إلى روح الكاتب والمناضل عماد شيحا
تعد رواية موت مشتهى للروائي عماد شيحا، السجين السياسي، الذي قضى أكثر من نصف حياته خلف القضبان، في أسوأ ظروف السجن، رواية هامة، لما فيها من دلالات رمزية وعلنية، ورغم ابتعادها عن المباشرة إلا إنها تشكل غوصاً عميقاً في الواقع ،وعمارة أدبية متميزة فيها يلج القارئ عالم السرد الغارق بالدماء، حيث يصور عملية التفكك والتحول في سوريا، منذ أربعة عقود، أو منذ بداية هذا القرن ، فيبين أن التحول لم يكن إلا قفزة نحو الفراغ ، حيث تصير الحياة بلا معنى والمستقبل بلا أفاق، مدعماً أفكاره بسيرورة شخصيات ينتقلون من وضع إلى أخر ، من القرى الصغيرة النائية ،إلى تجارة التهريب ، إلى مواقع السلطة والفساد ، إلى الشرطة التي لا ترتدع لأخلاق أو لقيم ، فتصير الشرطة ، الأمن ،الأداة، التي تسيطر على كل شيء، وتبنى شبكات عنكبوتيه تلتهم المجتمع بداخله ، مع هذا الظهور المتطرف للسلطة برز دورها وكثرت سجونها ومراكز اعتقالها ، وراحت تتحكم بالبلاد بلا قانون أو تشريع ، فساد قانون الغاب ، حيث البقاء للأقوى ، والموت للأضعف ، وبالتالي انعدمت قيم الحرية والجمال والمحبة و العلم
يحكي الكاتب عبر شخصياته التي تميل نحو التطرف كرد فعل ضد تطرف السلطة ، كيف ينزوي المجتمع و يتحول إلى أشلاء ،و تسيطر عليه نزعة الأنانية ، وتتفكك الأسرة ، ويتهمش الوطن والأرض وعبر هذه الآليات يسود القتل واللؤم والخبث ، وكل النزوعات البهائمية ، فتموت جذوة الحرية ويقتلها الاستبداد ، وتنغلق مناخات الفرح ويعم الحزن والظلم والقهر ، فتصير الأم - البنت - الكنّة - الوطن - خرقة بالية ، وهي التي كانت تنافس الرجال !! تنعدم شخصيتها ، وتتصرف بشكل آلي ،وبدون روح فعلية ، حتى المتعلمين أصحاب الشهادات الجامعية يتحطمون تماماً ويدخلون السجون أما السياسيون التافهون فيدخلون سراديب الكذب واللف والدوران ويمتنعون عن مواجهة الحقائق الفعلية ، حقائق الحياة ،ويستبدلونها بحقائق زائفة وبمشكلات لا علاقة لها بالواقع في السجون تحاول الأجهزة، الشرطة - الأمن ،اغتصاب الحلم ، المعنى، المستقبل ، عندها يدخل السجناء بدوامة من التخيلات اللامتناهية ، حيث يقلبّون كل احتمالات النجاة ، وكل أسباب الشرور ، وكل أصحاب الفساد والجرائم ، ولكن السجن لا ينتهي ، والمحاكمات معلومة النتائج سلفاً ومعدة بعناية ، فتسود الرؤية السوداوية والموت المؤجل ، حيث الشعور بالهزيمة و اللاهوية ،والفراغ، ورغم الشعور بالعقل أحياناً ،إلا أنه يصبح واقعياً، الغائب الفعلي يمكن للقارئ أن يلحظ هم الكاتب ، أنه يريد تأريخ سيرورة تشكل المجتمع وآليات سيطرة السلطة عليه ، فيقسم الرواية لمحتويات ثلاث : بحث ، صمت ، حداد
والى فصول متعددة ، لايكاد المرء يخرج من فصل إلا ليعود إليه من جديد ، بسيرورة ٍ متداخلة ، يشتهي فيها الكاتب- رغم تشاؤمه الذي يتلاقى مع العصر الإمبريالي المسدود الأفاق - رغبة الانتقال إلى الأفكار المفرحة ، والحيوات المليئة بالتجدد ، بكشف الحقائق الكاملة عن التاريخ المسروق ، حيث السجن الصغير في السجون الفعلية والسجن الكبير على مساحة الوطن ، نقول رغم ذلك الشعور الجميل تعود الرواية لتنتهي بموتٍ مؤثر ،بشفرة تفصد العروق والشرايين ، وتفصلها عن بعضها ، فيموت الأمل ذاته وتبقى السجون والقائمين عليها مع النزوعات المدمرة للمجتمع لم تخن شخصيات الرواية، الأديب ، عبد الجبارالبطريركي " الأب " رباب ، المتعلمة المتمردة" البنت " ناصيف، الطامع للسيطرة على ملكية الأب وتشليح أخوته ميراثهم " الأخ" ،الأخوة الآخرين والأصدقاء، وأفراد الشرطة ، و"هبوب" المهرة الشموس،الخ ، حيث تتفسخ العلاقات العائلية ، والمجتمعية ، وتنشئ بالمقابل فلل كاملة وظيفتها الدعارة ،لا يقتصر العمل فيها على الفقيرات أو الجاهلات ، وإنما يمتد ، ليستهلك بداخله بنات الطبقات الثريات والمتعلمات، فتعم الدعارة كل أوجه المجتمع كوجه أخر للتهريب والتجارة ، أو كمكمل لها ، ولا يستثنى الكاتب عبر شخوصه ، مجال التعليم حيث تقام العلاقة بين الأساتذة الجامعيين والطلبة على أساس الجنس والثروة ، ونادراً المعرفة، فعرضت الشخصيات صوراً مأساوية لواقع
القرية ،المدينة ، الدولة، حيث تسود عصابات التهريب ، السرقة ، النهب ، فيصير التهريب واقعاً قائماً داخل الحدود وخارجها
نشدد على قراءتنا السياسية للرواية الأدبية والتي قد لاتحتمل كل ما قدمناه عنها ، إلا أننا نؤكد أنها رواية سياسية بإمتياز لأنها رواية أدبية بإمتياز نختتم تعريفنا بالرواية بالقول أنها رواية تستحق أن تقرأ ،وهي تتويج للأدب السياسي في سوريا ، لوحة الغلاف للفنان المتميز يوسف عبد لكي ،
والرواية من القطع المتوسط ، عدد صفحاتها 271 ، صادرة عن دار السوسن الأخت الشقيقة لدار الحصاد ، العنوان العريض " موت مشتهى" ، العناوين الأخرى فصول في تحولات رباب عبد الجبار ، وبعنوان فرعي في أعلى يسار غلاف الرواية " نصوص من وراء الجدران " مرفقة بحرف ألف باللاتيني ، تشي بشهوة الكاتب ، وبأمل القراء بأن روايات أخرى ستخرج من جعبة السجين الروائي ، كاتب الرواية السجين لثلاثة عقود في السجون السورية
عمار ديوب - الحوار المتمدن
أو
No comments:
Post a Comment