المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء 1998 | سحب وتعديل جمال حتمل | 484 صفحة | PDF | 23.8 MB
http://www.4shared.com/office/c966F9otce/__-__.html
or
http://www.mediafire.com/view/vr4sxxpruamyny3/شربل_داغر_-_مذاهب_الحسن.pdf
مذاهب الحسن قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية
إن النصاب الفلسفي الذي شغل شربل داغر في "كتاب العين " هو المسألة الجمالية أو "مذاهب الحسن "، وهي مسألة تفجر أسئلة تتعدد واشكاليات توغل في البدايات، ومنها:
ا - هل يصح البحث عن علم ناشيء هو "الجمالية " في متن قديم ؟
2 - كيف ندرس العلاقات بين اللغة والفكر والجمال ؟ وكيف نقرأ المعجم ونفحص مداخله وتعريفاته بما يدلنا على تعيينات الفكر والجمال ؟
3- هل يمكن أن نرى الى مواد المعجم المتناثرة "كلا لسانيا واحدا؟ " وهل نوافق "الان راي" القول بأن المعجم ليس "جردة مفردات " ولا "قائمة معان " وانما هو "نص لساني" يخضع لما يخضع له غيره من مقتضيات القراءة اللسانية ؟ لأن الشكل اللغوي ليس شرط تناقل الأفكار فقط، بل إنه الشرط اللازم لتحققها.
انها الاشكاليات التي شغلت شربل داغر في دراسة "كتاب العين " أو المعاجم العربية قاطبة، وهو المعجم الموضوع في طور تاريخي، في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري الذي يمكن تسميته بالطور الانتقالي، ذلك أنه لا يمثل فقط "عصر التدوين "، بل عصر انبثاق العديد من العلوم العربية بأنساقها اللغوية والفقهية.
في هذا السياق لم يتعامل شربل داغر مع المعجم على أنه "نص لساني" فقط، وانما أيضا على أنه "أثر" دال على أشياء واقعة خارجه، ويشير اليها بقدر ما يعني حمولاتها : المعجم بوصفه عاكسا لمجموع نظرة الى اللغة والعالم. فهو لا يقع في المعجم على تعيينات "حيادية "، أو منتزعة من السياق الاجتماعي، بل عليها في حياتها الاستعمالية. فالمعجم _أي معجم _ لا يوفر تعريفات مصاغة في صورة "منزهة "، مهما بلفت درجات التطلب الدقيق والعلمي في الصياغة، ذلك أنه نص "موضوع " وان كان غرضه اللفة نفسها فالخطاب الناص.وضع المعاجم، يبنيه ويعينه الخطاب الاجتماعي الى جانب الخطاب التاريخي.
من هذا التأزم في تحديد الجمالية، وبلورتها على أنها فرع من فروع الفلسفة تنشأ اشكالية الجمال، لأن الجمال ليس "في ذاته " بل في،"ملاحظته ". وهن هنا السؤال : كيف يمكن أن نتحقق من الجمالية في "كتاب العين ":؟ وهل يمكن تعيينها في "المفردة "؟ أم في "المجموعة " عند التحقق من وجود مفردات ومعان ودلالات متقاربة؟
ففي المعجم علامات نحوية معروفة مثل "المذكر" و"المصدر" و" النسبة " مما يمكن ادراجه في "اللغة الواصفة " الى جانب علامات أخرى، معينة على أنها اسم جامع "كالدار" في علاماته الترتيبية للمعاني، ومنها العرصة والبناء والمحلة، أو "العطر" وهو الاسم الجامع لأشياء الطيب. واذ أعان الاسم الجامه شربل داغر في معرفة شيء من ترتيب المعاني في "كتاب العين " أدرك بالاضافة الى الأسماء الجامعة أن عليه أن يبحث عن سبل أخرى لفرز الألفاظ وترتيبها، فما هي هذه السبل وكيف يتم تعيينها؟
لقد كان من الوقائع اللغوية التي استوقفت شربل داغر، تكرار اللفظ الواحد في غير نبذة معجمية. مما يؤدي الى تعيينه بوصفه "نقطة ثقل وجذب لغيره " أي كونه قطبا دلاليا كلفظ "البيت " الذي تكرر في "كتاب العين " ما يزيد على سبعين مرة، ما يشير الى حضور لافت له أي الى كونه عنصر استقطاب دلالي بالضرورة.
" هكذا، وفر "كتاب العين " لأول مرة في العربية "كلا لغويا"، على أنه مدونة مفتوحة على زمانها. بخلاف ما انتهت اليه المعاجم اللاحقة عليه. "فكتاب العين " بلغنا على سبيل المثال عن حديث "العامة " أو عن نطقها، أو عن تفسيراتها، في فترة اتسمت بالتجميع "المفتوح " وليس بالتصنيف وفق مقولات وأطر نقه عليها لاحقا في عمل جامعي اللغة. فالمعجم كما يرى "ألان راي" يعين ويعرف، سواء في تفرق موادا أو في ~ اجتماعها، وهو ما تشير اليه طبيعته التناصية لأن التداخل النسيجي هو الطبيعة التناصية للمعجم، ولأن 0 كل عنصر فيه يتعلق بالمجموع الاحتمالي لخطاب غير مقروء بعد. لذا لابد للقراءة اللسانية من أن تتعزز وتتأكد بقراءة تاريخية وهذا ما يفسر لجوء شربل داغر الى اقامة شبكة من التعالق بين "المعجمي" و"التاريخي". وهي قراءة مزدوجة قادته الى تحديد ستة مجاميع دلالية في "كتاب العين " هي الدار. الغناء، الشعر، الشارة، الدمية والكتابة.
. أما عن اشكاليات الجمال والفن التي راح يبحث عنها شربل داغر في "كتاب العين " وفي الوقوف على شيء من تاريخها نشأة وتطورا وأدوات وأنواعا فهي اشكاليات ليس لها دلالاتها المخصومة ولا هي تفرق بين "الدخيل " و"الجديد" وهنا تكمن صعوبة هذا المشروع المغربي والشاق إن لم نقل الصعب المنال.
فنحن إذا عدنا ال التراث الغربي في دراساته المعجمية رأينا مثلا أن الباحث "جورج ما توريه " لم يجد صعوبة منهجية حين تعرض للحقل الدلالي للفن والفنان بين سنة 1827 وسن 1834 في كتابه "منهج العلم المعجمي: الميدان الفرنسي " ذلك أنه استند في عمله هذا الى ما سبقه اليه واضعو المعاجم، وهو "تأريخ الدلالات " : فهو يستطيع التأكيد بأن لفظ "التميز" Oziginalité)) ظهر في سنة 1690، و"الفردانية " (Individualité) في سنة 1760، وأن القيمة الدلالية المكتسبة لمفهوم "العبقرية " Génie) ) هي التي تعني أكثر من غيرها الصفة الجديدة المعينة للفن في منتصف القرن التاسع عشر، وهذا ما تفتقر اليه "دلالات " العربية، التي "لا تاريخ لها" ولما كان "كتاب العين " أول المعاجم العربية قاطبة، فهو مثل المعاجم اللاحقة له في العربية، لا يتضمن أبدا ما عرفته غير لغة في العالم مع معاجمها المتأخرة، وهو تاريخية المعاني والألفاظ.
فالوقوف على "تاريخية " الألفاظ يفيدنا في التغيرات الحادثة في الدلالات نفسها، الى جانب تغيراتها مع الفعل الاسلامي الناشيء الذي تتأكد فيه وتتعدد أشكال "تلقي " الفعل الجمالي.
وحيث أراد شربل داغر قراءة المعجم الخليلي في حدود ابلاغه نفسها، لجأ الى اشارات المعجم وتعيينات "الاسم الجامع " فاستوقفه التعريف التالي :
الدار : وهو كل موضع حل به قوم، فهو دارهم. وأما الدار فاسم جامع للعرصة، والبناء والمحلة. ولكن السؤال : كيف تتم عمليات "الحلول في الموضع " كما ترد في "كتاب العين "؟ انها تتم ابتداء من تعيينات الأرض ومنها "البيد"، وهو لفظ يدل على مفازة لا شيء فيها، و"الصحراء" أو الفضاء الواسع الذي لا يواريه شيء، و"الجرد" وهو الفضاء الذي لا نبات فيه. أما "الجرد" فإذا كان فضاء لا نبات فيا فإن "القفر" قد يكون حسب المعجم خاليا من الأمكنة، وقد يكون فيه كلأ قليل. هنا نخلص الى تعيين محورين للمعاني : محور الأرض الجرداء، ومحور الأرض ذات المراعي.
الى جانب هذه التعيينات يلحظ المعجم قسمة جديدة في المعاني بين الأرض "البراح " وهي التي لا بناء فيها ولا عمران، وبين الأرض العامرة أو المعمورة مما يستتبع السؤال الآتي : ما المواضع ؟ وما العمران ؟
ان الموضع يرد في "كتاب العين " بسياقات مختلفة واستخدامات متباينة فهناك "الزون " وهو الموضع الذي تجمع فيه الأصنام وتزين، وهناك "المسجد" وهو موضع السجود نفسه، وهناك "السوق " موضع البياعات، و"الطراز" أو الموضع الذي تنسج فيه الثياب الجياد.
أما اذا كان "الموضع " هو المكان المبني، فإن هذا البناء يدعونا الى اجراء قسمة من نوع آخر بين مواضع "الاقامة الدائمة " أو "غير الدائمة " وبين نوعين متمايزين من الاقامة والبناء وهما : "أهل البدو" و" أهل الحضر".
ثم أن لفظي "البدو" و"الحضر" يبدوان كقطبين متناظرين ومتحالفين في صورة ناجزة. فالبادية هي الأرض التي لا حضر فيها، أي لا محلة فيها دائمة، ولا ديمومة. من هنا الافتراق بين ميدانين في العمران : ميدان الحلول الدائم أو الميدان الحضري، وميدان الحلول المؤقت أو الميدان البدوي.
أما البيت البدوي فيتألف من مواد يمكن نقلها من موضع الى موضع لنصبها من جديد، أو من مواد هشة مثل عيدان الشجر، أو من مواد نسيجية مثل الصوف والوبر وخلافها غير أن أوسع الألفاظ والدلالات الخاصة بمواد البناء الحضري فنجدها في "الطين " ومتفرعاته ومشتقاته الى جانب الفخار أو الطين المطبوخ واللبن والمرمر والرخام والبلنط والبلاط.
هذه هي الواد التي يعود اليها صناع البناء، من البناء، الى الفعلة الى الطيانين وأخيرا الى الراز وهو رأس البنائين. أما المعالجات البنائية فتقوم في عمليات التشييد، والتمليس والتطيين، والتقويض، والتهديم والتنكيس.
الى هذا فإن المعجم يضم عددا واسعا من الاستعمالات اللغوية الدالة على الباب ومصراعيه وتعليقه وتركيبه. ولكن ماذا عن "حريم الدار" أو ما أضيف اليها من حقوقها ومرافقها؟ وما هي هذه المرافق ؟
يتحدث المعجم عنها عندما يشير الى مرفق الدار من المغتسل والكنيف، ونعني به الاستتار، وكأنه كيف في استر النواحي وفي المعجم أيضا قائمة من أسماء انوا ضع غير الخاصة بالاقامة، وتؤدي وظائف اجتماعية متعددة منها "السجن " و" الحبس " و"النادي" وهذا في اشارة تفصيلية "لدار الندوة " في مكة، أو الى مربد البصرة أو المدينة، الى جانب الفندق أو الخان وهو مكان نزول المسافرين.
ويتعرض المعجم الى المباني التي تؤدي وظيفة دينية في الاسلام كالمسجد الجامع، والمقصورة، والمحراب، كما يتعرض الى أمكنة دينية خاصة بالمسيحيين مثل "صومعة الراهب " أو "القوس " وهو رأس الصومعة أو "الكنيسة " و" البيعة " أو "محاريب " بني اسرائيل.
ولم يكتف المعجم بالمواد المتصلة بالميدان البدوي أو الحضري مرورا بعملياته البنائية، بل تطرق أيضا الى زينة البيت أو تحسينه، فأشار الى الزخارف والصور المنقوشة على الخيطان كالفسيفساء، التي كانت شائعة في زخارف أهل الشام، مما يحيل الى أصلها في الفترة البيزنطية. الى جانب عادات وسلوكات تقوم على نشر الريح الطيبة في البيت ومنها البخور.
ويفيدنا المعجم أيضا عن "الصخر" وهو إناء من خزف، وعن الكوب، والكوز، والابريق، الى جانب أمتعة كثيرة منها البسط والحصر والأرائك والوسائد،
والجواليق والفرش والطنافس.
ان يشير المعجم الى أن البيت "مزخرف " فإنه يعني صفة، من دون أن تكون كافية أو لازمة لتعريفه كضرب من البيوت، أما ان يشير المعجم الى أن هذا البيت "حصن " أو "قصر" فهو يورد نوعه البنائي حصرا. فماذا عن قائمة ضروب البيوت ؟ وماذا عن قائمة الصفات ؟
الى جانب الميدانين المتمايزين من البيوت وهما الميدان البدوى والميدان الحضري يمكننا أن نقترح صورة أوفى عن ضروب الاقامة وصفاتها هي :
1 - الرحل أو البيت المحمول : وهو الركب بناسه وحوائجه مثل الهودج والرجازة والحدج والمحفة : ومنها الخاصة بالنساء دون غيرها، ومنها ما هو أكبر وتدخل فيه الزينة.
2- البيت الحائل : وهو كل بيت يتمرن من مكانه، أو يتحول من موضع الى موضع ومن ضروب بيوت الأعراب الحائلة : القبة والمظلة والخباء، والبناء، والخيمة، والحفش، والخص، والأولج، والرواق، والثوي، والردهة، وتفيدنا تعريفات المعجم أحيانا عن مواد صنع هذه الابنية كالخشب والعيدان والفسطاط والأدم، أو تخبرنا التعريفات شيئا عما يعني وظائفها: فالثري للضيف والأولج للنوم.
3- البيت "القار" : وهو البيت الحضري أو "بناء القرار" المقرون بالسكن الذي وجدناه ملازما في المعجم لـ "الكراء" الملازم بدوره للاقامة في البيوت مقابل مبلغ من المال أي ما يعني في صورة وتلحق بهذا النوع من البيوت صفات ناتجة عن عمليات مخصومة مثل استعمال الآجر وطلاء الخيطان بالجص وتثبيت الفسيفساء بالخيطان أو شد الستور على الخيطان والسقوف. والصفات هي البيت "المزخرف " و" المزين " و"المنجد".
4- البيت المشيد: يحمل مواصفات البيت "القار" ولكن في صورة مزيدة ومقززة لأن منه : الحصن أو الصرح أو القلعة، أو القصر، أو العقر، وهي أبنية مطلوبة لمناعتها الشديدة بقدر ما هي مطلوبة كبيوت للأسياد والملوك.
5- بيوت الحرف والأمال : ومنها "بيت العطارين " وبيوت "النجاد" في الأسواق.
6- بيوت العبادة : ومنها الخاص بعبادة الأصنام مثل (البد) أو بعبادة المسيحيين مثل "صومعة الراهب " أو "بيت النصاري" الذي فيه صليبهم أو "الهيكل " وهو بيت للنصارى فيه ~ على حلقة مريم عليها السلام، أو بيوت العبادة عند اليهود مثل "محاريب بني اسرائيل " أو الخاصة بعبادة المسلمين مثل المسجد أو الجامع أو المحراب أو الكعبة وحرم مكة.
7- بيت الميت : ومن ألفاظه القبر والجنن والضرع والجدث واللحد والنعش.
8- بيت الاجتماع : في المعجم ضروب من البيوت الخاصة باجتماع الناس مثل : "النادي" للتشاور، أو "الفندق " للإقامة في السفر، و"الربض " لمسكن الجند، أو
"ابنية الحزق " كملجأ لأهل القرية، و"المشعر" أي موضع المنسك من مشاعر الحج، ومواسم أسواق العرب في الجاهلية مثل "عكاظ " الذي هو اسم سوق كان العرب يجتمعون فيها كل سنة شهرا يتناشدون ويتفاخرون ثم يفترقون، فهدمه الاسلام وكانت فيه وقائع.
9- مواضع اجتماعية مستحيزة : وهي مواضع ذات حدود بينة بل مرسومة تفيد التنقل بين البيوت المختلفة مثل أصناف الطرقات والسكك والدروب، بالاضافة الى مواضع معينة للتنزه مثل الحدائق والجنان والبساتين وخلافها.
10 - بيوت كبرى: مثل الحي والمحلة للميدان البدوي، والقرية والكورة والمدينة والمصر والبلد للميدان الحضري. ثم صار المسجد هو المكون المعماري للقوم في اجتماعاتهم، حيث أن البيوت باتت تنتظم حواليه،
11- بيوت الآخرة : يفيدنا المعجم في مادة قصب : "ولخديجة بيت في الجنة من قصب، لا وصب فيه ولا نصب أي لا داء فيه و عناء". كما نتعرف في مادة "عمد" على وجود "أخبية من نار ممدودة "، وفي هذه النبذات حديث عن مساكن لأهل السماء وأخرى لأهل النار، مما يعني أن الأرض لم تعد قائمة بنفسها، وليست هي منتهى البيوت، بل توجد غيرها مما لا يصيبها داء، أي الخالدة، ولا عناء فيها أي المريحة. ونقع في المعجم في معرض استشهادا ببعض الأيات القرانية، على صورة معمارية ناجزة لاكتمال مبنى السماء والأرض معا فـ "عمدها جبل قاق، وهي مثل القبة اطرافها على ذلك الجبل، والجبل محيط بالدنيا من زبرجدة خضراء، وخضرة السماء منه ".
12- بيوت الحيوان : ومنها "التمراد" وهو بيت صفير يجعل في بيوت الحمام لمبيضه، ومنه "المحاضن " الى جانب البيوت الخاصة بالغنم ومنها "الزرب " أو "الوطن ".
تعرفنا ؤ هذه القائمة الاثني عشرية على ضروب البيوت كلها، كما ترد في "كتاب العين "، غير أننا بقينا بعيدين عن انجازات عمرانية معروفة في زمن الخليل مثل بناء مسجد الصخرة أو المسجد الأموي، أو بناء قصور معروفة ؤ زمانه منها في مدينة البصرة : القصر الأبيض، والقصر الأحمر، وقصر النواهق، وقصر المسيرين، وقصر النعمان، وقصر أرس، وقصر أنس.
من هذه القائمة ينتقل بنا الخليل الى التعالق المعماري الناشيء بين السماء والأرض، وانكث في ميدان جديد للسكن هو السماء أو "دار الحرار" أو "دارالخلود" التي باتت تحدد السماء بوصفها "المحل "أي الآخرة لا "الاتحل " الذي هو الدنيا.
الصوت :
ومن الأسماء الجامعة الى جانب الدار ننتقل الى الصوت بضربيه اللغوي من جهة والغنائي من جهة ثانية. فإذا كانت الأصوات الأولى مشتركة بين البشر، فإن الثانية منها مختلفة تصاغ وفق "معالجات " مخصومة تقوم على وضع الأصوات في ألحان تحدث عند سامعيها حالات من النشوة والشجي والطرب.
فما نجده للصوت في "كتاب العين " تعيينات ثلاثة هي :
أ - الدلالة الفيزيائية _اللغوية.
ب - الدلالة الغنائية.
ج - الدلالة الصوتية -الدينية.
وهنا يفرق الخليل بين الحروف المجرومة والحروف اللينة التي لا صوت لها ولا جرس وهي الواو والياء والألف التي يسميها الحروف "الجوف " لأنها لا تخرج من الجوف ولا تقع في مدرجة من مدارج اللسان، ولا من مدارج الحلق ولا من مدارج اللهاة.
ثم أن الخليل لا يكتفي بالوقوف على مسار حدوث الأصوات في حروف، أي في ذاتها، بل يتعرض لحدوثها أيضا في ألفاظ وجمل، فيتوقف أمام الأعراض التي تصيب عمليات النطق مثل "التمتمة " و" التأتأة " و"الثعثعة " و"الخنة " و"الفنة " لينتهي منها الى تعيين صفات "الحسن " التي باتت تلحق وتقترن بالصوت والقراءة مما أدى الى التشابك بين الصوت الطبيعي والصوت اللغوي، وبينهما وبين الغناء وبين الفناء والحسن.
وقد عالج الخليل الصوت الطبيعي في المخاطبة الانسانية فرأى أن بامكانه أن يكون صوتا "خفيا" أو "هامسا" أو "رمزا" كمثل الايماء بالحاجب بلا كلام،كما عالج الصوت الصناعي على أنه "الضرب " أو "الطرق " أو "النقر" على آلة. ولكن هذا التعريف يبقى مقصرا عما جاء به الفارابي في كتاب الموسيقي الكبير، حيث يميز بين "تجويفات الحلوق وآلات التصويت الانساني" وبين "الآلات الصناعية " هذا الى جانب تمييزه في معرض آخر من الكتاب بين الألحان الكاملة المسموعة بالتصويتات الانسانية والألحان المسموعة من الآلات الصناعية وهذه هي الاستعمالات التي تتعلق بما "استلذ من صوت الطرب وتطويب الصوت " من دون أن يكون ضروريا كحاجة قائمة في الاجتماع الانساني.
واذا ميزنا بين "الضروري" و"اللذيذ" عرفنا أن "الضروري" لا يحتاج الى قواعد موضوعة بعكس "اللذيذ" وهو ضرب يحتاج الى صناعة وقواعد موضوعة مما فلقاه في أصوات الغناء والعزف والألحان.
ومما يقرره الخليل أن الشعر هو مادة الفناء الختارة، بل الوحيدة كما تنقلها الينا الأخبار الواردة في المظان. من هنا يأتي السؤال : الا يكون الفناء في أصل معالجة مخففة، لا تبتعد كثيرا في ايقاعها عن ايقاع الأبيات الشعرية المختارة للغناء، إن السؤال حول تاريخية التشارن والتقابل بين الفناء والشعر يشير الى اختلاف قديم يرقى الي العصر العباسي وقد عالجه أبو الفرج الأصفها ني في موسوعة "كتاب الأغاني" إذ أفادنا عن وجهتي نظر في المسألة:
- واحدة لأبي النضير (وكان مفغيا معروفا في زمن البرامكة ) يقول فيها أن الغناء يأتي على تقطيع العروض.
- وأخرى للموسيقي ابراهيم الموصلي، الذي كان يخالفه، ويقول بأن العروض محدث والفناء قبله بزمان.
فماذا عن الفناء ونشأته ؟ وهل يمدنا الخليل بواد تغيدظ في هذا المسعى؟ يمكننا اعتبار "الغناء" اسما جامعا لضروب من الأصوات بعينها مثل "السمع " و"النشيد" و"الترنم " و" الهزج " و"الزجل " و"الحداء" وغيرها، ولكن ما حقيقة الجمع هذه ؟ وهل يعني هذا أن الشعر هو في الأصل الغناء؟
يشير المعجم الى أن الشعر يقع في أساس غناء القوم، كما وأن نشأة الغناء كانت من الموضوعات القي تناولها الكثير من الرواة والنقاد ومنهم : يونس الكاتب في كتابيه "كتاب النغم " و"كتاب القيان "، وابراهيم الموصللي في كتابيه : "كتاب القيان " و "كتاب قيان الحجاز"، و" كتاب الأغاني على حروف المعجم " لحسن بن موسى النصيبي الذي د،ذكر فيه من اسماء المفنين والمغنيات في الجاهلية والاسلام كل طريف وغريب "، هذا الى جانب كتابي ابي أيوب المديني، وأحدهما عن قيان الحجاز عامة والآخر عن قيان مكة خاصة.. إلا أن هذه الكتب -وقد ورد ذكرها في "فهرست " ابن النديم
_ لم تصلنا منها سوى عناوينها. لهذا اخترنا أن نتوقف مه شر بل داغر أمام ما خلفته لنا المصادر من كتابات وأقوال ابن خرداذبه سواء في كتابه "مختار من كتاب اللهو والملاهي". أو فيما نقله عنه المسعودي في "مروج الذهب " إذ يقول : "كان الحداء في العرب قبل الغناء" ثم "اشتق الغناء من الحداء"، ويجمع غير مصدر من كتاب ابن خرداذبه ونقول المسعودي عنه بوجود ثلاثة أجناس متفرعة أو لاحقة على الحداء وهي: النصب (أو غناء الركبان والفتيان ) والسناد (وهو الفناء الثقيل ذو الترجيع ) والهزج (وهو الغناء الخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ).
ولكن ما هي الآلات التي كانت تصاحب أنواع الغناء هذه وهي "الآلات الصناعية " كما يسميها الفارابي ومنها: "المعازف " أو "الملاهي" أو "أدوات اللعب " وما الذي يعين أصواتها ؟ إن أصوات الآلات تتحدد بأفعال محددة خاصة بها هي "الضرب "
"القرع " و"النقر" و"الزمر" و" النفخ " وغيرها. ولكن السؤال كيف ندرج هذه الآلات في "كتاب العين "؟ وهل أنها تقوم على القوائم الثلاث التي ذكرها قدماء العرب ؟
يتحدث المعجم في معرض تعريفه بـ"الصولجة " عن وجود آلتين تسميان "الصنج ": واحدة تسمى "لصنج العربي"وتكون في الدفوف وغديرها والأخرى دخيلة ولها أوتار،. كما وترد في "كتاب العين " تعريفات عن آلات تحدث أصواتا بنقر الأصابع وهي "الألنجوج " و"اليلنجوج ". وهو العود الجيد، الى جانب آلات الزمر التي تعتمد على الفم نفخا وزمرا : "كالمستقة " و"المزمار" و"الزمخر" و"الكوبة " و"الناي" وغيرها.
أما الآن وبعد أن فوقفا بين الأصوات الانسانية التي تتعين في الفناء وبين الأصوات الصناعية التي تتعين في الآلات، فماذا عن عملية وضع الألحان وماذا عن صياغتها؟
انه سؤال لا يسعنا الاجابة عنه انطلاقا من المعجم بالرغم من أن الخليل يحدثنا عن ثلاثة أصوات تصاغ منها "الألحان "، حتى ولو لم نجد في المعجم سوى تعريف واحد منها وهو "الصوت الأجش ".
ومن فقر دلالة الألحان ينقلنا "كتاب العين " الى ضروب العزف حيث يميز المعجم بين استعمالين مختلفين للاسم المشتق من لفظ "عزف " بين "العزف " ويعني "اللعب " باحدي الآلات المحدثة للأصوات الصناعية، وبين "العزف " ويشير الى "ضرب من الطنابير يتخذه أهل اليمن ". غير أن كثيرا من الأسئلة تبقى معلقة دون جواب ومنها:
كانت هناك ألحان موضوعة خصيصا لهذه الآلة أو تلك، أو لغير آلة في آن ؟ وهل كانت هذه الألحان _ في حال وجودها ترافق الغناء أو تصاحبه ؟
أما عن صناع الغناء، فيشير المعجم الى "المغنية " و" المسمعة " و" القينة " و" الجارية " و" أصحاب الألحان ". وقد تداخل الغناء بالبغاء الى أن اختفت "القينة " لصالح "المغنية "، حين بات مرتبطا بالطرب وحده، بعد أن انفصل عن الحانات والشراب والمواخير.
ومن المفنين والمنفيات ننتقل الى الصوت - الاستهلال الموجود في مادة،أهل " المعجمية، وهو الصوت الديني اذا جاز القول أو "التهليل " وهو ضرب يقترح المعجم تسميته "بالترنم " أو "القراءة" لأنه يعالج الأصوات الخاصة بالأعمال الدينية ومنها "الأوراد" و" الآذان " و" الترجيع " و"التنحنح " وغيرها، وقد كان للنبي (صلى الله عليه وسلم) موقف ايجابي من الغناء الذي لم يحرمه بل قال فيه "ما بعث الله نبيا إلا حسن الصوت " أو كقوله : "زينوا القرآن بأصواتكم ".
وهكذا وجدنا أن "كتاب العين " أشار الى ضروب ومعالجات غنائية سابقة على الاسلام، وترسم في اختلافاتها- بين التنغيم البسيط والأشد تركيبا- مسارا تاريخيا لا يقل عمقا عن بدايات الشعر العربي نفسه، ولا عن عادات الترحال في الصحراء.
يبقى أن نشير الى مسألة أخيرة وهي أننا لم نقع في "كتاب العين " إلا على اشارة بسيطة الى الرقص وهي لا تفيدنا الكثير. ولكن ابن خلدون يقول إن الرقص نشأ في العصر العباسي في عهد ابراهيم بن المهدي العباسي، وكانت مارسته تتم في الولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو.
الشعر:
ومن الصوت والفناء والتهليل ينتقل شربل داغر في "كتاب العين " الى الشعر ليرى أن الخليل لم يطلق على الشعر صفة "الاسم الجامع " مما يؤدي الى اعتباره نوعا بعينه في صناعة الكلام. وقد جاء في "كتاب العينن" : "أن الشعر هو القويض المحدد بعلامات لا يجاوزها " أما "القريض فهو نطق الشعر وهو ما تم شطرا ابنيته من الشعر". وقد نرى في هذا التعريف مايشير الى أن بناء الشعر يتألف من شطرين وان له علامات لا يجاوزها، ما يعني أنه مصنوع كلامي له صفات لازمة.
وفي "كتاب الأغاني" أخبار تفيدنا عن أيام الشعر في الجاهلية، وعن "الأسواق " وخصوصا عن المواسم فيها. ولكن هل توصلنا هذه الأخبار الى ضبط شيء من تاريخ نشأة الشعر في العربية في صورة موثقة ؟ ليس الأمر هينا إذا عدنا الى عدد من التأليف القديمة التي تنشر مرويات عن أشعار آدم حين حزن على ولده وأسف على فقده كما يفيدنا المسعودي في "مروج الذهب ".
فـ "كتاب العين " يرفدنا بمعلومات عن قدم "الرجز، لأن الحادي كان "يرجز" خلف الابل، وهو النوع الأول في الغناء الذي يشير الى القربى القديمة بين الغناء والشعر، مما يدعونا الى تأكيد قدم الشعر، من دون أن نقوي في صورة حصرية على تعيين هدايته الأكيدة.
وقد نقع في المعجم على وجود ثمانية بحور شعرية هي التالية :" الرمل، المديد، المنسوج، الهزج، الوافر، الكامل، البسيط، والخفيف " من دون أن نجد أثرا للبحور المعروفة عن استخراج الخليل لها وهي " المنسرح والمضارع، والمقتضب، والمجتث والمتقارب " فكيف نفسر هذا الغياب ؟ وهل ان تسميات هذه البخور هي تسميات مزيدة ؟
إن ما قام به الخليل، لا يعدو كونه سعيا _"تنظيم " الكلام العربي وفق أطر وقوالب ذات معقولية برهانية، أو اجرائية. ويخيب عن بال الباحثين أن الخليل لم "يجد" النظرية التي قام عليها الشعر العربي، ولم "يسمع " بها من الأعراب الذين
شافههم،وانما استخرجها من أشعار العرب،، أي ان ما اقترحه لا يعدو كونه "صيغة تدوينية " لا الحل الحسابي المكتشف لمعضلة توصل الى تعيين مجموع أطرافها فالخليل لم يضع التكوينات والصيغ فقط، بل سعى أيضا الى وصف العلل الداخلة عليها.هذا ما سعى اليه الخليل، مثل لاحقيه،إلا أنهم لم يجدوا "القالب " التام لحصر أصول الشعر مثل جوازاته من دون عسر بين. فلقد عمل العالم البصري على استنباط البخور، وعلى صياغتها في قوالب تدوينية، بعد وقت على تحقق هذه البخور في نتاج الشعراء أنفسهم، مما يفسر التفاوت اللازم بين التحقق والاستنباط. إلا أن هذه الأنظمة على مصاعبها ونواقصها، تبين لنا، خصوصا في جهد الخليل العناية التحليلية والوصفية والتعيينية التي أصابت الشعر في هذا الطور وهي عناية تشير الى رفعة المكانة التي بلغها الشعر في عمل الخليل.
ومن البحر والعلل ينتقل الخليل الى القافية وفيها يقول "وسميت قافية الشعر قافية، لأنها تقفر البيت، وهي خلف البيت كله "، ومن تعييناتها "الروي" وهو الذي يحدد الحروف الواقعة في القوافي.
أما الحالات التي تعتور حروف القوافي، فمنها "الزحافات " التي تصيب البخور، وهي التالية "الاكفاء" وقد يني طب القوافي على الجر والرفع والنصب، أو الاختلاط فيما بينها، و"الايطاء" ويعني اتفاق قافيتين على كلمة واحدة، و"المتدارك " وهو ما اتفق فيه متحركان بعدهما ساكن، وهي تعيينات وتسميات نقع عليها في الكتب اللاحقة منسوبة الى الخليل، كما نلقي ذلك على سبيل المثال في كتاب "مفاتيح العلوم " للخوارزمي.
وفي مادة المعجم فبذات تفيدنا أن الشعر لحان ينقسم الى أنواع بعينها،منها النسيب والنقائض، والهجاء والمديح. هذا الأنواع لا تحصي مجموع الأغراض الشعرية في الشعر الجاهلي، لذا فإن شئنا الوقوف على موضوعات القصيدة العربية قبل الاسلام وبعده، كان من المحتم العودة الى "ديوان الحماسة " لأبي تمام، وهو كتاب جمع فيه صاحبه أثنى عشر غرضا هي: الحماسة والمراثي، والأدب، والنسيب، والهجاء، والأضياف، والمدح، والصفات، والسير والنعاس والملح ومذمة الناس.
ومن القضايا التي شغلت الخليل في معجمه قضية "النحل " وهي الادعاء بقول الشعر لغير قائله. وهذا شأن متوقع اذا عرفنا أن جامعي اللغة مثل الخليل وأقرانه تنبهوا قبل غيرهم الى هذا الأمر، بعد أن راعهم لجوء البعض في البصرة الى اختلاف الأمثال والأشعار، وادعاء نسبتها الى القبائل العربية في الجاهلية. وهكذا كان للخليل أن يتبنى أمر النحل، وهو يعايش لجوء البعض في عصره الى رضع "مجموعات " من الشر القديم، أو الى روايته، وما صاحب دلية هذه من صلية اقحام وزيادة وتزوير، كانت محل نقد ومعاينة العلماء. وقد أفاد جمع اللغة، ودراستها وتصنيفها، وهو ما فعله الخليل في مسألة "النحل " و"التدوين ".
وينتقل الخليل في حديثه عن الشعر،الى مادة واسعة تتصل بتعيين الجن وصلاتهم بالشعر والشراء، وذلك من خلال أصواتها ومواضعها. ومن أمثلة "كتاب العين " ان للجن موضعا بالبادية هو "عبقر"، ولها "منازل " "يكره النزول بها" فالشعراء يهيمون في هذه المواضع، لأن الشيطان يستهوي الشاعر، بحيث يصبح "حيران هائما". ذلك أن الشيطان "فتان " يخطر في قلب الانسان ويوصل اليه "وسواسه ".
ونعرف من المعجم أن عددا من الجن يلازم عددا من الشعراء مثل ابليس لامريه القيس ومسحل للأعشى. لذا يجمع الشاعر في صفاته، حسب المعجم، بين "العفرتة " و"الشيطنة " و" الخبث " الى جانب " الظريف الكيس ". والشاعر يسترق السمع للجن ويذهب للقائهم ويذيع وساومهم. ويسمي المعجم هذه العملية "بالختل " أو "الاستراق ". ولهذا كان تشكيك الاسلام بالشعر، وطلب القطيعة معه، بوصفه منبعا اعتقاديا وعدم اعتباره بالتالي مصدرا للمعرفة.
وفي نهاية الفصل الثالث الذي هو "فصل الشعر" نتوقف لنسأل شربل داغر مؤلف "مذاهب الحسن " عن "مذاهب الحسن الشعرية " التي لم نتبينها لا في "تعيينات الشعر" ولا في "أغراضه " ولا في "صناعته " ولا في "المنحول منه" أو "المدون ". ويلح السؤال حول شرعية مناقشة مسألة النحل عند "ابن سلام الجمحي" في كتابه "طبقات فحول الشعر" وروايات "حماد" الجامع الأول للشعر، الذي لا يعرف له كتاب، وشواهد ابن النديم في "الفهرست " و"مفضليات " الضبي و"اصمعيات " الأصمعي، و" جمهرة أشعار العرب " لأبي زيد القرشي، و" مختارات شعراء العرب " لأبي السعادات الشجري، مرورا بآراء بعض المستشرقين ومؤلفاتهم، بدءا بتيودور فيلوكه، وديفيا صموئيل مرجليوث، وصولا ال طه حسين "في الشعر الجاهلي " وانتهاء بناصر الدين الأسد في كتابه "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية "
والسؤال : لم هذه المجانية في إثارة قضية النحل، وهي مجانية ذات بعدين اثنين : البعد الأول وهو بعد اثارتها انطلاقا من معجم الخليل وهي اشارة لا تمت الى "مذاهب الحسن " بصلة، طالما أن الخليل لم ير الى الفرق بين المنحول والأصيل، ولم يقم المقارنة بينهما، ونقول انها "اشارة " لأنها لم تستغرق من الخليل ما استغرقته من مؤلف "مذاهب الحسن " من تبريرات واعتذارات، أدخلتنا في متاهة قضية المنحول، وكثرة التساؤلات حول صحة أو عدم صحة الشعر الجاهلي، وهي تساؤلات بقيت في حدود علامات الاستفهام والاستفهام والشك بعيدا عن إقامة الدليل أو الأدلة الدامغة
وننتقل من هذه المساءلة الى مساءلة ثانية وهي : كيف يبرر مؤلف "مذاهب الحسن " عنوانا أخيرا من عناوين الشعر وهو "الشعر والجن " وقد كان القرآن مقياسه. اذ عبر من "كتاب العين " الى "القرآن " يقارن بين موقفيهما من "الجن الوسواس " ومن الشاعر الموسوس له. وكأن القضية تحولت قضية أخلاقية لا قضية فنية، يعالج فيها الكاتب مذاهب شعر "موسوس به " وآخر،أغير موسوس به " دون أن يرى الى الفرق بين جمالية هكذا شعرين أو هكذا نموذجين ؟
هي أسئلة لا تجد أجوبتها في "شطحات " تفصيلية يعود اليها شربل داغر، ولا نجد في عودته تبريراتها الجمالية !!!
الدمية:
ومن الشعر ننتقل الى اسم جامع يورده "كتاب العين " ضمن مجموعات دلالية عديدة وهو "الدمية : الصنم، والصورة المنقشة " ويأتي تعريف الصنم مقتضبا في كتاب "العين ".ولكن تسمية الصنم تطلق على غير اسم مثل "مناة " و"هبل " و"يعوق " و"العتر" الذي يرد في مخيين، اختلف فيه "عن ما يقول الخليل : فهو قد يعني الذبح أو صنما بعينه، و"الدوار" وهو أن ينصبوا صنما ويجعلون موضعا حوله يدورون فيه.
ومن أسماء لأصنام المعلنة عند تريش : "إساف ونائلة "، و" اللات "، و"المناة "، "الهبل، و"ذوالخلصة "، ومن المعروفة عند قوم نوح "الود" و" سواع " وما قبل نوح "يعوق ".
وتنشيء هذه المعطيات المعجمية فيما بينها علاقات ترسم تواقيت تاريخ ما قبل نوح وما بعده وما قبل الاسلام، وما بعده. ونلحظ في تعريف "سواع " أقوالا تفيد أن أهل الجاهلية عرفوا هذا الصنم بعد أن،أغرقه الطوفان " وبعد "أن استثاره" ابليس لهم، وكأن الطوفان أغرق الصنم من دون أن يتلفه فعليا بل دفئه وحسب على ما يقول المعجم. أما في تعريف المعجم للصنم "يعوق " فنرى أن الشيطان أتى الى أحد الأقوام قبل نوح في صورة انسان فقال : "أمثله لكم في محرابكم حقي تروه كلما صليتم ".
غير أن لفظ "الصنم " في "كتاب العين " هو اسم نوع يقع تحته صنفان هما:
_ صنم الحلقة، أو "الوثن " كما نتحقق من ذلك في تعريف الهيكل المسيحي الذي نتعرف بين موجوداته على صنم مصنوع على "خلقة مريم ".
- والصنم الحجري أو "النصب " : يتصل بالعبادة بدوره،إلا أنه حجر منصوب ومعبود، من دون أية إشارة دالة على وجود صورة فيه انطلاقا من حلقة آدمية أو حيوانية.
الى هذين اللفظين يضيف المعجم لفظا ثالثا هو التمثال أو "الشي ء الممثل المصور على حلقة غيره ". وربما يعني هذا أن الصنم كان "تمثال" في البداية، أي قبل أن يتمادى الناس في تعلقهم به ويجعلوه إلها لهم.
وهنا ينتقل مؤلف "مذاهب الحسن " مرة ثانية من "كتاب العين " الى "كتاب الأصنام " للكلبي سائلا عن صفعة الأصنام وصناعها. وعن النحت وفنونه، وعن تسوية الخشب ومعالجة الذهب والفضة والعاج بحيث أن شاعرا مثل عدي بن زيد العبادي يقوى على تشبيه النساء الجميلات بدمى الكنائس :
كدمى العاج في المحاريب أو كالـ بيض في الروض زهرة مستنير
ونعرف من "كتاب الأصنام " للكلبي لا من "كتاب العين " للخليل، أن التماثيل كانت معدة ومعمولة على شط جدة، وان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما دخل مكة يوم الفتح وجد بها 360 صنما "مرصصة بالرصاص " كما يقول المقريزي.
لكن الخليل لا يخبرنا عن الحملة التي قام بها الرسول في مكة لتكسير هذه الأصنام أو حرقها.
ومن "كتاب الأصنام " للكلبي ينتقل شربل داغر الى كتاب "الاكليل " للهمداني وفيه حديث عن مغارة متقادمة فيها تمثالان عظيمان "قد مسخهما آلله جل ذكره حجرين، وهما في صورة قينيتين، ففي حجر احداهما عرطبة - أي طنبورة - قد مسخت، وفي يد الشمال مزمار ممسوخ " وهو وصف يعني فعل "النحت " على أنه فعل مسخ، إلا أنه يفيدنا عن وجود قينيتين وصورتين. وهو ما نتأكد منه أيضا في تماثيل الجواري النائحات على قبر حاتم الطائي، التي ورد خبرها في "مروج الذهب " منقولة عن منصور الطائي.
ولما كانت الشواهد الشعرية أو المرويات قليلة في الدلالة على فن التماثيل، فإن الكشوفات الأثرية التي أجراها عدد من المستشرقين في العقود الأولى من هذا القرن، في الجزيرة العربية ولاسيما في القسم الجنوبي منها، ثم الدراسات الحفرية التي قامت بها بعثة سعودية تحت اشراف عبدالرحمن الطيب الانصاري ؤ السبعينات من هذا القرن في قرية "الفاو" ساعدتنا في معرفة ما كانت عليه صناعة التماثيل في الجزيرة العربية قبل الاسلام.
وتقع في هذه التماثيل على ضورب مختلفة، يعود بعضها الى القرنين الأول والثاني قبل المسيح أو القرنين الثالث أو الرابع بعد المسيح، أي الى فترة تاريخية واسعة عرفت فيها الجزيرة العربية عهودا رومانية في الحكم، واتصالات وثيقة ببلدان أخرى مثل الجزر اليونانية أو مصر أو بلاد فارس. وهذه التماثيل صغيرة الحجم غالبا لا تناسب الحجم الطبيعي للانسان، ولكن "يظهر أن اعتبار كثير من الناس للتماثيل أصناما قد أدى بهم الى اتلافها والقضاء عليها".
ولما كان الاسلام قد حرم في عقيدته وممارسته تصوير الحلقة الآدمية وتمثيلها، يبقى لنا فن تزويق الكتب أو "فن المنمنمة " الى جانب الصور والتماثيل المكتشفة في القصور الأموية وهي صور وتماثيل تدور حولها أسئلة كثيرة هل هي "اسلامية " أم أنه كانت موجودة في القصور الأموية وحسب ؟ وهل كانت معمولة من قبل صناع "مسلمين " أم من صناع "مسيحيين " عرب ؟ ومنها خاصة التماثيل التي تم اكتشافها في قصر "المشتى".
ومن بعثات المستشرقين والعرب ينتقل شربل داغر الى الباحث المصري أحمد تيمور في كتابه "التصوير عند العرب " الذي جعل من التماثيل فرعا من فروع التصوير، ثم عاد ليصنفها ويميز بين التماثيل "الثابتة " و"المتحركة ".
فمن التماثيل "الثابتة " ما أشار اليه "كتاب العين " "بالدوار" أو الصنم الذي كانت العرب تنصبه، "ويجعلون موضعا حوله يدورون فيه " وربما كان من أصنام مكة "المرصصة " بالرصاص.
- أما التماثيل "المتحركة " فمنها "اللعب وتماثيل الصبيان " و" تماثيل خيل مسرجة " و" تماثيل الحلوى" و" تماثيل الحقول " وغيرها.
ثم يعود شربل داغر لينتقل من الصنم الى الصورة المنقوشة يرى أنه انطلاقا من "كتاب العين " فتتحقق من وجود أربعة ضروب من الصور : الصور على الحيطان، والصور على الثياب والصور على السيوف والصور على الفصوص.
واذ لا تفي مادة "كتاب العين " في تعيين هذه الصور يعود
شربل داغر ثانية ,الى كتاب أحمد تيمور "مستنده " في ضورب التماثيل، ليجعل منه مستنده في تصنيف ضروب التصوير على الجدران، وعلى الثياب، وعلى الستور، وعلى الخيام، وعلى الأقداح والأواني والمصابيح، ليفيدنا في شرحه أن هذه الصناعة لحانت فارسية. وربما أن العرب احتذوا مثال الفرس في تصاويرهم عند اقتباس هذه الصناعة عنهم.
ويأتي بعد ذلك التصوير على الأثاثي كما على باب أو وسادة، الى جانب التصوير على السلاح والنقود والشارات والبنود والكتب والصحف والألواح.
والسؤال الذي نطرحه على شربل داغر هل نحن بصدد رصد تطور الفنون عند العرب أم أن "الاحالات الموضوعية " يجب أن تقتصر على "كتاب العين " وهو موضوع الدراسة : خاصة وأن شربل داغر سوف ينتقل من الأصنام والصور المنقوشة الى الصنعة والصناع والمواد والأدوات التي لجأ اليها الصناع ولم تكن مدار بحث في "كتاب العين " باستثناء اشاراته الى الأصباغ والألوان، إذ نقع في معجم الخليل على قائمة متنوعة من الأصباع المستعملة في التصوير على حوامل مادية مختلفة كالحجر والجلد والقماش. وهي أصباغ مأخوذة من النباتات مثل ددالزريردد و"الوارس " أو من الأشجار "كالسلم " و" الشرف " و"الايدع ".
أما اللون على ما يفيد "كتاب العين " فهو لفظ مشتق من اللينة ويعني كل لون من النخل والتمر. ثم يتوسع الخليل في "كتاب العين " ويشير الى ألوان الحلقة الانسانية مثل الرجل "الأمعر" اللون، وهو لون يضرب الى الحمرة والصفرة وهو أقبح الألوان " والرجل "الأمغر" وهو الأحمر الشعر والجلد. والمرأة "النعجاء"، "أي الشديدة البياض. هذا الى جانب "البقع " وهي "ألوان يخالف بعضها بعضا" و" الكميت " وهو "الون ليس بأشقر ولا أدهم ".
وهكذا فإن مادة "كتاب العين " اللونية وفيرة وهي مادة تناولتها دراسات عربية كثيرة منها د،الألوان في معجم العربية " لمؤلفه عبدالكريم خليفة الى كتاب "الخيل " لأبي عبيدة معمر بن المثنى المثيمي.
أما عن التصوير الاسلامي، فلا نجد في " كتاب العين " معلومات دالة على ممارسة التصوير في العهود الاسلامية، ولكن نقع على أقوال تعين التماثيل بوصفها صورا ومنحوتات في آن، لأن المعجم ينطلق من علاقات التقابل والمقايسة طلبا للتشابه أو التطابق بين شيشين قد يكونان متعادلين أو متزامنين، وهو تقابل كان يؤدي في المعتقد الجاهلي الى اعتبار التمثال أصلا لا شبها عن صورة.
وقد أورد الخليل في "كتاب العين " النهي عن التصوير في الاسلام، وتحدث عن العقوبات اللاحقة بالمصورين فيما لو استمروا في التصوير "ان أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون " ود،من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ".
وبالانتقال من "الصورة " الى "الدمية " ودلالاتها يقول "كتاب العين " عن صنم "إساف ونائلة " : "إساف اسم صنم كان لقريش. ويقال إن اسأفا ونائلة كانا رجلا وامرأة دخلا البيت فوجدا خلوة، فوثب إساف على نائلة فمسخهما الله حجرين ".
أما فيما يتعلق بهذه الأصنام والأوثان ومواضع عبادتها، فهناك اشكالية الأصيل والدخيل - المعرب. وقد نقع في تعريفات "كتاب العين " على لفظ "البد" بوصفه لفظا دخيلا ومعربا عن "بت " الفارسية، ويشير الى "بيت فيه أصنام وتصاوير" أي أنه يعني ما يسميه الكلبي بـ "الطاغوت ". كما أن لفظي "وثن " و" صنم " هما من أصل غير عربي على ما يعتبر المستشرق فرا نكل.
ويبقى لفظ "الدمية" الذي يدل على التماثيل المصورة، والمسيحية على الأرجح مثل حديث عدي بن زيد عن "دمى العاج في المحاريب " أو الدمية التي فتنت قسها في بيت أبي العتاهية، أو دمية المحراب عند أمية بن أبي عائذ، أو الدمية التي "زينت بها البيع " اي الكنائس في بيت للأخوص. ولعل هذه الدمية هي السيدة العذراء، التي يذكرها "كتاب العين " خاصة وان الكنائس تحفل بها حسبما يتضح من وصف ياقوت الحموي لمحتويات عدد من الأديرة. وهي دمى كانت من عاج أو مرمر و" مذهبة " أيضا، حسبما تشير أبيات للأعشى وعبدالله بن عجلان وسلمى بن أبي ربيعة.
أخيرا ان حمولات معاني التماثيل والصور والدمى تعين تعايشا وتنافرا بين دلالات جاهلية وأخرى اسلامية : حمولات ترى الى الصنيع الفني المختلف الذي يقوم به عدد من البشر على أنه "العجب العجاب "، وأخرى ترى اليه على أنه من صنيع قدرة غير انسانية، بل خافية عليه وشريرة، هي قوة الشيطان.
فهل هذا يعني أن الصور لم تعد ممكنة إلا عند الواحد الأحد وأن غيرها أطياف، هل يعني هذا أن الخلق الجميل لم يعد موجودا إلا في كتابه "المبين " وان غيره وساوس ؟ لأن الابداع هو ابداع من دون أصل ومن دون طيف، وقد تعين عالمه على أنه عالم الحق والجمال المتحقق عند "المصور" الواحد الأحد.
الشارة :
ومن الدمية الى "الشارة " يقودنا "كتاب العين " الى التعرف على مجموعات دلالية متعلقة بالجسم البشري بوصفه موضوع تحسين ومعالجة من خلال "الشارة " التي تعني الهيئة واللباس الحسن. فكيف للجسم أن يكون أحسن في مظهره ولاسيما باللباس ومواد الألبسة ؟
في المعجم تعريفات بألبسة عديدة، وتتضمن مواد دالة على صنعها منها : "الصوف " الذي يرد في قائمة المواد الأكثر استعمالا في الألبسة وهي: "المدرعة " و"القرام " و"الخميصة " و"الخملة " و" الكوارة " و"القهز" و"الأخريج ".
ويلحق " الكتان " بـ "الصوف " ونجده في الملابس التالية : "الخيش " و" القصب " و" القنب ". والى جانبه الحرير ومنه "السرق " وهو أجوده أو الدمقس أو الخز أو "الرقم ". ويضاف الى هذه المواد القطن والفراء، والوبر، والسلوك أو الخيوط التي تخاط بها الثياب.
أما مواضع صناعة هذه الملابس فمنها اليمن، ومصر ومكة، والعراق، وارمينية، وبلاد فارس، والهند، والصين، وهي بلاد فثر فيها الصناع : فمن الحائك الى الناسج والخياط والقصار وصولا الى الرجل المطرز.
وقد نقع في المعجم على مواد تعين لنا ألبسة مخصومة، سواء للقامة، أو للرأس،أو للبدن، أو للجسم في هيئته الظاهرية ما يحدد تصورا شديد التبلور للباس.
فمن ألبسة الرأس الخاصة بالمرأة "البرقع " أو "النصيف " أو "الخمار" و" القناع " و" المقنعة" و"اللفاع " و" النقاب " و"البنجنق ". أما لباس الرأس للرجل فهو لباس واحد، يقع في خصوصية اللباس العربي وهو "العمامة ".
هذا للرأس، أم الغلالة فهي ثوب للبدن خاصة، ويلحق بها "الشعار"، وهو ثوب يلي الجسد دون ما سواه من اللباس، يضاف اليه "الأتب " وهو ثوب ذو كمين، أو "الخيلع " وهو ثوب بدون أكمام. ومن ألبسة بدن الرجل نقع على "البتابين " و" السراويل " و" القمصان ".
ومن الألبسة التي يلبسها الرجل في البيت فقط هناك "الفضال "، أو ما يكون رأسه ملتزقا به مثل "البرنس ".
وفي المواد المعجمية أسماء ألبسة يتم تعيينها على أنها للجنسين معا وهي
"الازار" و"العباية " و"الملحفة " و"الجبة " و"المطرف ".
وقد أشار المعجم الى ألبسة معينة لليد "كالقفاز"، أو للقدم مثل "الخفاف " أو "النعال السبستية " أو "الخفاف المحررة ". ولكن السؤال يبقى حول الثوب الحسن والبرود اليمنية ذات المواد النادرة كالحرير والدمقس والخز، والتي يؤتى بها من مواضع بعيدة كالهند، وتكون مصبوغة وملونة بحيث تؤدي مباغتها الى عمليات "تمويه " و"خداع "، كثوب "الكذابة "، أو الثياب الموشاة "بصور الطيور"، و"الترابيع الصغار" و "المضلعة " و"المخططة " وخلافها.
ولما كان الكساء من أقدم الهواجس التي شغلت بال الانسان، فإن ألفاظا دخيلة معربة نقع عليها في المعجم ويتعذر علينا تعيين أصولها. لذا لجأ مؤلف كتاب "مذاهب الحسن " الى انتهاج سبيل اضافي، قام على اجراء مقارنة بين قائمتين للألبسة ترد الأولى في كتاب عن الألبسة الجاهلية "الملابس العربية في الشعر الجاهلي " ليحيى الجبوري، والثانية في كتاب عن الألبسة العباسية "الملابس العربية الاسلامية في العصر العباسي من المصادر التاريخية والأثرية " لصلاح حسين العبيدي.
وقد انتهى شربل داغر من المقارنة بين هذه القوائم الثلاث الى ورود عشرات الأسماء من الألبسة في "كتاب العين " مما لم يجد له ذكرا في القائمتين الجاهلية والعباسية وهي الألبسة الآتية "البرنكان "، و"الجهرمية "، و"الجوب "، و"الحبوة "، و"الحنة "، و"لخافة " و"الخصف " و"لمخموس " و" الخنبعة "، و" الخوخة "، و"الخيش "، و"الدرقل "، و"ديابوذ"، و" الرادعة "، و" السكب "، و"السند"، و"الشطوية "، و"الشليل "، و" الشملة "، و"القبطري"، و"القطيفة "، و"القفاز"، و" الكذابة "، و"الكرباسة "، و" المشملة "، و" المضلع "، و" المفلفل "، و"المقطعات "، و"الممرجل "، و"النشاش ".
وهذا يعني أن الثياب التي توصل شربل داغر الى تعيينها انطلاقا من "كتاب العين " قد ساهمت في تعيين عدد أوسع من الألبسة العربية التي ينفرد بذكرها هذا المعجم والتي لا يوجد لها أثر في المعاجم اللاحقة.
إذا كانت هذه هي الحال مع اللباس وتعييناته، فماذا عن الحلي، والهيئة الحسنة القي لا تقل قيمة عن اللباس في تحسين الظاهر البشري؟ وهل تختص المرأة بالحلي دون الوجل ؟
هناك نوعان من الحلي : واحد مخصوص بالمرأة والآخر بسلاح الرجل. ومن المعروف أن حلي المرأة تصنع غالبا من الجواهر والأحجار مثل الخرز والذهب والفضة والنحاس واللؤلؤ والدر والياقوت والمنا قف أو الأصداف.
وهناك حلي للرأس مثل العصبة أو الأ كليل وأخرى كالمعاليق والحلق والأقراط للأذن، وأخرى للعنق والصدر مثل العقود والقلائد والتمائم وأخرى لليد مثل الخاتم أو الأمورة وأخرى للوسط مثل الزنار للثياب، والتلة للسراويل، وأخرى أخيرة للقام وهي الخلخال.
وتلحق بحلي النساء تحلية السيوف للرجال، لأن العرب كانوا يعتبرون أن حلية الرجل هي السلاح عموما، والسيف خصوصا.
أخيرا، يأتي دور العطر في السلوك الاجتماعي وتحسين الهيئة فنتعرف من خلال "كتاب العين " الى حرفة العطارة والعطارين في إعداد وبيع العطور والأدهان التي منها: الزعفران والطيب والفار والمسك والكافور والعبير والياسمين والمحلب وهي تستعمل إما للطفح على الجسم واما لتطييب الثياب ورقرقتها.
هكذا بينت لنا دلالات "الشارة " في "كتاب العين " الجسم في قامته "كقطب " يستدعي سلوكات في اللباس والتجمل والتزين بوصفه موضع استحسان في النظر أو في الشم.
الكتابة:
ونصل الى الاسم الجامع والأخير في كتاب مذاهب الحسن وهو "الكتابة " أو الصنيع الانساني الذي يجعل من التدوين عملا مخصوصا لا يقتصر على التسجيل وحسب، وانما تلحق به وتعينه صفات مستحسنة انطلاقا من الكتاب الديني مرورا بكتابة العهود والمواثيق الرسمية وانتهاء بكتابة المصنوعات اللغوية.
وقيل أن "أهل الأنبار" وضعوا الخط العربي، وبعضهم قال : أول من وضع الخط العربي نفر في طيه بن بولان. وجاء في كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه : "ان أهل الحيرة أخذوا الخط العربي عن الانبار وقاسوا العربية على هجاء السريانية ". أما عفيف البهنسي في كتابه "الخط العربي" : أصوله نهضته، انتشاره فيرى أن نشأة الكتابة العربية ترد الى ثلاث نظريات :
1- نظرية تقول إن أصلها يرقى الى الكتابة السريانية الخيرية.
2- نظرية ترى أن الخط مشتق من الخط المسند الحميري، أو من فروعه التي عرفت عند الثموديين والصفويين واللحيانيين.
3- ونظرية ثالثة تقول إن الكتابة التي ظهرت في جبيل انتقلت الى الآراميين، ثم استعمل الانباط الكتابة الآرامية وطوروها وامتد تطورها الى العربية.
ولكن ماذا عن "كتاب العين " وتعيينات "التدوين " و" الكتابة " فيه : قد لا نقع في "كتاب العين " إلا فيما ندر على لفظ "دون " ومشتقاته، فيما نقع على عدد كبير من مشتقات الفعل "كتب ". وفي المعجم فبذات تشير الى "كتب " اليهود والمسيحيين الدينية، الى جانب صانعي هذه الكتب وهم "السفرة " أو "الكتبة " ومنهم الشاعر ورقة بن نوفل الذي "كتب بالعربية من الأنجيل ما شاء أن يكتب ".
ونجد في المعجم معنى آخر "لكتب " هو المتصل بتدوين الاتفاقات وكتب المواثيق والأحلاف التي منها "حلف خزاعة" و" حلف اليمن وربيعة " و "صحيفة قريش " واذا كان المعجم قد ميز بين " الكتاب الديني" و" الكتاب الرسمي" فقد أشار الى صنف ثالث وأخير دعاه،"الكتاب المنمق " المتميز بعمليتي "الترقيش " و "التنميق " مما يفيد عملية التحسين في هيئة الكتابة المرئية.
وفي المعجم فبذات ترسم في صورة أساسية وحاسمة "التنزيل " القرآني ثم "جمعه"، في كتاب : تفيد هيئة المادية أدان له دفتين.، أو" ضمامتين من جانبيه " وله "عرى" تشده "هي الشرج " فيصان من التفرق. وهو يتألف من "آيات الله "، والآيات تؤلف سورا بعينها، ولها "فواتح " أي أوائل و" خاتمات ". ولكن السؤال ما التأثير المتمادي على الشكل "الحسن " المرئي للكتابة العربية ابا وما المقصود بعملية الجمع هذه ا!
السؤال جدير بالطرح بعد أن علمنا من المرويات عن الصحابة أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سارع غير مرة وطلب من أحد كتابه تدوين ما بلغه من الكلام المنزل. إلا أننا لم نقع بالمقابل على أي حديث يفيد طلب الرسول أو رغبته في ضم جميع السور والآيات في "كتاب " واحد، فما سبب ذلك ا!
لقد استدعت عملية ايصال القرآن الى أوسع فئات المسلمين، وفي كيفية واحدة منسجمة عملية جمعه وتدوينه، ال جانب احداث علامات جديدة مانعة للبس في النطق والفهم، وهي ما سمي بعلامات "الشكل والأعجام " التي بدأت مع أبي الأسود الدؤلي وانتهت مع الخليل نفسه مرورا بيحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي.
هذه التعيينات الأولى المتصلة بالقرآن، تضاف اليها مواد أخرى دالة على الكتابة في العهد الاسلامي، فما هي :
من المواد الجديدة التي عرفتها الكتابة في العصر الاسلامي مواد مجلوبة مثل "القرطاس " الذي يتخذ من بردي مصر و"الكاغد"، الخراساني، و" الورق " الذي عرفه العرب بعد غزو أرمينيا، و" ورق المصاحف " المصنوع في الدها. ونتبين في هذه المواد المعجمية مجالات جديدة للكتابة منها :
1- الدواوين : مجال يعين الكتابة بوصفها العمل قرب الخليفة أو الوالي.
2- الوراقة : وهو "النسخ " أي "نقل " مادة كتاب وتدوينها على حامل جديد من دون إخلال أو تعديل أو زيادة على النص المنقول.
3- الكتاب : مجال يعني نوعا من الكتابة خاصا بالغلمان والصبيان.
أما مواد الكتابة الأولى وأدواتها فقد كان منها "اللخاف " أي الحجارة البيض الرقاق، والألواح وهي كل صحيفة من صفائح الخشب، والعب والكر انيف والعظام والجلود والأقمشة ولحاء الشجر والفخار والخزف والبردي والكتان، خصوصا في مصر.
وقد كانت أول بردية كتبت بالعربية في مصر الاسلامية بقلم حنا المعدة والشماس وأبي حديدة. ونتبين من هذه الاشارة الدور الذي لعبه الأقباط، اذ كانوا الصناع في مراكز انتاج أوراق البردي كما أشار الى ذلك المقريزي في "الخطط ".
وقد نتبين في "كتاب العين " شيئا من الأدوات المستعملة في الكتابة ولاسيما "القلم "، فهو الأداة الأساسية للكتابة مع "المداد" أو "الحبر".
ونتعرف الى جانب "البرديات " على "الكتابة على المسكوكات " ولاسيما مع العملات التي كانت تحمل على صفحاتها كلمات من مثل : "بسم الله " في الفترتين السأسانية والأموية.
وتتبع الكتابة على المسكوكات الكتابة الفسيفسائية التي توجد على قبة مسجد الصخرة والتي يبلغ طولها 240مترا. وأخيرا تأتي الكتابة على المنسوجات التي تشتمل على أيات قرانية وعبارات إهداء ذات خطوط متنوعة.
وقد أفادتنا مواد الكتابة عن صفات "مستحسنة " وأخرى "مستقبحة " في هذا الفن مثل "الطلخ " وهو إفساد الكتاب، و"الطلس " ويعني الكتاب الذي "محي ولم ينعم محوه " و" التدميج " ويعني "إفساد السطور بعد كتابتها". أما المؤشرات الايجابية فمنها "التحبير" وهو "حسن الخط " و"التحرير" ويقوم على "اصلاح السقط ".
أما الخط الذي يشير اليه "كتاب العين " فهو "خط الجزم " : وهو الخط المتساوي الحروف، ويتضح أنه خط ضخم المقاسات، متحدر من الخط النبطي والسرياني في آن معا.
ومن المعروف من الممارسات التحسينية التي أضيفت الى صفات الكتابة المستحسنة : زخرفة الجلد، وتغليف المخطوطات، وهي تحسينات كان أغلب صناعها رهبانا في الأديرة القبطية.
أما عن عمليات التزويق التي ذكرها "كتاب العين " فنحن نجد : "الترقين " و"التزيين " و" التنيق " "النمنمة " و" النقش" "التنميل".
وهكذا التقت ندرة الكتابة كفعل مادي تعوزه المواد الصالحة والمتينة للتدوين مع أمية الجماعات في العهود الأولي، ومع تأكد القرآن ككتاب، وأدت هذه العوامل كلها ال جعل الكتابة محل عناية خاصة، مطلوبة ومستحسنة : جعل الكتاب في شكله وهيئته "لائقا" بل مناسبا لأصله العلوي.
الى هفا يمكن القول إن شربل داغر يقدم في الفصول السابقة من الكتاب عرضا منسقا لـ "الفنون " مستندا الى ما حفظه المعجم من معلومات ومعطيات ودلالات واعتقادات والى معطيات التاريخ نفسها عن هذه الفنون. إلا أن الحديث عن "الفنون " لا يجيب تماما عما أراد عرضه، أو تسميته، ذلك أنه يلاحظ في الفصل السابع، الموسوم بـ "نعوت الصناعات "، ان اطلاق لفظ "الفن " وفق المعنى
الساري حاليا في الكتابة العربية، أي الصنيع الدال على المنتجات البصرية الجميلة تخصيصا، يرقى ال مطالع القرن الجاري، لا الى قبلها، وهو ما دفع به الى النظر الى مسألة "الحسن " (أو الجميل ) نظرة تبعده عن التقسيمات والتصنيفات الجارية ذات الأساس الأوروبي، بعد أن لاحظ أن تصنيف الفنون الأوروبي تغير على مر العصور : بين "فنون عقلية " وأخرى يدوية في عصر، وبين فنون جميلة وفنون تشكيلية في عصر آخر وبين الحديث عن دخول فنون جديدة الى قائمة التصنيفات هذه مثل "الفن السابع " أي السينما.
وهذا ما جعل داغر ينظر الى الفنون من وجهة تاريخية مربوطة بالثقافات أي انها لا تحدد بمحددات "جوهرية " بالتالي، ولا بمباديء فلسفية مفصولة عن المحددات التاريخية والثقافية والاجتماعية هذه. وفي ذلك يساهم في نقد النظرية الجمالية في هبناها التأسيسي. ويدعو بالتالي الى قراءة "أناسية " (انثروبولوجية ) للصنيع الفني "الحسن " (أو الجميل ). وهو ما يطبقه على حاصل القراءات والخلاصات في المجاميع الدلالية الستة، أي أنه ينظر الى "الفن " بوصفه عملا، وخبرة، وصيفا، واقعة في جملة الأعمال الاجتماعية التي يقع فيها التمايز والأسبقية على الجودة، كما يقع فيها التنافس على الحيازة (حيازة "الذخائر) كما تقول العربية.
ويتوصل داغر في المراجعة هذه الى الوقوف على حقيقة المكانات الاجتماعية والاعتبارية التي فازت بها "الفنون " أو الصناعات في الزمن العربي - الاسلامي المدروس، فيجد أن الشعر يحتل أعلى المكانات أو المراتب هذه، بل يبدو الحسن بعينه فيما تتدنى مكانات الفنون الأخرى، على أن بعضها (مثل التصوير والتمثيل ) لحقه المنع في عدد من شواغل الفكر والتصنيف في تلك الحقبة اعتنت بعلوم دون علوم (أو ما محضتها رتبة العلم )، وميزت فنونا عن فنون (أو ما محضتها رتبة الفن )، ويتأكد من أن الاهتمامات والشواغل هذه لا توافق ترتيبنا الحالي للعلوم والفنون في آن. لهذا يمكننا القول إن الحسن الاسلامي كان موجودا في الأعمال، في التنافسات الاجتماعية، في التسابقات بين الصناع أنفسهم، وف الصفات التي طلبها الصناع في المصنوعات نفسها، وفي النظرات الجمالية التي ثمن بها كتاب وفلاسفة هذه المصنوعات المختلفة (من القصائد الى المنسوجات الى التزويقات وغيرها)، لكن هذا الحسن الاسلامي لم يكن موجودا في متن خاص، وفق الصورة التي تجمعه فيها في أيامنا هذه نقلا عن الأوروبيين، ولا في الترتيب الحالي المعتمد للفنون هذا.
ثم يعرض شربل داغر في الفصل الأخير الموسوم بـ "مذاهب الحسن " حاصل القراءات هذه على تاريخ المذاهب والاعتقادات الفلسفية والدينية في الحقبة المدروسة، بين اغريقية ومزدكية ويهودية ومسيحية واسلامية فيتحقق من وجود مساع في النظر التحليلي والتقويمي تبدأ في القرن الرابع قبل المسيح في الفكر الاغريقي، وتقوم على جعل فكرة "الجميل " تنفصل عن الحسي والمرئي صوب المجردات والذهنيات والعلويات، هو ما يبلغ في "الحسن الاسلامي" صيغته الأعلى والأبعد، إذ يجعل الحسن خارج الدنيا والبشر والمصنوعات، وأن نرى في مصنوعات البشر الدنيوية العينات المادية العقلية لما كانوا يعلون من شأنه ويجعلونه خارج التداول والمعاينة.
أمينة غصن (كاتبة وأستاذة جامعية في لندن)
أمينة غصن (كاتبة وأستاذة جامعية في لندن)
إذا كان الرابط لايعمل لسبب ما, فالرجاء البحث في مجلد الكتب المحملة حتى اليوم:
http://www.mediafire.com/#ms1dzyv1tns14
or
http://www.4shared.com/folder/QqJXptBS/_online.html
في هذا الكتاب صفحات ناقصة (483-...) و شكرا جزيلا على الجهد
ReplyDelete