Wednesday, February 2, 2022

اسماعيل الرفاعي - أدراج الطين

 


ي الرواية التي تحمل العنوان أعلاه (فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها التاسعة، وصدرت ضمن منشورات دائرة الثقافة والإعلام- الشارقة)، يكتب الشاعر والتشكيلي السوري إسماعيل الرفاعي سيرة روائية، أو رواية سيرية، كما هي حال أي رواية أولى لكاتبها. رواية تحكي محطات من حياته وحياة «أشخاص مضوا صامتين دون أن يفطن إليهم أحد أو ينصت إليهم أحد» كما يقول الراوي في ختام القسم المسمى «أدراج الطفولة»، حيث قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أقسام هي إضافة إلى هذا القسم «أدراج دمشق» و«أدراج السماء». وهو يصرح في لحظة سردية باسمه كمؤلف إضافة إلى كونه «الراوي العليم».
الرواية محتشدة بأسماء شخوص وأمكنة وحوادث، ولكنها رواية الشخص الواحد - البطل الواحد، ولكنه البطل المهزوم والمأزوم في حال من التذكر والهذيان ليرسم عالما يهرب، عالمه هو بكل ما فيه ومن فيه من عوالم، وهو ينتقل بين قريته «الميادين» وبين «دمشق»، مستحضرا بشرا وشجرا وطبيعة وبيوتا طينية.
اللافت الأول في رواية الرفاعي هذه هو لغتها، اللغة الشرسة في مواقع والرومانسية الشفيفة في مواقع، وهي شراسة تلائم عالم القرية الذي يرسمه الكاتب بما فيه من أسماء لمواد وأمكنة ذات طبيعة ريفية «فلكلورية»، وعالم الشخوص الذين لا يهمه كثيرا رسم ملامحهم بالتفصيل، فيكتفي بسرد حكاياتهم الطريفة والبائسة في آن.. ويركز على ذوي الأسماء الغريبة من هؤلاء الأشخاص ليعزز حال الغرابة والدهشة في طبائعهم وسلوكياتهم، فليس المهم هو التفاصيل بل جوهر الشخصيات في بؤسها وتشردها وجنونها. وهي أيضا لغة بسيطة وعلى قدر الشاعرية من حيث قاموسها وتركيبها.
منذ الجملة الأولى يضعنا الكاتب أمام مأساة بطله، مأساته هو ربما حين يخاطب نفسه «حين تأتي الساعة التي تنزلق فيها إلى سراديب الموت.. ماذا ستحمل سوى خيبتك المريرة وجسدك المتهتك؟ سيفعل بك الموت ما فعلته بك الحياة. سيتفسخ جسدك شيئا فشيئا، ويلتهمك الدود الذي خزنته طوال تلك السنين. وأية أشباح ستملأ ذاكرتك حين تغادر حاملا حقائبك الفارغة ومتاعك البالي؟». ثم يعود إلى قريته ليتذكر طفولته فيها.
في عالم الراوي يبرز الوالد القوي والثري الذي لن يلبث أن يفقد ثروته وتجارته، والوالدة القوية والشقيقة التي فقدها مبكرا والأخ الصعلوك والعاشق والمعشوق الذي ينتهي في معسكرات الفدائيين في الأردن، متسببا بوفاة والده حين ذهب ليزوره فرفض مقابلة والده مقررا أن خياره مع «الثورة» قبل أن يكتشف أنها لم تكن ثورة، لكن اكتشافه هذا جاء بعد وفاة والده ووالدته، ليعيش «الراوي» حال اليتم المبكر.
وفي عالم الراوي الطفولي جدود وجدات، وقائع كالخرافة، وخرافات كأنها الواقع. إنه رصد يختار عناصر من عالم الطفولة الذي يعرفه الريف العربي في الغالب. عالم «كان يا ما كان حتى سلة الزبيب يتكشف عالم خرافي.. غامض يفرد فيه السحر أجنحته على البر والبحر». عالم من «ألف ليلة وليلة» حيث «ست الحسن» و«السيف الذي يقطر الدم منذ دهور». هنا الجن الذين ينقسمون بين الخير والشر. التعاويذ والشعوذات في عالم جداتنا وربما أمهاتنا أيضا. ألعاب الأطفال وشقاوتهم وعلاقتهم بالعصافير والنهر والسماء. علاقات الفتيان بالفتيات في الحدود المتاحة حيث كان «الحصول على قبلة يعد كنزا كبيرا.. يظل مذاقها عالقا في الفم لأشهر طويلة».
وفي القسم الثاني نطالع دمشق التي انتقل إليها الراوي طالبا جامعيا في كلية الفنون. نطالع دمشق و«صباحاتها الباردة وزحامها الشديد.. الركض خلف الباصات المهترئة والبيت المحشور في أحد أزقة اليرموك. الوجوه العابرة والنساء العابرات. الليالي الطويلة وآلة الأكورديون الصاخبة.. الجيتار الخشبي. قناني العرق والأغطية القذرة. والوقوف أمام المرآة في الصباحات الذاوية فارغا من نفسك وغائبا».
إنها حال من تكريس البؤس الطفولي وامتداد له. هناك طفل بملامح تعكس المغامرة والرعب من العالم في الوقت نفسه، وهنا شاب بين شبان منهم «الشاعر الموهوب والشاعر الموهوم»، يصارعون قسوة العيش ويختار كل منهم طريقته في التعبير عن نفسه وعن فنونه أو «جنونه». شخصيات متناقضة وغرائبية بقدر ما هي واقعية. طالب مواظب «يحمل في جعبته علبة ألوان خبأها سنين طويلة في خزانته دون أن يغامر باستخدامها»، وطالب شاعر يفرد على سطح المطبخ كتبا يقرأ من كل كتاب فقرة ليلفت انتباه جارته الأرملة. وثمة أمكنة واقعية معروفة مثل حانة الفريدي «التي تغص بالمثقفين العاطلين عن العمل والشعراء العاطلين عن القصيدة».
ويختتم الرفاعي روايته بوداع الأم واحتضان قبرها، ثم يتجول في المنزل الذي عاش فيه طفولته، يقف أمام لوحات له على الحائط، وتحديدا أمام لوحة زرقاء غسقية «فيها نساء يحملن أطفالا وقد غرقت ملامحهن في ضوء يصعد من داخلهن، وكان ثمة امرأة تلتفت نصف التفاتة، يقف على كتفها طير، ويتشبث بثوبها طفل.. تقف وسط اللوحة وهي تهم بالرحيل»، فأي رحيل هو؟ هي رواية جيل تمزق وتشرد، في محاولة لاستعادة زمن قيل إنه كان جميلا، لكنه زمن أنتج شخصيات مثل شخصية (كاسر) الذي كان «متنوع المواهب و.. يمضي الليالي الطويلة عاكفا على الكتابة، ولا نص لديه.. يتحدث عن مشاريع إبداعية كبيرة من روايات وقصص وأشعار. وكان يكتب ويكتب دون أن تعثر في جعبته على أثر متكامل. موهبته فريدة.. إلا أنه صمت تماما»! الجيل الذي ولد مع هزيمة حزيران فأصيب بالهزيمة والإحباط اللذين يمتدان على مساحة الوطن العربي. لذلك فالكتابة هنا تجمع الغرائبية والواقعية إلى السخرية المريرة.
عمر شبانة

او

إذا أردت مشاركة هذا الكتاب فشكرا لك, ولكن رجاء لاتزيل علامتنا المميزة
مع الشكر مقدما



No comments:

Post a Comment