في ذكرى وفاة السيد حديثة مراد
بعد عهد ليس بالقصير من الزمن السوري الحديث، ظهر من تحت ركام الأحداث إنسان كالشبح، كان في ستينيات القرن العشرين علما من أعلام السياسة يوم كانت تظهر الأسماء السياسية في سماء سورية لعام أو عامين، وربما لشهور، ثم تتوارى عن الأنظار، أو لنقل أنها تنطفئ كما ينطفئ عود ثقاب بعد توهج قصير. ولم يكن هذا الشبح إلا الرفيق "حديثة مراد" الذي أطل من خلال صحيفة إلكترونية بعد أن اختفى اسمه وصورته على مدى أربعة عقود تقريبا. لا نقول إن ضيفنا "حديثة" كان ملء السمع والبصر، ولكنه على كل حال كان أحد الوجوه التي كان لها حضور في تاريخ حزب البعث وحتى عام 1970 .
ولمن لا يعرف الأستاذ "حديثة" من الجيل الذي نما وترعرع في ظل الحركة "التصحيحية"، فإننا نقول لهم إن "حديثة" كان أحد أعلام حزب البعث الذين تألقوا ثم انطفأ عود ثقابهم يوم استولى الرئيس الراحل "حافظ أسد" على الحكم بانقلاب الحركة التصحيحية تلك في نوفمبر عام 1970 . فمن هو حديثة مراد هذا؟
بعثي قديم، عاصر قدامى حزب البعث وأساتذته الكبار، مارس السلطة بعد انقلاب 23 شباط "فبراير" عام 1966 ،الذي أطاح برئيس الدولة "أمين الحافظ" وبالقيادة القومية لحزب البعث. صار قائدا للحرس القومي (ميليشيا بعثية، كانت تثير اشمئزاز المواطن السوري)، وعضوا في القيادة القطرية بين عامي 1966 و 1970 . اعتقل بعد الانقلاب الذي قاده حافظ أسد في نوفمبر عام 1970 . بقي في سجنه 23 عاما من دون توجيه أي اتهام له، ومن دون محاكمة، حتى نسيه الناس. أطلق سراحه وكأنه يعود للحياة من جديد.
وقبل أن يقول لي البعض: لِمَ هذا النفاق وما عرفناك إلا من خلال انتقادك لكل ما هو بعثي ولكل من شارك في نظام الحكم الذي جاء به انقلاب آذار عام 1963 ؟ على كل حال هذا القول هو بعض الحقيقة وليس كلها. فأنا أؤكد على أن الذين حكموا سورية بعد انقلاب آذار قد شوهوا وجه سورية القومي العربي رغم أنهم رفعوا راية القومية العربية. واحتكروا السلطة والثروة في سورية لصالح فئة قليلة متنفذة وعائلات نمت ثرواتها من سرقة المال العام، رغم أنهم نادوا بالاشتراكية والقيادة الشعبية. واستبدوا وقمعوا كل صوت، وغيبوا كل رأي يرفض انفرادهم بالحكم، بل وتحكموا في رقاب الشعب السوري وفعلوا أسوأ مما فعله الفرنسيون أثناء استعمارهم سورية، رغم أنهم رفعوا راية الحرية. كل هذا وغيره كثير تم في عهود الظلام التي بدأت يوم 8 آذار 1963، ولمّا تنتهِ بعد. ومع ذلك فإني أتعاطف مع
كل السوريين الذين نالهم الأذى والظلم، واعتقلوا من دون محاكة، ولو كانوا ممن أخطأ أو ظلم من قبل، فإن الظلم لا يزال بظلم.
وعلى كل حال ف"حديثة مراد" ليس الوحيد الذي ناله أذى رفاقه البعثيين. وإذا ذكر الرفاق الذين تعرضوا لظلم وغدر رفاقهم البعثيين، فلا تكاد تجد واحدا أضحى خارج السلطة، إلا شرد أو اعتقل أو اغتيل. وعلى سبيل المثال لا الحصر: يأتي المؤسسان الأولان لحزب البعث في طليعة من ناله الأذى. "ميشيل عفلق" هرب إلى العراق ومات فيها. أما المؤسس الآخر "صلاح البيطار" فهرب إلى باريس فتعقبه النظام السوري إلى هناك واغتاله فيها عام 1980، لأنه كتب مقالا انتقد فيه ما كان يجري من إرهاب السلطة في سورية بفعل تغول الأجهزة الأمنية. اللواء "محمد عمران" وزير الدفاع في بداية حكم حزب البعث هرب إلى بيروت فاغتيل فيها في بداية حكم الرئيس الراحل عام 1971. "نور الدين الأتاسي" رئيس الدولة الأسبق في عهد "الشباطيين" اعتقل هو الآخر بعد انقلاب الحركة التصحيحية، وبقي حتى عام 1992 حيث أنهكه المرض فأطلق سراحه ليموت بعد شهر.
وإذا ذكر الذين غدر بهم رفاقهم البعثيون فيذكر اللواء "صلاح جديد" الأمين القطري وحاكم سورية الفعلي حتى نوفمبر عام 1970 حيث أطاح به الرئيس الراحل، مع أن صلاح جديد هو الذي أعاد الرئد المسرح "حافظ أسد" إلى الخدمة العسكرية في أول يوم لانقلاب 8 آذار "مارس" 1963 الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة، حيث كان مديرا لإدارة شئون الضباط . واستطرادا فإن صلاح جديد هو الذي رسخ لعسكرة الحزب والطائفة، عندما سرح معظم الضباط العاملين في الجيش السوري من غير البعثيين، واستدعى بدلا منهم ضباط الاحتياط من البعثيين ليحلوا محلهم وليستلموا المراكز الحساسة في الجيش بدلا من الضباط الأكفياء الذين سرحوا من الجيش. وهو أول من بدأ في التأسيس لحكم الطائفة في سورية، عندما سرح الضباط السنة واستبدل بهم ضباطا من طوائف أخرى، ما جعل السوريين يتنبهون لهذا لأمر منذ اليوم الأول لانقلاب آذار 1963.
ومع كل ما تقدم فإني أتعاطف مع "صلاح جديد" الإنسان السوري الذي ظُلم عندما أُلقِي به في السجن يوم انقلب عليه وعلى باقي رفاقه الرئيس الراحل في نوفمبر عام 1970، ليبقى في السجن قرابة ربع قرن، فلا يخرج إلا في تابوت الموت إلى قبره. صحيح إن "صلاح جديد" شرب من الكأس التي سقى بها غيره، فأخطأ وظلم، ولكن كان ينبغي أن يحاكم هو وغيره من الذين أساؤوا للوطن قبل أن يعتقلوا، والخطأ لا يصحح بخطأ.
ختاما نقول للرفيق "حديثة مراد": مرحبا بك على قيد الحياة مرة ثانية في سورية، لأن من يخرج من معتقلات النظام السوري التي لايضاهيها في ظلمتها إلا ظلمة القبور، فكأنما عاد إلى الحياة أو ولد من جديد. ونستئذنك أن ننقل للقارئ الكريم بعض ما أدليت به لمجلة ثرى ،وسنضعه تحت عنوان "وشهد شاهد من أهلها"، ولكن في مقال آخر لاحق مستقل.
الطاهر إبراهيم - مركز الشرق العربي
or
No comments:
Post a Comment