«اللغز الأنثوي» الذي صدر عام 1963 لم يفقد راهنيته في هذه البقعة. عمل المناضلة النسوية الأميركية انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (دار الرحبة ـــ دمشق، ترجمة عبدالله بديع فاضل) كأنّه يحاكي المرأة العربية وهمومها. ما صار منسياً في الغرب، نعيشه هنا بامتياز تحت وقع الإعلانات التلفزيونية التي تمجّد «ربة المنزل»
بعد مرور نحو خمسة عقود على صدور «اللغز الأنثوي» (The Feminine Mystiqueـــ 1963) للمناضلة النسوية الأميركية بيتي فريدان (1921 ـــ 2006)، لم يفقد راهنيته عربياً. الكتاب الذي صدر أخيراً في نسخته العربية (دار الرحبة ـــ دمشق، ترجمة عبدالله بديع فاضل) يلقي بظلاله على هموم المرأة العربية اليوم، فما صار منسياً في الغرب، نعيشه الآن هنا بامتياز، تحت وقع الإعلانات التلفزيونية التي تمجّد «ربة المنزل» وحدها. كانت المرأة الأميركية ـــ وفق بيتي فريدان ـــ تحسّ بأنها شخصية منحرفة وعصابية، لمجرد أنها لم تشعر بالنشوة، وهي تلمّع أرضية المطبخ. كان مجرد التفكير بأنّ الحياة يجب أن تنطوي على ما هو أكثر من تحضير فطائر الزبدة، والغسيل ناصع البياض، ترفاً فائضاً عن الحاجة، فما بالك بالذهاب إلى العمل خارج المنزل؟ ذلك أنّ ارتكاب هذه «الخطيئة»، ذنب لا يغتفر، ففيه «خيانة للأنوثة وتقويض للذكورة».
حقوق المرأة المهدورة ونضالها من أجل استردادها، هما المحوران الأساسيان اللذان يتبناهما هذا الكتاب، على ضوء استبيان استهلك جهد خمس سنوات من العمل، أجرته الكاتبة على زميلاتها في الدراسة بهدف معرفة مصيرهن بعد الدراسة. وإذا بها تقع على مآسٍ غير مرئية، كانت تعيشها المرأة الأميركية، على هيئة عقد نفسية، وذوات تائهة، وغضب مكتوم أو «مشكلة لا اسم لها». الحيرة بين أن تكون المرأة ربة منزل تجيد طبخ الحلزون بخبرة الطهاة، وتعتني بأنوثتها، وكيف تجعل الزواج أكثر إثارة من جهة، وكيف تشفق على النساء التعيسات اللواتي أردن أن يكنّ شاعرات أو فيزيائيات، أو مستقلات، من جهة ثانية.
أصبح المطبخ جنّة المرأة، بدلاً من متاعب الحياة المهنية. أما المشكلة التي لا اسم لها، فستتكشف تدريجاً عبر مشاعر الخواء والنقص والتلاشي، خصوصاً بالنسبة إلى نساء الضواحي البعيدات عن صخب المدن. وإذا بربة المنزل السعيدة، كما كانت تروّج لها المجلات والإعلانات التلفزيونية، تغرق في الاكتئاب، طالما أنّ الحل المقترح كان يتمثّل في الزواج المبكر، وهجر العمل خارج المنزل، نحو عالم يتكوّن من «غرفة نوم ومطبخ وجنس وأطفال». السؤال الذي ظلّ غائباً عن تفكير المرأة الأميركية حينذاك، هو سؤال الهوية، فهل هي المرأة التي تصدّرها الإعلانات، أم هي شخصية أخرى غير مكتشفة، شخصية لا تشبه أمها التي تنتمي إلى جيل مربيات المنازل، أو للجيل الذي كان يهتم بالجيولوجيا والشعر؟ وكيف تحقق هويتها الإنسانية، بصرف النظر عن التمييز الجنسي؟
مع ظهور الحركات النسوية المبكرة، حطّمت المرأة جداراً صلباً من القيم التاريخية. لكن العبور إلى المستقبل، لم يجرِ من دون معوقات أو سخرية من هؤلاء الناشطات النسويات. فقد «كنّ ضحايا عُصابيات للحسد القضيبي». في كل الأحوال، التقطت الحركة النسوية البوصلة لرسم هويتها الجديدة، انطلاقاً من سؤال بسيط «من أنا؟ ما الذي أريده؟». هكذا تستعيد المؤلفة نظرية فرويد في التحليل النفسي، معتبرة إياها، خليطاً فيكتورياً من الفروسية والتعطّف، وجنسانية عرجاء لا أكثر، ولن تكون النظرة إلى المرأة أفضل، لدى علماء نفس آخرين، فصورة حائكة الصوف في «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز، ما زالت ماثلة بقوة، ليس في أذهان الرجال فحسب، بل في أذهان معظم النساء أيضاً. ليس مستغرباً أن تتحوّل إحداهن من دراسة علم الجراثيم في الجامعة، إلى دراسة الاقتصاد المنزلي. في النهاية، تقول إحداهن: «سأعود إلى البيت، وأعمل في مجمع تجاري إلى أن أتزوج». تراكم هذه الأفكار كان حصيلة زيف تربوي أفرزته المناهج الدراسية في الجامعات، يحضّ ــ في المقام الأول ـــ على استعادة المرأة أنوثتها، بناء على مقولة راسخة هي «إن المرأة المثقفة مسترجلة». جاء ذلك في موازاة تسليع الحياة اليومية إلى طاقتها القصوى تحت شعار «سنجعل التدبير المنزلي إبداعياً»، ما أطاح بهوية المرأة المهنية، وأبعدها عن استخدام عقلها في محاكمة ما يدور حولها من مكائد ذكورية يقودها مجتمع السوق. وإذا بالبيت هو غاية الحياة ومبتغاها، أو «معسكر الاعتقال المريح». تتساءل بيتي فريدان بعد تجوال طويل: «هل كانت المشكلة التي لا اسم لها، مشكلة جنسية في نهاية المطاف؟»، ذلك أنّ معظم النساء اللواتي شاركن في الاستبيان، كنّ يقمن بتلميحات غامضة أو إشارات واضحة تتعلّق بمغامراتهن الجنسية في مواجهة رتابة الحياة الزوجية، بتأثير الخيال الجنسي الذي تصدّره الروايات الشعبية والمجلات والبرامج التلفزيونية.
النهضة النسوية التي شهدتها أميركا مطلع القرن العشرين، تعرّضت لاحقاً لأكثر من انتكاسة، بسبب الحروب وتبدّل القيم وتغييب الهدف وتشويه صورة المرأة عمداً. وهذا ما وضع المرأة في قفص اليأس، كمحصلة لمصادرة الذات الأنثوية غريزياً وحياتياً.
لمواجهة هذا العطب، تنصح بيتي فريدان بتحطيم أسوار معسكرات الاعتقال المريحة وتخطي البيولوجيا وجدران البيت الضيقة للمساهمة في تشكيل المستقبل، وتقترح هنا استعادة «الذات المصادرة» داعيةً إلى تحقيق «الشجاعة في أن تكون فرداً» والانخراط في تفكير جديد ينسف المسلّمات التي جعلت المرأة تتكيّف مع قيودها تحت صفة «المهنة: ربة منزل».
يتحقّق ذلك بالكفاح من أجل الحق في هوية إنسانية كاملة تلغي معنى اللغز الأنثوي الذي أسهم في دفن ملايين النساء على قيد الحياة، كي تخرج المرأة من الفخ وخدعة تحقيق الذات بالزواج والأمومة. وتلفت بإلحاح إلى طبيعة التعليم التي حاولت أسر المرأة بمقررات تتعلق بصناعة السجاد وفن الطبخ والخياطة، وبات من النادر أن تهتم بالدراسات الفكرية العميقة.
وفي المقابل، لا تنكر أول رئيسة لــ«المنظمة الوطنية للنساء» وجود ناشطات كارهات للرجال علناً، في برامج لا تتجاوز الثورة الجنسية فحسب، وهي تروي سيرتها الذاتية وكيف اختطت طريقها وسط الأشواك كي تقول من دون تلعثم بأنّها كاتبة، وليست مجرد ربة منزل، وكي تجد هويتها الكاملة بعد عناء طويل.
لعل أهمية هذا الكتاب «عربياً» تتجلى في قدرته على الإضاءة على ما تعيشه المرأة في ظل التمييز الجنسي، بصرف النظر عن الجغرافيا. وهذا ما تحتاجه المرأة العربية اليوم، في ظل الفتاوى والقوانين التي تسعى ـــ من دون هوادة ـــ إلى إعادتها إلى الجاهلية الأولى، ووأدها في المهد.
الأخبار-الناطق غير الرسمي ل حالش
No comments:
Post a Comment