نسخة عالية الدقة 600 DPI
خالد العظم، رجل الدولة وداهية السياسة، أشهر من أن يعرف. فهو أحد القلائل الذين صنعوا تاريخ سوريا الحديث، وشاركوا المشاركة الفعّالة في إرساء اللبنة الأولى لوجودها الاقتصادي وفي تجديد طموحها القومي. عرفه الناس في مركز المسؤولية، وسمعوا عنه بعيداً عنها، كما عايش بعضهم محنته يوم كان سجين السفارة التي اهتم بها في دمشق، ويوم قدم إلى لبنان لاجئاً سياسياً مريضاً، ليلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يردد: "سوريا الحبيبة، لتعش".
كان سياسياً محترفاً، وكان في الوقت نفسه مولعاً بالأدب والفن، أحب هواياته إلى نفسه القراءة والرسم وأكثر ما يقرأ كتب التاريخ والمذكرات السياسية. لقد عرف خالد العظم من أخبار القدماء وآدابهم فوق ما كان يعرفه القدماء أنفسهم، وآمن بأن اليوم الذي تنقطع فيه الصلة بين جديد الأمة وقديمها هو اليوم الذي تهون فيه ويجال بينها وبين الإبداع، كان يؤمن بأن التحديد لا يتم إلا بإحياء القديم والأخذ بما يصلح منه للأوان الحاضر والزمان الآتي. وكان يسلك إلى تصوير عواطفه الطريق نفسها التي يسلكها الشعراء، طريق العبارة القوية المؤثرة التي تستثير إعجابك لاستئثارها بعقلك وحسك وشعورك معاً. كان رحمه الله مجاهداً وفياً، قوي الحجة، بعيد النظر، شجاعاً لا يستكين للأحداث أو يستسلم للصعاب، بل يتحداها بطاقة جبارة لا تعرف مللاً أو كلالاً.
وكان في غروب شمسه ودنو أجله، يحدث من حوله بالذكريات الخوالي، ذكريات الماضي الجميل وأهله، وعلاقته بهم، وما اشتركوا فيه من أفراح أو تقاسموه من أتراح فيبدأ رحمة الله سائلاً محللاً في سؤاله، ثم يثوب إلى رشده تدريجاً حتى إذا يئس من الجواب اطمأن إلى يأسه، فقنع بالذكرى، ومضى يستحضر الأحداث بالذكرى ليقصها على نفسه كأنما كان يخاطب إنسان آخر وعندما شق عليه المرض أخذ يتحدث عن رحيله بإيمان الذي أدى الأمانة حتى آخر المطاف. وقد جاءت نهاية ذلك المطاف يوم الخميس في الثامن عشر من شهر (شباط) لسنة 1965. قبل وفاته كان يردد موصياً أن يدفن بجوار الإمام الأوزاعي. مطالباً بأن لا يحمل نعشه إلى دمشق لئلا يتفاعل السوريون مع هذا الموقف فتقوم المظاهرات ويسقط الجرحى...
ذلك خالد العظم "المليونير الأحمر" الذي جاهد وناضل منذ نعومة أظفاره، فكتب زهاء نصف قرن من تاريخ سوريا وتاريخ العرب الحديث. كان يؤمن بالعمل الصامت الهادف، المترفع عن الفوغائية التي ما استخدمها يوماً للانطلاق. هكذا كان بالفعل ريحاً جبارة دفعت الشراع بعيداً بعيداً...
وبعد فإن هذه المذكرات التي تخرج لأول مرة في سنة 1972 هي ثورة فكرية، ومدرسة سياسية، وعبرة تاريخية، وضعها رحمه الله بكل موضوعية وأمانة، ليتحدث بها عن نفسه وبقلمه المتجرد، معطياً الأحداث حقها من البحث والتحليل، ومعلقاً عليها بدقة وتجرد. كان أميناً من سرد الوقائع، وسرد سيرة حياته، وتاريخ الفترة التي عاش بها، فلم يجامل ولم يحاب ولم يكذب، بل ظل بعيداً عن الدعاية والتضليل. هكذا أرادها خالد العظم أن تكون؛ وهكذا أرادها أن تنشر، لتقدم إلى الجيل الصاعد نصف قرن من تاريخ أمته، يعكف على دراسته ليتخلص من دقائق العرفان.
أو