطاف السياسي في الفكر الفلسطيني باتجاه التسوية، العودة إلى الأردن والانخراط في الحياة المدنية ، صدمة أوسلو والموقف من التسوية، العودة إلى فلسطين، وتداعياتها الشخصية.
إنها ذاكرة جيل عانى وعاند وتمرد ، خاض مسيرة الحرب والحب، انتصر أحياناً وصدم أحياناً كثيرة، ويجد الكثير من الناس أنفسهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وقلقهم في صور الكتاب المنثالة بلغة مفعمة بالحنين واللوعة، وخالية من الحشو، فيها المتعة والمعرفة، والمعلومات الدقيقة عن الأحداث والأشخاص . "جيل قهرته الأيام لكنها لم تهزمه بعد".
يهدي فتحي كتابه إلى كل من: "أحب بلادي .. أحب الوطن"، وإلى من "قهرته الأيام لكنها لم تهزمه بعد".
أو