في وقت متأخر من الليلة السابعة له في القرية، استيقظ السيد المشير فزعاً بسبب سقوط صورة قديمة من ذاكرته في الحلم الذي كان يرى نفسه فيه يقطع صحراء دون نهاية وهو يسير على رأسه... فجأة أرتفع صوت أول عصفور مع تسرب أول خيوط ضوء الفجر، عندها فقط رفع عينيه ليرى العالم الوليد الغاطس في ضوء الفضة، رأى نفسه وحيداً في العالم كله كأنه الوحيد الباقي على أرض دمرها الطوفان. رأى طوفان ضوء الفجر القادم يطل من خلف عتمة أشجار السيسبان واللخ متدافعاً من حوله حتى استحالت عليه الرؤية، عندها فقط أيقن أن فراغ روحه هزمه منذ أول جولة ومضى يفرغه تدريجياً من الحياة حتى أرغمه على الانكفاء على أوهامه، فعرف أنه لم يتخذ قرار الانسحاب من عصر الشركات الوطني تحت وهم تأثير مبررات أخلاقية، ولكن لأنه لم يكن يعلم تحديداً موقعه من الحياة أو الموت".
هكذا يدفع أحمد الملك في روايته هذه بشخصية المشير لتكون الرمز الذي يرومه للحديث عن واقع أقرب إلى الخيال، بل أحياناً أغرب من الخيال. ينسج الرواية ضمن مساحة زمنية من تأريخ السودان مغرقة في الظلم والظلامية، ولعل قارئ من قراء رواية أحمد الملك هذه سيظن أن شخصية المشير الفاقد للذاكرة هي من صنع الخيال، في حين يكتم قارئ سوداني ضحكات الشماتة وهو يرى مصير المشير، المعتوه المثير للشفقة، فهو يعرف المشير حقاً، وهو ما زال، ليس فقط بلحمه ودمه، وإنما بآثاره وما صنعت يداه في البلاد، مما لن يزول في المستقبل المنظور، رغم زوال أسطورة المشير الظافر المنتصر أبداً. وإلى هذا فإن "الخريف يأتي مع صفاء" ليست رواية للتأريخ، بل هي موقف منه.
أو