Saturday, June 4, 2011

تنويه بكتاب-----> غالية قباني - أسرار و أكاذيب



رندة جباعي- لم يعد بوسع بطلة الرواية «انتصار» الهروب مرة جديدة، فالأسرار التي تدفنها في ذاكرتها والأكاذيب التي تحيطها من كل حدب وصوب تناديها بإلحاح كي تخرجها وإلا لن تهنأ بعيشها مع زوجها بسام، ولن تستطيع أن تنجب له طفلاً. أما الوسيلة المتاحة أمامها لإنجاز المهمة، فهي كاميرا فيديو موضوعة على طاولة المطبخ، وما عليها سوى بدء التسجيل والحديث عمّا تخفيه عن زوجها. هذه هي فكرة رواية غالية قباني «أسرار وأكاذيب» الجديدة. رواية تأخذنا إلى قلب مدينتين عاصرتهما الكاتبة وعاشت فيهما، دمشق ولندن. فهي وليدة مدينة حلب في سورية، ومقيمة في لندن منذ العام 1994، حيث تعمل في الصحافة العربية. من هنا ليس غريباً أن نجد في الرواية تفاصيل دقيقة عن هاتين المدينتين وعادات سكانها، وطريقة عيشهم وتصرفاتهم.
لكن اللافت في الرواية جرأة الكاتبة في ملامسة قضايا سياسية واجتماعية وثقافية فكرية، فتنقل لنا قباني بكل طلاقة الهواجس اليومية التي عاشها الشارع السوري في سبعينيات وثمانينيات القرن الحالي، وهواجس الشارع البريطاني في السنوات الأخيرة الماضية. فلا تنفك، بأسلوب واقعي ودرامي الطبع، عن التطرق إلى موضوع المهاجرين في بريطانيا، أو التعصب العرقي أو غيرهما، كذلك القمع السياسي في سوريا، أو سيطرة النظام الحاكم وديكتاتوريته. وتصف لنا تأجج ثلاثية السلطة والمال والشهرة، ومدى سطوتها على النفوس في تلك الفترة. - عن السفير .
فيديو
أربعة فصول، قسمتها غالية قباني بحسب عدد شرائط الفيديو التي سجلتها بطلة الرواية المتعددة الأسماء، «انتصار سعيد الشماع»، أو «مسز انتصار ميداني» أو «انتصار زياد الرفاعي». ونقلت فيها حكايات عائلتها المختبئة دائماً فيها، وصفّت من خلال هذه الأشرطة حسابها مع الماضي، لتعيش الحاضر مع زوجها بسام، المخرج الوثائقي، بكل حب وطمأنينة. انتصار، اليسارية المتمردة، التي هجرت موطنها، تاركة وراءها شقيقتها المسالمة، ووالدتها السياسية المناضلة والعضو في مجلس الشعب، التي أخفت عن ابنتها سرّ من يكون والدها الحقيقي.
عبر التداعيات والاسترجاعات والاستباقات الزمنية القريبة والبعيدة، نسافر في كل فصل إلى زمنين وبلدين مختلفين، لكننا نظل دائماً بين هواجس انتصار وقلقها الدائم. فالرواية مونولوجية بامتياز، وشخصية انتصار، هي الشخصية المركزية فيها، إلى جانب الشخصيات الأخرى التي تجسد العالم الواسع الذي تعيش فيه انتصار، شخصيات ثانوية تقدمها في الغالب الكاتبة من خلال وجهة نظر انتصار.. وهي شخصيات لا تتمتع بكيان مستقل عنها، كما أنها لا تتحرك في الرواية إلا من خلالها، ولا نعرف عنها إلا ما تعرفه وتقدمه لنا فقط. فنرى ونحس بعينها وحواسها وحتى بتحليلها للأمور. من هنا نشعر بأن الكاتبة تعرف شخصية انتصار تمام المعرفة وتتطابق معها، وبالتالي لا نشعر بأي رؤية من الخارج للكاتبة، فانتصار هي من يقوم بتنظيم الحوار، وبقيادة القارئ إلى الأماكن التي تريده أن يذهب إليها، وهي عين الكاميرا التي تسجل كل ذكرياتها من دون أن تسجل صورة انتصار نفسها. من هنا نجد أن الكاتبة تتنقل بالقارئ ما بين الخارج والداخل، من خلال السرد والمونولوج الداخلي، فتأتي الأحداث من خلال رؤية البطلة، وينتفي الوعي بالزمان في حالاته الثلاث، الماضي والحاضر والمستقبل. وتتأرجح الرواية بين هذه الأزمنة من دون التقيد بزمن الرواية أو الأحداث الواقعة بالفعل، ولعله أحد أسباب جمال السرد في هذه الرواية، إضافة إلى التشويق الذي يحققه عدم سرد الأحداث دفعة واحدة من البداية إلى النهاية، بل تعمد الكاتبة إلى تقطيع الأحداث لأجزاء تظهر من خلال المونولوج والتداعي. على أن هذا التقطيع يحافظ على انشداد القارئ المستمر إلى الأحداث.
الحذف والإيجاز
"أسرار وأكاذيب"(الصادرة عن دار «رياض الريس») تمتاز بسرعة استعراض الأحداث، خصوصاً أن الوقفات الوصفية والمشاهد الدرامية الطويلة قليلة جداً، فاعتمدت قباني التلخيص والحذف والإيجاز. كما اعتمدت لغة واضحة ومباشرة استمدت معجمها من الذات والواقع والتاريخ والذاكرة. ففي الشريط الأول، أو الفصل الأول، نتعرف إلى انتصار، وإلى بعض الشخصيات الرئيسة في الرواية، وفي الشريط الثاني نبدأ بالتعرف إلى معاناة انتصار، وتبقى الأمور عالقة حتى الشريط الأخير لتكتمل عندنا الصورة وتبوح بالتالي انتصار بكل الأسرار التي تخفيها عن زوجها، وتتصالح بعدها مع والدتها، التي غابت عنها خمس سنوات متتالية. فتبدو الصورة مشوشة لنا بعض الشيء في بدء الرواية لتعود وتتضح أكثر فأكثر مع كل صفحة، كأن الأحداث في الرواية جاءت مرتبة بمنطق خاص، منطق مخالف لطبيعة القص الكلاسيكية، وأقرب منها إلى تيار الوعي حيث دائماً هناك لفتة إلى الجانب المظلم من نفس انتصار وحياتها الباطنية، كأن غالية قباني أخذتنا إلى عالمها الداخلي، من خلال ولوجها داخل الشخصية، وبالتالي أصبح بإمكان القارئ أن يلتقي ودواخل الشخصية من دون وساطة. هذا ويمكن أن نقول إن الرواية تميزت بأسلوب واقعي نقدي، إذ تكشف عن الحالة النفسية للمجتمعين البريطاني والسوري، من خلال التعمق في شخصية انتصار، وما تنقله لنا، تلك الشخصية القلقة والحزينة.
رواية غالية قباني تمنح القارئ متعة الكشف والاستنباط، إضافة إلى الولوج في النفس البشرية والتوغل إلى الداخل، فيفكر مع كل اعتراف جديد لانتصار بمنح نفسه فرصة أيضاً لقول ما تختلجه بصوت عالٍ، والتأمل في أسراره ومنحها بعداً جديداً.
مجلة الرواية


No comments:

Post a Comment