رحل الشاعر اللبناني الفرنكوفوني صلاح ستيتية في أحلك ظرف يشهده لبنان وطنه الأول وفرنسا وطنه الثاني، في أوج وباء كورونا الذي عزل الناس عن حياتهم العامة أو المشتركة، جاعلاً منهم أفراداً منفصلين بعضاً عن بعض. توفي "شاعر الضفتين" بل "شاعر المنهلين" كما يسمى، في دار للعجزة في باريس، وحيداً، بعدما عاش حياة ملؤها الأضواء والأحداث، حياة شاعر برجوازي النشأة، سليل عائلة من أعرق العائلات البيروتية ، دبلوماسي، بلغ مناصب راقية في لبنان وفرنسا. وقد ترك وراءه إرثاً مهماً وكبيراً من الأعمال التشكيلية العالمية وقصراً فرنسياً عاش فيه سنواته الأخيرة ومكتبة ووثائق. توفي عن 90 سنة هو الذي ولد العام 1929 في كنف الانتداب الفرنسي وترعرع في بيئة فرنكوفونية ودرس في معاهد الفرنسيين وأتقن لغتهم حتى كادت تطغى على لغته العربية. وحاول طوال حياته، هو الذي لم يتخل عن هويته السنية البيروتية في المعنى الاجتماعي طبعاً، أن يتصالح مع العربية كلغة، بينما كان شديد التضلع في الثقافة والفنون الإسلامية والتصوف الإسلامي ولكن من خلال المرجعيات الاستشراقية وما أتيح له من مصادر عربية. ومثلما كان للمفكر الفرنسي غبريال بونور المشرقي الهوى، أثر فيه في مطلع حياته الأدبية الفرنكوفونية أيام دراسته الجامعية في لبنان، كان للمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون أثر كبير فيه أيضاً بعدما تتلمذ على يده في كولاج دو فرانس الصرح الأكاديمي العريق. وساعده تعرفه إلى ماسينيون وقراءته أعماله واستنارته به وبخطه الاستشراقي وتأثره بفكره، في رسم الخطوط الأولى لمشروعه الثقافي وهويته الثنائية القائمة بين نزعتين، إسلامية وغربية.
أما كشاعر فكان معلمه الأول والأخير الشاعر ستيفان مالارمه الذي وضع فيه أكثر من دراسة، عطفاً على تأثره بشعراء آخرين كبار مثل رامبو الذي ألف عنه كتابين، وجان بيار جوف وإيف بونفوا وأندريه بيار دو مانديارغ وسواهم. ولم تغب عنه آثار الشعراء الصوفيين الكبار، مسلمين ومسيحيين، وقد ترجم مختارات من الشعراء الصوفييين العرب وفي مقدمهم رابعة العدوية. وكتب في حقل الحضارة العربية والإسلامية أبحاثاً ودراسات مهمة جداً، ومنها على سبيل المثل: "فردوس" وهو عن جماليات الحدائق في الإسلام، "نور على نور أو الإسلام الخلاق"، "رابعة النار والدموع"، "عن قلب إسرافيل"، "الواحة بين الرمل والأساطير"... وكان غوصه على التراث الإسلامي، الديني والحضاري، هو الذي رسخ مشروعه الثقافي في كونه شاعر "المنهلين" أو "الضفتين"، ما سمح له بأن يكون مبدعاً متجذراً في الأدب واللغة الفرنسييتن وفي الأدب الإسلامي والصوفي في آن واحد. وقد قال عنه ادونيس في هذا الصدد:" بينما كان صلاح ستيتية يفكر ويكتب ويكتشف بالفرنسية، كان يحلم ويرى ويتنهد بالعربية".
أو