ضمت مجموعة"البار الأمريكي"ثماني قصص قصيرة هي"البحر يخرج من مرآة، ثلاثة كلاب، غراب أخرس، صلعة الثور الكاروليني، البار الأمريكي، الأوزبكية، وجه الحبشية، الرقصة البنغالية، وميزوبوتاميا".
وأضيف للطبعة الثانية ملحق بعنوان"قراءات في البار الأمريكي"(ص 94 – 128). تطرح قصة"البار الأمريكي"(ص 7 -39)، التي أخذت المجموعة اسمها، عوالم لكائنات الأرق والسهر واللذة العابرة منزوية في جو العتمة المقصود وينفرد (الراوي العليم- القاص) بـ"الرجل"الوحيد الذي يعاقر خمرته، في بار، تساقطت عليه ظلال قاتمة، فمسحت جزءاً من ملامحه وكادت تمسح بعضاً من وجوده أيضاً، لولا جلسته القريبة من "تمثال الحرية"الذي كان في البار"مجسماً"على نحو صغير للفنان الفرنسي"فريدريك أوجست بارثولدي"، وكان قد أنجزه في تموز عام 1844، بصفته رمزاً للحرية والديمقراطية والصداقة العالمية وقُدم، كإهداء إلى الشعب الأمريكي باسم الشعب الفرنسي، و قَبِلهُ الرئيس الأمريكي"جروفر كليفلاند" نيابةً عن الشعب الأمريكي. إلا إن"الرجل"المتوحد في البار، يعيش لحظاته، محدقاً بمجسم التمثال، ومتحسساً ومتلمساً ممتعات المكان، ويراقب مساحته وهندسته وتشكيلاته والكائنات الجالسة فيه ؛ وينشغل- الرجل- بعيداً عن الزمان- المكان ليرنو هناك.. إذ المارينز والمسرفات والهمرات ؛ وهي تهدر في رأسه، لتجتاح صمته العاري وتسحق وحدته الحالية، بضجيجها وبغبارها الذي تخلفه خلفها، وكذلك طائرات الشبح وهي تقصف رأسه الدائخ بدوي عاصف لتسقط أطنان القنابل الذكية /العنقودية /الرذاذية /الصوتية، مستسلماً،مسلوب الإرادة، للأباتشي التي تحوم حول عزلته لتلتقط أنفاسه الصعبة في صدره المشروخ وتضع مكانه حفنة من اليورانيوم المنضب، ولا يني في أن يـهرب من سيارة مفخخة انفجرت في مدينته، وحولته إلى أشلاء من اللحم.. أو من قادم عبر الصحراء، وهو ملتح، و"دشداشته"القذرة، القصيرة من الإمام والطويلة من الخلف، وجاء ليقتل نفسه، ومَنْ يتواجد قربه، مصادفةً، من العراقيين، منتظراً"حوراً عين"عاريةً تماماً،"تَشلع"جسده وكل مكبوتاته إلى الجنان الخضر الموعودة في زمن، أو مكان، لا يَعرف أو حتى يخمن كائن ما، متى يتحقق ذلك فعلياً؟!. ويبقى - رجل البار- غريباً في المكان ذاته، كـشرقي منزوٍ وراء ظلال معتمة، تشتتت وتعسرت في فمه لغة المراثي التي اعتادها أكثر من ثلاثين عاماً، وهو ينقل بصره بين صدر نادلة البار البض، والطافح بالأنوثة، وتمثال"الحرية الصغير"حيث يوقن انه، وفي هذا الزمن والعالم والمكان، إن كل شيء محتمل وقابل للتحقق، فلربما يكون ذلك الأشقر، الجالس بفرح وسرور غامرين مع عشيقته، في عتمة ذلك البار، هو ذاته احد الذين قتلوه ذات مرة وخنقوا وريده على مشارف"بصرته"، أو احد الذين سرقوا وجيب قلبه ودبيب روحه الهائمة في ليل البار وظلاله القاتمة. تتميز مجموعة (البار الأمريكي) بنمط من القص يربط بين مهيمنات آنية عدة، اذ يتشابك الداخل- الخارج، الزمان - المكان، الواقع - الافتراض، الغياب- الحضور، الحاضر- الماضي. وتتميز الرؤيا الفنية وبؤرتها الدلالية عبر معرفة وخبرة في وظائف وطرائق السرد الفني الذي يستعين بالذاكرة الفردية – الجمعية. نلاحظ إن قصص"البار الأمريكي"الثماني، بمثابة"بؤر"تتسع بعيداً عبر أفكار مزدحمة بالوقائع، والحكايات والأحلام التي لا تنقطع وغالباً ما يهيمن صوت الراوي- الوحيد - القاص ذاته، على الثيمات ليتلبس، عبر لغة سردية مرنة، أدواراً عدة منها:"المستكشف الجغرافي تارة أو المؤرخ أو العالِم الانثروبولوجي تارة أخرى، أو الجمع بين التراثي والمحقق، من رؤى تتوجه إلى بواطن الأحلام ومفازاتها"القاص أحمد أمين.
وفي قصص"البار الأمريكي"يقدم السالم:"سارداً خاصاً نسميه (السارد التشكيلي) الذي يقوم بتوصيف أو رسم لوحة تشكيلية بالكلمات والتحكم بمفرداتها وبتحريك تفاصيلها، أو إضافة عناصر جديدة لها أو إلغاء بعضها أو جميعها"الناقد جميل الشبيبي.
القاص"وارد بدر السالم"من طلائع قصاصي جيل الثمانينات العراقي، ذلك الجيل الذي طحنته حروب النظام المنهار، العبثية المتعاقبة، والتي طمست حياته وبددت أحلامه سلطة قامعة، لا حد لقسوتها وبربريتها ووحشيتها، وهو في بديات تطلعاته الحياتية -الثقافية. وقد اصدر السالم عدداً من المجاميع القصصية والراويات التي استخدم فيها التوظيف الفني - الدلالي للواقع العراقي المعاش في تحولاته القاسية الصاخبة المريرة، منقباً عن ضياع دور الإنسان العراقي، كاشفاً الظروف المعقدة التي تُغيّب وتُكبّل تطلعاته وتشوفه نحو عالم جديد لائق بالحياة الآدمية، متطلعاً بوله نحو الفضاءات الرحبة والغنية التي تنطوي على ما هو جميل ونبيل وحافل بالثراء الوجداني - الإنساني، وحياته التي تُعاش مرة واحدة فقط، ومستخدماً - القاص- مستوى متميزاً في عبارته السردية - الشاعرية - المكثفة،مجموعة"المعدان"- 1995، نموذجاً، ونلاحظ إن (السالم) في بعض رواياته و الكثير من قصصه يسهم في تقديم (بانوراما) شديدة الخصوصية والمحلية العراقية- الجنوبية تحديداً، تلك العوالم والحيوات والفضاءات لا يتعامل معها أو يقدمها (السالم) بصفتها (يوتوبيا) بل كجزء من صميم الحياة الواقعية و الغرائبية - روايته "مولد غراب"- 2001- التي ينطوي عليها جنوب العراق وبعض بقايا مكوناته البشرية وعمق تقاليدها التي تؤكد الدراسات الانثروبولوجية العديدة (سومرية) أصولها وامتدادات بعض طقوسها الحالية. مجموعة"البار الأمريكي"مرتبطة في نسيجها العام عبر طرحها لموضوعة الحرب وقسوتها وبشاعتها وتأثيراتها على الإنسان والأوطان، ولذا يمكن أن تشكل في كليتها فصولاً ضمن رواية، وهو ما نوه إليه القاص السالم في هامش ورد في الصفحة(92)، وفي نهاية قصة"ميزوبوتاميا"إذ يؤكد فيه دخول هذا النسيج القصصي في روايته"تجميع الأسد".
أو
إذا أردت مشاركة هذا الكتاب فشكرا لك, ولكن رجاء لاتزيل علامتنا المميزة
مع الشكر مقدما
No comments:
Post a Comment