Tuesday, December 17, 2013

جبار ياسين - مديح الماضي



منشورات الجمل, كولون  1991 | سحب وتعديل جمال حتمل |  60 صفحة | PDF | 4.80 MB

http://www.4shared.com/office/TyRIFUZO/__-__.html
or
http://www.mediafire.com/view/bcq4ar6107roun6/جبار%20ياسين%20-%20مديح%20الماضي.pdf
 
ضياء العزاوي عرفت جبار ياسين في بغداد منذ زمن طويل، أكثر من ربع قرن. ثم في يوم ما ضاع أثره في المدينة التي كنت قد وصلتها منذ حين. بعدئذ، عرفت من أصدقاء انه قد غادر الى فرنسا. مر علي الرحلة قرابة السبعة وعشرين عاما تغير فيها جبار ياسين وتغيرت بدوري. خطت السنوات آثارها علينا ونحن في البعيد، هو في فرنسا وفي ألمانيا.
لكن عبر هذه السنوات نمت صداقة بيننا. التقينا مرارا في باريس وكولونيا والقاهرة ولم نلتق بعد في بغداد! زرت جبار ياسين في منزله الريفي قرب ساحل الأطلسي مرارا. جلسنا في الحديقة التي يحرص جبار علي العناية بها واعدنا نبش الذكريات والحديث عن المستقبل مرارا، فلم تنقطع يوما فينا جذوه الأمل في العودة الى بغداد. في أمسية صيف جلسنا في زاوية من الحديقة تحت شجرة بلوط فكان هذا الحوار:
ولدت عام ببغداد، في أي منطقة من بغداد بالضبط، هل تستطيع ان تصف لنا بتفصيل أو تستحضر ذكرياتك الأولي؟
ــ لا اذكر البيت الذي ولدت فيه. لكني ولدت في كرخ بغداد في منطقة تسمي كرادة مريم بمحاذاة دجلة. كانت منطقة بساتين نخل وبين أشجار النخيل كانوا يزرعون الخضار الموسمية كعادة الفلاحين العراقيين. ثمة كرادة أخرى في الجهة الأخرى من النهر تسمي الشرقية. ويبدو ان اسميهما مشتقان من الكرود وهي نوع من النواعير التي كانت تستخدم حتى أوائل القرن العشرين في العراق. كانت هناك الكثير من الجداول التي تمضي لتسقي اراضر بعيدة.
ذكرياتي عن المكان قليلة وباهتة كأنها صور أحلام. اذكر أني عبرت الجسر المعلق اليتيم في بغداد مرارا في صباي ومن هناك كنت أرى بساتين النخيل ليس بعيدا عن المكان الذي كان يقوم فيه بيتنا.
هذا الجسر رأيته مكسورا علي شاشة التلفاز خلال حرب الخليج. بدل ان يفضي الى الجهة الأخرى من بغداد، كان يعوم في النهر مثل حيوان خرافي. عنه، في تلك الليلة من شباط كتبت قصة (العودة الى مدينة الآجر الذهبي).
بيت أهلي هدم في أواخر الخمسينيات وفي الحي الذي كان يقوم هناك بني القصر الملكي الذي صار القصر الجمهوري قبل ان يكتمل بناؤه. مرة حينما كنت في الكشافة المدرسية كان علينا الاستعراض أمام القصر الجمهوري في يوم الكشافة العالمي. مررنا أمام القصر وكان علينا الالتفات أقل من دقيقة لنحيي رئيس الجمهورية عبد السلام عارف الذي كان في القصر. كنت مرتبكا لأني كنت اكرهه وكنت اخشي ان يبدو ذلك علي ملامحي. كان ذلك عام وبعدها بأسابيع سقطت طائرة هيليكوبتر الرئيس قرب البصرة ومات محترقا هو ومرافقيه ومعاونيه. يومها شعرت بالفرح، وتلك مشاعر غريبة لطفل في الثانية عشر من عمره، ثم زال خوفي نهائيا من الرؤساء العسكريين. ثمة ذكري باهتة، وحيدة، عن ذلك البيت، نهاية صباح ربيعي، كان زوج خالتي جالسا علي بساط وسقط جرذ من السقف وحدث هرج ومرج. اذكر أني نظرت الى السقف المحمول بأعمدة أشجار لعلها الصفصاف. انها ذكراي الوحيدة عن هذا البيت الذي هدم وعمري لم يكن بعد أربع سنوات. لكني مازلت احتفظ بذكراي الأولى، كانت ظهيرة صيف وكنت في زقاق. شاهدت كرا ابيضا يقضم قشور البطيخ الأحمر. اقتربت منه بهدوء وسحبت ذيله الذي كان يتحرك يمنة يسرة. ثم فجأة شعرت بقائمته الخلفية تنقض علي صدري والسماء مكتظة بنجوم سود تهوي علي. بعدها لا اذكر شيئا. ذكري أخري، لكنها في بيت آخر اذكره تماما. كنت في ظلمة غرفة أحاول فتح علبة معدنية رسم عليها أسد مجنح وفيها حلوي. وفجأة شعرت بإبرة تدخل في صدري?. صرخت من الألم كانت عقربا صفراء قد لدغتني ثم رأيتها تسقط أرضا وجدتي وأمي وأخي الأكبر نبيل يدخلون الغرفة. ما زلت اذكر الحمي التي أخذتني الى انهار بعيدة وطرق متربة مضاءة بمصابيح برتقالية. مرة في الظهيرة كانت أمي ــ الشابة حينذاك ــ تمسكني من يدي مسرعة ونحن نمضي بين بيوت بيض صبغت أطرافها بالأزرق. ثم دخلنا صالة طبيب بدين له رائحة غريبة ويرتدي صدرية بيضاء ويضع نظارة طبية ويتحدث بتفخيم الحروف. تناول مقصا رفيع النهايات وادخله في منخري ليخرج حمصة، كنت قد أدخلتها هناك وأنا العب مع بنت لا أعرف حتى اليوم من هي؟ حينما تركنا عيادة الطبيب اشترت أمي كأس لبن، اذكر أني شربت قبلها وعدنا الى الدار ونمت.
ذكريات أخري

كان مساء صيف، قانيا ومتربا معا. الغبار رافقني لسنوات طويلة. كان أخي الأكبر نبيل يدور بعربة حديدية من العربات التي كان يصنعها أطفال ذلك الوقت. كان يدور العربة وذراعها في الهواء وأنا أحاول الإمساك بها. الأطفال لا يعرفون القوانين الفيزيائية. لم اشعر إلا وأنا أرضا والدم ينزف من جبهتي. لم اشعر بارتطامها برأسي لكن الدم ما أفزعني فصرت اصرخ من رعب الدم.
رب أخي ليلتها الى بيت خالتي وضمدتني أمي وجلسنا قريبا من (حِب الماء). ليلتها طهت لي أمي شوربة بالحليب ما زال مذاقها في فمي رغم السنوات الاثنين والأربعين. ندب الجرح ما زال على الجهة اليمني من جبهتي فوق الحاجب تماما. علامة علي طفولة مضت للأبد?
لم أكن ضحية فقط! ففي مرة حين الظهيرة والجميع نيام كنت العب مع طفل بعمري جوار بئر. لا اذكر اسمه لكنه كان ابن سلمان الأسود الذي، للغرابة، كان رجلا وسيما وبشرته بيضاء! لا ادري كيف دفعت الطفل ولماذا الى البئر؟ سقط هناك وراح يصرخ ــ لحسن الحظ ان آبارنا ليست عميقة ــ ولعلي أنا الذي صرخت. استيقظ النيام من قيلولتهم وهبط احدهم الى البئر لينقذ الطفل. اذكر وجه سلمان الأسود وشعره الأسود اللماع والمصفف علي طريقة ممثلي هوليوود حينها. اعتقد ان أمى صفعتني وشعرت ان الجميع ضدي. كانت تلك ربما أول وآخر محاولة قتل من جانبي. لحسن الحظ ما زلت بريئا.. ثمة ذكري أخري تأتي مرارا، خصوصا منذ إقامتي في الريف بشكل دائم منذ العام. ولعلها لعبت دورا في نظام حياتي اللاحق. مازلت اذكرها وكأنها حدثت بالأمس. كان ذلك أوائل أيار من العام. وكنا قد انتقلنا الى دار جديدة في حي من أحياء بغداد التي نمت كالفطر حينذاك. بيتنا بني في مكان كان حقلا للقمح وكانت هناك آثار جدول يمر أمام الدار سرعان ما درس بفعل الأقدام التي تمر ثم بمرور السنوات تحول الى طريق مبلطة. كانت الأيام الأولي لانتقالنا وكان هناك خروف اشتراه أبي. ربطتني صداقة يومية مع الخروف الذي كان يتجول معي في الحقول المجاورة للبيت. كان الفصل ربيعا وكانت الأرض خضراء بالخبيز والتولة وورود الحقول.
أحيانا كنت اركب علي ظهر الخروف ليأخذني هو في جولة يحددها ــ لك ان تتصور كم كنت صغيرا! في صباح مضينا بعيدا بين الحقول، الى نهاية العالم كما تصورت حينها، فقد غابت الدار عن ناظري ولم اعد اسمع غير صدي الأصوات. أصبت بالرعب وحاولت إجبار الخروف على العودة، غير انه كان عنيدا! نزلت من عليى ظهره وأطلقت ساقي للريح وأنا ابكي. لا ادري كيف وصلت الدار لكني وجدت أمي تعد التنور فأخبرتها ان الخروف مضي الى نهاية الدنيا فضحكت ونادت أبي الذي مضي معي بحثا عن الخروف. وجدناه بسهولة بعد خطوات عن الدار. كان يقضم الحشائش ويرغو فرحا. بعد أيام اقتاد أبي الخروف وذبحه عند عتبة الدار وسط صراخي وكانت أمي تمسك بي. لطخوا بدمه جدران الدار وقطعوه اربأ و وزعوا لحمه علي الجيران. اذكر أني كنت أحدق في عينيه اللتان غشتهما زرقة الموت ومنذ ذلك اليوم وأنا أري العينين في كل مكان. حاول أبي استرضائي بأن طهي لي الكليتين بطريقته لكني لم آكل من لحمه. وإذا كنت اليوم نباتيا لا اقضم اللحم فربما بسبب هذه الذكري - الهاجس.
ذكريات كثيرة ظلت هكذا مخزونة في هذه الذاكرة التي احملها بعيدا عن المكان الأول. أين مضي هؤلاء الأبطال الذين أتحدث عنهم الآن وهل يتذكرون ما أتذكره عنهم؟
الحياة عجيبة فكل ما نظنه ماض هو باق في مكانه للأبد في هذه الذاكرة العجيبة حتى كأن حياتي كلها في العراق ليست غير ذكري بعيدة. حقا انها قصة يرويها مجنون.
عالم بعيد
لقد كان المرحوم والدك يعتقد ان فرنسا منطقة تقع بعد بعقوبة، أي ان حدود العالم بالنسبة إليه كانت تبدأ من هناك؟ وأنت وصلت الى هذا العالم.. كيف عبرت عن فكرة والدك عن العالم الى العالم نفسه البعيد حقا؟
ــ كلا، فبعد بعقوبة كان يعتقد ان الروس كانوا هناك. ومرد ذلك من دون شك يعود الى الفيلق الروسي الذي توغل في العراق إبان الحرب العالمية الثانية اثر احتلال ستالين لجزء كبير من الأراضي الإيرانية وفق اتفاق مع بقية الحلفاء. إما فرنسا فكان أبي يعتقد انها قائمة بعد زاخو، القضاء الحدودي بين العراق وتركيا وسوريا. كان والدي جنديا في العشرينات والثلاثينيات. وبسبب تجوال الجيش منذ ذلك الوقت فهو يعرف العراق أكثر من أولاده. كان يعرف القرى والقصبات والأقضية والمدن في شمال العراق وجنوبه علي السواء. فقد قاتل في حروب كردستان كلها وشارك كجندي في قمع انتفاضة الآثوريين وشارك في القوات التي تصدت لانتفاضات القبائل الجنوبية في أسفل دجلة والفرات والأوسط كما انه قبل ذلك شارك مع المجاهدين الشيعة في التصدي لقوات الاحتلال البريطاني وهو يعرف السيك والكركة؟ اعتقد انه التقي أو شاهد الجنود الفرنسيين الذي كانوا يحتلون سوريا وجنوب تركيا حينذاك فظن انها فرنسا، تلك التي تقع بعد زاخو. لقد كان أبي رجلا ينتمي الى القرن التاسع عشر ولم يوافق علي دخول القرن العشرين ربما لأنه قرن سقوط الخلافة الإسلامية بعد سقوط إمبراطورية العثمانيين التي عاش العراقيون تحت رايتها قرابة الست قرون. كان (عصمليا) بالمعني الحقيقي يتحدث عن داود باشا ومدحت باشا والسلطان عبد الحميد كما لو انه عرفهم شخصيا. يقص لك مغامرات جعفر العسكري ومدحت سليمان وبكر صدقي كما لو انه احد أبطالها. ظل لزمن طويل يستعمل مفردات عثمانية، كانت تضحكنا، ولم يحاول تعلم مرادفاتها العربية.
بهذا المعني فان ذاكرته كانت غريبة علينا كما انه كان مسنا ولم يعرف احد كم من السنوات قد عاش. كان لا يعرف القراءة والكتابة لكنه يجيد الحساب الذهني ويستطيع جمع وطرح أرقام كبيرة. هكذا فالعالم بالنسبة إليه هو ما يعرفه. بعد حدود قبيلته فتحت له الحياة العسكرية حدود مدن وقري عراقية وما هو خارج هذه الحدود فهو نهاية العالم أو قل دار الكفر بالمصطلح التقليدي باستثناء مكة والمدينة فهي أراض يعرفها بالقلب.
اعتقد ان صورة أبي قد طبعتني كثيرا. أنا أشبهه الى حد كبير وذاكرتي بدورها قد توقفت بشكل أو بآخر لحظة خروجي من العراق. وصلت الى الطرف القصي الذي لم تدركه مخيلة أبي وها أنا في فرنسا منذ ربع قرن، لكني مازلت ابحث في الذاكرة البعيدة التي توقفت عندها ذاكرة أبي. لو قرأت قصص (القارئ البغدادي) التي صدرت قبل شهور بالفرنسية وسبق وان نشرت اغلبها في الصحافة العربية، ستجد انها قصص تنطلق من ذاكرة حلولية هي ذاكرة أبي. ليس غريبا ان يتقاسم الأدوار في القصص كلها، ربما، شخصيتين الشيخ والشاب وهما في الحقيقة شخصية واحدة في ادوار متعددة من الحياة. النقد الذي تعامل مع هذه القصص بالفرنسية تعامل مع (قصص فنتازية) هي فانتازيا أبي الطبيعية، فالفنتازيا تبدأ حينما تختلط الأزمنة والأمكنة وتتلاشي الحدود كما هو قائم في الطبيعة.
كيف أتيت الى القصة؟ هل كان اختيارك بتوجيه من أخوتك؟ أم لأنك نفسك رأيت بأن احد أخوتك يمارس قول الشعر لهذا اخترت القصة لتميز نفسك عنه؟
ــ في ما تقوله شيء من الصحة، لكن هذه أمور يتولى شأنها اللاوعي فنحن لا نقرر هكذا ان نصبح شعراء أو روائيين، فالأمر اعقد من هذا بكثير. بدأت القراءة مبكرا بتوجيه من أخوتي الذين كانوا ينتمون الى الوسط الثقافي. أخي الأكبر جعفر كان صحفيا لامعا في الستينيات والسبعينيات وأخي الأوسط كان شاعرا في أوج شبابه وله مكانه في خارطة الشعر العراقي. لكني قبل هذا كنت قد كتبت القصة حينما كان عمري عشر سنوات في دفتر القراءة حيث كان علينا نقل مادة كاملة من الكتاب الى الدفتر. كانت قصة رعب عن لص يأتي يهدد امرأة تسكن وحدها في بيت يطل علي البحر. لا شك أني كتبتها بوحي من فيلم شاهدته في التلفزيون. في ذلك الوقت كنت أحب مسلسل أمريكي أو إنكليزي اسمه (ساعة مع النجوم) وكانت أفلامه بوليسية. اذكر ان أخي جمعة شجعني ليلتها بعد ان قرأ القصة وابتسم. توجيه أخوتي كان في فرص القراءة. كانت لدينا في الدار مكتبة عامرة بالروايات والمسرحيات والدواوين وكتب السياسة والاجتماع والاقتصاد والتاريخ وكنا نعير الكثير من الكتب إلي الأصدقاء والطلبة حتى انه كان هناك دفتر للإعارة ودفتر سجلت فيه أسماء الكتب ومؤلفيها. باختصار كانت نوع من مكتبة عامة. كنت أحب قراءة كتاب تاريخ العالم الذي كان في ست أجزاء كبيرة الحجم، بطبعة مصرية. كما ان أمي راوية حكايات عجيبة. كانت تروي حكايات كثيرة، تتغير في كل مرة، أخذتها عن أمها وخالتها اللتان عرفتهما وكانتا قاصتين من طراز نادر. كنت قريبا من أمي ومدللها ــ ربما مازلت رغم أني لم أرها منذ أكثر من عشرين عاما! ــ وكنت اسمعها بدهشة وهي تحكي عن ماض ذهبي كان يبدو لي بعيدا. قصص عن حروب القبائل وقصص الأنبياء والأئمة والأولياء وعن أبي نؤاس المختلط بجحا وأبو القاسم الطنبوري... دون شك فان هذه الحكايات وطريقة الإصغاء إليها شكلت زاوية نظر الذاكرة ان أحسنت العبير. إذ كنت التقط الحدث مرتبطا بشكل أساسي بالزمن وهو ما يشكل جوهر القص. اذكر أني جربت كتابة الشعر. و أول قصيدة كتبتها كانت يوم الخامس من حزيران (يونيو) عام. يومها شاركت في تظاهرة اخترقت شارع الرشيد في بغداد بمناسبة الذكري الأولي لنكسة حزيران (يونيو). وبعد التظاهرة اشتريت جريدة (الأنوار) اللبنانية التي أجرت تحقيقا عن الفدائيين. كانت المرة الأولى في حياتي التي اشتري فيها جريدة. في طريق العودة، وفي الحافلة بدأت بكتابة قصيدة علي ورقة معي.
قصيدة من عشرة أبيات تبدأ هكذا:
مضي. ما مضي
عام علي نكسة
ولكن سيأتي عام جديد
سننشد فيه النشيد
فدائيون نحن
سنخلق فجرا جديد
كانت قصيدة ساذجة، أريتها لأخي نبيل الذي ابتسم وأعطاني ملاحظات لكني في قرارة نفسي أدركت أني باق دائما علي حافة الشعر، ومازلت.
الكتاب الذي جعلني انحاز نهائيا الى القصة منذ وقت مبكر هو (حكايات شعبية روسية) طبعة دار التقدم السوفيتية. كان كتابا مجلدا بلون برتقالي فيه أجمل القصص الشعبية الروسية عن ايفان والفلاح الروسي والملكة الضفدعة والأرنب السحري. كان الكتاب هدية من أخي جمعة لي ولأخي نبيل. لا أظن ان أخي قرأه غير أني اذكر أني بقيت ظهيرة كاملة، ممددا علي الأريكة اقرأ هذه القصص الروسية ــ الجليدية في ظهيرة صيف عراقي. حينما انهي الجميع القيلولة كنت قد أنهيت الكتاب، سعيدا بكتابي الأول الذي قرأته في ظهيرة واحدة، دون قطع. بعدها جاء همنغواي والبير كامي وشتاينبك ويوسف إدريس ومحمد خضير وجليل القيسي ليجعلوا من القصة طريقتي في تخيل العالم.
شهادة ابداعية
لكن هذا الاختيار لم يكن منطقيا، فكتاباتك شعرية جدا وأحيانا تجنح الى الشعر تماما برغم انك صرحت في شهادة لك تعود الى عام (حين يكف الشعر، في ان يكون لغة للعالم، تخرج القصة وتتحول الى أبجديات...).
ــ هذا لا ينفي ذاك. اعتقد أني بي حاجة ملحة الى الصمت. مبكرا كنت احضر، بصحبة أخوتي وخصوصا نبيل، مهرجانات شعرية في قاعة ساطع الحصري في كلية الآداب ببغداد. كان أخي شاعر الكلية المكرس. كما ان تلك المرحلة كانت مرحلة شعر وجدل شعري وعودة البياتي والجواهري. لا تنسي البيان الشعري الذي كتبه فاضل العزاوي والرد عليه والنقاش حول الشعر العمودي والتفعيلة كما ان انقلاب قد شجع الشعر كثيرا وكان بين الانقلابيين شعراء من نمط صالح مهدي عماش وشفيق الكمالي وشاذل طاقة... باختصار كان هناك ضجيج كثير لا يحتمل أحيانا يضاف إليه ضجيج مكبرات الصوت التي انتقلت من بث القرآن والمقتل الحسيني الى بث شعر سليمان العيسى والكمالي المغني. في ذلك الوقت وأنت تدخل كلية الآداب التي كنت ارتادها بصحبة أخي كما أسلفت، رغم أني كنت في السنة الأولى من الثانوية، كنت تسمع ضجيجا يتفوق علي ضجيج (سوق الهرج) المشهور في بغداد. كل هذا خلق لدي رغبة في الصمت، الهدوء. القصة كانت خير ملاذ. فحين تكتب قصة لا ترتفع عقيرتك. القصة تكتب بصمت وتأمل والإيقاع فيها خفي خفية مشاعر الحب الحقيقي.
يضاف الى هذا ما ذكرته، فقد كنت منذ ذلك الوقت محملا بذكري المستقبل. كنت حالما، غائبا معظم الوقت عن الواقع والقصة هي العوالم الداخلية مرصوفة بتأن حجرا علي حجر. أما الشعر فهو قول بالأساس. علي هذا النحو فلم أكن يوما شاعرا، وقد صرحت مرارا بذلك، برغم ان البعض مصر علي نعتي بشاعر. كنت دوما علي هامش الشعر وما اكتبه هو سرد يجتاحه حينا دفق شعري بحكم موقع اللغة في الكتابة والشعر هو جوهر اللغة في كل لغات العالم.
لقد عرفت الشهرة النوعية مبكرا، في بغداد ضمتك مجلة (الكلمة) الى ملفها الشهير (قصاصون بعد جيل الستينيات) الذي صدر؟
ــ لا اعتقد ذلك. بغداد الأدبية كانت صغيرة جدا. بضعة مقاه في الرصافة بين مقهى البرلمان وحسن عجمي وكازينو رعد علي كورنيش أبو نؤآس ومقهى إبراهيم المعروف بـ(مقهى المعقدين) يكفي ان تعرف في هذه الأماكن حتى تصبح مشهورا. صحيح أني مارست الكتابة الصحفية مبكرا وقبلها أعطت لي نشاطاتي السياسية في سنوات مراهقتي سمعة ما لكني اعتقد ان مرد شهرتي كانت لكوني في ذلك الوقت كنت من أجمل شباب بغداد كما عرفت ذلك بعد سنوات، فقد كنت بريئا جدا كي أدرك ذلك؟
أما ما يتعلق بمجلة الكلمة وملفها الشهير فالأمر تم بالصدفة. في ذلك الوقت كنت قد كتبت الكثير من القصص التي لم تنشر، لأنها لم توافق الذوق السياسي السائد حينها. وكان أصدقاؤنا الشيوعيون أكثر صرامة في الرقابة من مسئولي وزارة الإعلام الرسمية التي تمثل الدولة والحزب الحاكم. لقد رفضت مجلة (الثقافة الجديدة) كل قصصي بحجة انها تسيء للجبهة الوطنية كذلك أسبوعية (الفكر الجديد) التي كادت ان تعرضني الى محكمة من قبل الدولة بعد محاكمة جزء من هيئة تحريرها لي. أجلست حينها في قاعة وكان الكاتب فاضل الربيعي رئيسا للجلسة وسامي محمد ــ الذي توفي مؤخرا في بغداد ــ وسلوى زكو أعضاء. خلال ساعات من التهكم والتأنيب بل وشيء من التهديد من طرف عضوي المحكمة وليس الرئيس الذي كان أكثر تفهما، افهموني ان قصتي (الرجال التكعيبيون) هي إدانة للحزب الشيوعي وبالتالي لن تنشر وينبغي ان تتلف. لكن رئيس المحكمة سلمها لي في ما بعد خفية، ولحسن الحظ فقد كانت النسخة الوحيدة، فلم تكن هناك أدوات (فوتو كوبي) حينها. ولقد نشرتها في العدد الأول من مجلة أصوات عام. طبعا كل هذا وأنا لم أكن حينها عضوا في الحزب الشيوعي، فقد استقلت منه ليلة السابع عشر من تموز (يوليو) عام، أي ليلة توقيع عقد الجبهة الوطنية التي كانت الفاتحة للخراب العراقي اللاحق. أما طريق الشعب فقد احتفظت بثلاث قصص لي لم تنشر لذات الأسباب ولا بد أنهن اتلفن أو لعلهن ينمن في أرشيف الجريدة في احد مخازن الأمن العام. مرة هبط الشاعر سعدي يوسف من مكتبه في الجريدة حيث كان رئيس الهيئة المشرفة علي صفحة ثقافة ليفهمني ان هيئة التحرير المكونة من الشاعر الفريد سمعان والشاعر حميد الخاقاني والقاص إبراهيم احمد والناقدين ياسين النصير وفاضل ثامر وآخرين لم توافق علي نشر قصة لي لأن شخصية الشيخ المجنون تشير صراحة الى الحزب. لكن سعدي أضاف انه لا يمانع في نشرها وهو لا يري فيها ما رآه الآخرون. كما تعلم فان هذه المنشورات كلها شيوعية ــ يسارية.
هكذا، كما تري، فان فرص النشر كانت محدودة. لذلك حين عرفت بعزم مجلة (الكلمة) علي نشر ملف عن قصص الشباب، بادرت الى الاتصال بموسي كريدي سكرتير تحرير مجلة (الكلمة). كان دمثا عبر الهاتف ولم أكن اعرفه شخصيا أو يعرفني. اتفقنا علي موعد لأسلمه قصتين. حين ذهبت إليه في مكتبه في وزارة الإعلام فوجئت بقصر قامته، فقد كنت أتخيله كموسي العبراني عملاقا! سلمته القصتين اللتان قرأهما بحضوري وأعلن موافقته علي نشرهما بعد ان طلب مني شهادة بعثتها، في ما بعد، بالبريد.
فوجئت بالعدد في ما بعد وقد أثار ضجة وإعجاب، وكان العدد الأخير من هذه المجلة. فقد منعت، كما يبدو، بعد ذلك، وعوض عنها بمجلة لأدب الشباب سميت (الطليعة الأدبية) لم انشر فيها مطلقا، فقد كانت مجلة رسمية تفرض شروطها المعروفة. بعد نشري لهاتين القصتين التقيت بالناقد ياسين النصير الذي علق ان قصصي سطحية ولا واقعية، فقد كان النصير متعلقا جدا بالواقعية الاشتراكية وكان يريد منا ان نكتب قصصا سوفيتية كقصة (البراد) التي نشرها إبراهيم احمد في طريق الشعب حينها، وأثارت جدلا ايجابيا. كانت قصة تحكي عن زوج من (التقدميين) يشترون برادا ويعلنون فرحهم به كتكنولوجيا عالية? !? اعتقد ان البراد كان سوفيتي الصنع! لحسن الحظ تخلي إبراهيم احمد عن كل هذا بعد ان صفعه المنفي صفعة العمر ورمي به في نهاية العالم. إما الشاعر والناقد فوزي كريم ــ الذي كان يوصف بالعدمي ــ قد كتب نقدا جيدا للعدد الأخير من المجلة أتي فيه على ذكري بإعجاب، بينما هاجمني الشيوعيون لأن قصصي فنتازية وليست لها علاقة بالطبقة العاملة. الغريب ان أكثر الشيوعيون الشباب الذين نشروا في هذا العدد قصصا عن الطبقة العاملة توقفوا عن الكتابة نهائيا، ولعلي الوحيد ممن نجوا من كتاب هذا العدد.
شهادة ابداعية
لكن هذا الاختيار لم يكن منطقيا، فكتاباتك شعرية جدا وأحيانا تجنح الى الشعر تماما برغم انك صرحت في شهادة لك تعود الى عام (حين يكف الشعر، في ان يكون لغة للعالم، تخرج القصة وتتحول الى أبجديات...).
ــ هذا لا ينفي ذاك. اعتقد أني بي حاجة ملحة الى الصمت. مبكرا كنت احضر، بصحبة أخوتي وخصوصا نبيل، مهرجانات شعرية في قاعة ساطع الحصري في كلية الآداب ببغداد. كان أخي شاعر الكلية المكرس. كما ان تلك المرحلة كانت مرحلة شعر وجدل شعري وعودة البياتي والجواهري. لا تنسي البيان الشعري الذي كتبه فاضل العزاوي والرد عليه والنقاش حول الشعر العمودي والتفعيلة كما ان انقلاب قد شجع الشعر كثيرا وكان بين الانقلابيين شعراء من نمط صالح مهدي عماش وشفيق الكمالي وشاذل طاقة... باختصار كان هناك ضجيج كثير لا يحتمل أحيانا يضاف إليه ضجيج مكبرات الصوت التي انتقلت من بث القرآن والمقتل الحسيني الى بث شعر سليمان العيسى والكمالي المغني. في ذلك الوقت وأنت تدخل كلية الآداب التي كنت ارتادها بصحبة أخي كما أسلفت، رغم أني كنت في السنة الأولى من الثانوية، كنت تسمع ضجيجا يتفوق علي ضجيج (سوق الهرج) المشهور في بغداد. كل هذا خلق لدي رغبة في الصمت، الهدوء. القصة كانت خير ملاذ. فحين تكتب قصة لا ترتفع عقيرتك. القصة تكتب بصمت وتأمل والإيقاع فيها خفي خفية مشاعر الحب الحقيقي.
يضاف الى هذا ما ذكرته، فقد كنت منذ ذلك الوقت محملا بذكري المستقبل. كنت حالما، غائبا معظم الوقت عن الواقع والقصة هي العوالم الداخلية مرصوفة بتأن حجرا علي حجر. أما الشعر فهو قول بالأساس. علي هذا النحو فلم أكن يوما شاعرا، وقد صرحت مرارا بذلك، برغم ان البعض مصر علي نعتي بشاعر. كنت دوما علي هامش الشعر وما اكتبه هو سرد يجتاحه حينا دفق شعري بحكم موقع اللغة في الكتابة والشعر هو جوهر اللغة في كل لغات العالم.
لقد عرفت الشهرة النوعية مبكرا، في بغداد ضمتك مجلة (الكلمة) الى ملفها الشهير (قصاصون بعد جيل الستينيات) الذي صدر؟
ــ لا اعتقد ذلك. بغداد الأدبية كانت صغيرة جدا. بضعة مقاه في الرصافة بين مقهى البرلمان وحسن عجمي وكازينو رعد علي كورنيش أبو نؤآس ومقهى إبراهيم المعروف بـ(مقهى المعقدين) يكفي ان تعرف في هذه الأماكن حتى تصبح مشهورا. صحيح أني مارست الكتابة الصحفية مبكرا وقبلها أعطت لي نشاطاتي السياسية في سنوات مراهقتي سمعة ما لكني اعتقد ان مرد شهرتي كانت لكوني في ذلك الوقت كنت من أجمل شباب بغداد كما عرفت ذلك بعد سنوات، فقد كنت بريئا جدا كي أدرك ذلك؟
أما ما يتعلق بمجلة الكلمة وملفها الشهير فالأمر تم بالصدفة. في ذلك الوقت كنت قد كتبت الكثير من القصص التي لم تنشر، لأنها لم توافق الذوق السياسي السائد حينها. وكان أصدقاؤنا الشيوعيون أكثر صرامة في الرقابة من مسئولي وزارة الإعلام الرسمية التي تمثل الدولة والحزب الحاكم. لقد رفضت مجلة (الثقافة الجديدة) كل قصصي بحجة انها تسيء للجبهة الوطنية كذلك أسبوعية (الفكر الجديد) التي كادت ان تعرضني الى محكمة من قبل الدولة بعد محاكمة جزء من هيئة تحريرها لي. أجلست حينها في قاعة وكان الكاتب فاضل الربيعي رئيسا للجلسة وسامي محمد ــ الذي توفي مؤخرا في بغداد ــ وسلوى زكو أعضاء. خلال ساعات من التهكم والتأنيب بل وشيء من التهديد من طرف عضوي المحكمة وليس الرئيس الذي كان أكثر تفهما، افهموني ان قصتي (الرجال التكعيبيون) هي إدانة للحزب الشيوعي وبالتالي لن تنشر وينبغي ان تتلف. لكن رئيس المحكمة سلمها لي في ما بعد خفية، ولحسن الحظ فقد كانت النسخة الوحيدة، فلم تكن هناك أدوات (فوتو كوبي) حينها. ولقد نشرتها في العدد الأول من مجلة أصوات عام. طبعا كل هذا وأنا لم أكن حينها عضوا في الحزب الشيوعي، فقد استقلت منه ليلة السابع عشر من تموز (يوليو) عام، أي ليلة توقيع عقد الجبهة الوطنية التي كانت الفاتحة للخراب العراقي اللاحق. أما طريق الشعب فقد احتفظت بثلاث قصص لي لم تنشر لذات الأسباب ولا بد أنهن اتلفن أو لعلهن ينمن في أرشيف الجريدة في احد مخازن الأمن العام. مرة هبط الشاعر سعدي يوسف من مكتبه في الجريدة حيث كان رئيس الهيئة المشرفة علي صفحة ثقافة ليفهمني ان هيئة التحرير المكونة من الشاعر الفريد سمعان والشاعر حميد الخاقاني والقاص إبراهيم احمد والناقدين ياسين النصير وفاضل ثامر وآخرين لم توافق علي نشر قصة لي لأن شخصية الشيخ المجنون تشير صراحة الى الحزب. لكن سعدي أضاف انه لا يمانع في نشرها وهو لا يري فيها ما رآه الآخرون. كما تعلم فان هذه المنشورات كلها شيوعية ــ يسارية.
هكذا، كما تري، فان فرص النشر كانت محدودة. لذلك حين عرفت بعزم مجلة (الكلمة) علي نشر ملف عن قصص الشباب، بادرت الى الاتصال بموسي كريدي سكرتير تحرير مجلة (الكلمة). كان دمثا عبر الهاتف ولم أكن اعرفه شخصيا أو يعرفني. اتفقنا علي موعد لأسلمه قصتين. حين ذهبت إليه في مكتبه في وزارة الإعلام فوجئت بقصر قامته، فقد كنت أتخيله كموسي العبراني عملاقا! سلمته القصتين اللتان قرأهما بحضوري وأعلن موافقته علي نشرهما بعد ان طلب مني شهادة بعثتها، في ما بعد، بالبريد.
فوجئت بالعدد في ما بعد وقد أثار ضجة وإعجاب، وكان العدد الأخير من هذه المجلة. فقد منعت، كما يبدو، بعد ذلك، وعوض عنها بمجلة لأدب الشباب سميت (الطليعة الأدبية) لم انشر فيها مطلقا، فقد كانت مجلة رسمية تفرض شروطها المعروفة. بعد نشري لهاتين القصتين التقيت بالناقد ياسين النصير الذي علق ان قصصي سطحية ولا واقعية، فقد كان النصير متعلقا جدا بالواقعية الاشتراكية وكان يريد منا ان نكتب قصصا سوفيتية كقصة (البراد) التي نشرها إبراهيم احمد في طريق الشعب حينها، وأثارت جدلا ايجابيا. كانت قصة تحكي عن زوج من (التقدميين) يشترون برادا ويعلنون فرحهم به كتكنولوجيا عالية? !? اعتقد ان البراد كان سوفيتي الصنع! لحسن الحظ تخلي إبراهيم احمد عن كل هذا بعد ان صفعه المنفي صفعة العمر ورمي به في نهاية العالم. إما الشاعر والناقد فوزي كريم ــ الذي كان يوصف بالعدمي ــ قد كتب نقدا جيدا للعدد الأخير من المجلة أتي فيه على ذكري بإعجاب، بينما هاجمني الشيوعيون لأن قصصي فنتازية وليست لها علاقة بالطبقة العاملة. الغريب ان أكثر الشيوعيون الشباب الذين نشروا في هذا العدد قصصا عن الطبقة العاملة توقفوا عن الكتابة نهائيا، ولعلي الوحيد ممن نجوا من كتاب هذا العدد.
لكن هذه الشهرة سرعان ما حل عليها الضباب،خصوصا وانك لم تنشر إلا كتبا قليلة وبشكل متباعد جدا، خصوصا بعد تركك المبكر للعراق عام؟ بماذا انشغلت آنذاك؟ بالحياة من جديد؟
ــ لقد جاء النفي بعد ذلك ليلغي كل شيء. ليس ضبابا ما حل بل هو مطر من الطين. كان علي ان أعيد ترتيب كل شيء وقد وجدت نفسي وحيدا في متاهة شاسعة. كان علي ان استوعب المكان الجديد بنوره بحثا عن ذرات الغبار التي تذكرني بالماضي. كان علي ترتيب زمن آخر لا يجري كما اعتدت. كان علي ان أتعلم لغة أخرى لكي أعود من جديد (حيوانا ناطقا)، كان علي ان أتعلم شفرات أخرى للتواصل الاجتماعي في الحب والكراهية، في الحزن والفرح، في القرب والبعد. باختصار كان علي ان استوعب من جديد ولادتي تحت شمس أخرى لكنها ولادة محملة بذكريات عن ماض. ليس سهلا ان يلد الكائن وهو مثقل بذكريات.
هذا الاجتثاث المبكر ــ الولادة الثانية ترك ندوبا مازالت و لا أظن ان لي شفاء منها. في تقديري ليس من المعقول والمنطقي ان يعيش الإنسان أكثر من نصف حياته مقطوعا، تماما، عن عالمه الأصل! لكن هذا هو واقع الحال. حينما وصلت الى هنا وجدت نفسي لشهور غير قادر علي تحرير رسالة أو بطاقة. وفي اليوم الأول لوصولي في الثالث من آب لتلك السنة، غفوت لساعات في فندق باريسي. حين أفقت كنت قد نسيت سفري.
نهضت وألقيت نظرة علي الشارع فأدركت أنني كنت في المنفي وان زمنا سحيقا قد مر منذ الصباح، لم أر فيه أحدا من أهلي. ولم تكن غير بضع ساعات فاصلة بين يقظتي في ذلك الفجر ويقظتي الأخرى في أول المساء. كان يوما واحدا لكنه أطول الأيام التي عشتها. ومنذ ذلك اليوم، أدركت في قرارة نفسي ان لي حياتين واحدة مضت في رمشة عين والي الأبد وأخرى تقودني في المتاهة.
هكذا، بعد هذه المجزرة الصامتة? ــ إدراك المنفي ــ فكل شيء يصبح ضربا من المستحيل. كان علي الانتظار سنوات كي ارتب الذاكرة وابدأ الحياة، اقصد حياة الإنسان الراشد. الأدب يصبح جزءا من الوعي بهذه المتاهة. الخدر المؤلم ــ واللذيذ حينا بهذا الضياع الذي لا يضاهي في وحدة العالم. الشعور بإدانة الآلهة القاسية يجعلك تستفرد بعذاب لا يداويه دواء. ولابد من سنوات للخروج من قعر القمقم كما يقال. وحين تخرج، ان خرجت؟ فانك كائن آخر رافق بياتريس في جحيم دانتي وقد تجرع مرارة الجمال.
صحيح أني نشرت القليل وبشكل متباعد. لكني اشعر أني لم ابدأ بعد. غير أني اليوم وقد قضيت تماما ربع قرن في المتاهة فقد بدأت الملم خيوط الزمن البعيد واربطه بالآخر الذي أنا فيه اليوم. لا بد من ربط هذين الزمانين لأفهم ما الذي حدث بالضبط. بتواضع اشعر أني بدأت افهم ما حدث وقريبا ستأتيك أخبار هذا الزمن الذي وحدت مجراه.
مجلة (أصوات)
برغم أنكم (أنت ومجموعة أخرى من المثقفين: عبد الحسين الهنداوي وقيس العزاوي.. الخ)، قد أسستم مجلة ثقافية هي مجلة (أصوات) في نهاية عام وهي علي بساطتها مجلة مهمة جدا آنذاك، بل كانت الوحيدة التي امتلكت الشجاعة.. فانا حينما وصلت الى باريس في خريف عام (.....) اقتنيت العدد الثالث وأنا ارتجف من الفرح وربما من الخوف!
ــ صدر العدد الأول من أصوات في خريف وليس، في أيلول بالضبط. نعم كانت مغامرة رائعة أنقذتني وكذلك كثيرين من السقطة. كان عبد الحسين الهنداوي لولب ذلك المشروع. كان أكثرنا حماسا وربما تجربة. فقد كان مناضلا شيوعيا خرج من غياهب تجربة قاسية في جبال كردستان وكان مكتظا بالحماس الشيوعي الأسطوري، برغم بعض فوضويته.
في بواتيه التي وصلتها قادما من مزارع العنب قرب تور ــ بصحبة حجر مهدي وماهر كاظم الذي عاد فيما بعد في ظروف سياسية غريبة ليقتل في العراق وتضيع آثاره ــ التقيت بعبد الحسين الذي كنت اعرفه بالكاد في العراق. صرنا صحبة فكرية وثقافية. كان هناك آخرين، لا ادري ان كانوا يحبذون ان اذكر أسمائهم اليوم كانوا حالمين مثلي، منفيين، ويبحثون عن حلول للمستقبل. فقد كنا نري، برغم بساطتنا، حجم الكارثة القادمة. الحلم له عيون تري المستقبل وبعيون الحلم كنا ننظر الى العراق. نشأت فكرة المجلة في بواتيه بعد ان وصلناها، نحن بضعة شبان في العشرينيات من أعمارهم. كان جو الهزيمة يخيم علي الأجواء بعد انكسار الحركة الكردية وتشتتها في أعقاب اتفاقية الجزائر عام قبل ذلك. في بواتيه كان هناك زخم سياسي صنعه بضعة أفراد، كانوا يبدون من بعيد كأنهم جيش عرمرم! مع عبد الحسين الهنداوي وحد ناقشنا الفكرة وكان عبد الحسين يملك علاقات مع عراقيين آخرين في باريس بينهم قيس العزاوي ومثقف آخر يعمل الآن في منظمة دولية وفاضل عباس هادي والرسام احمد أمير الذي توفي عقب حرب الخليج في برلين. اجتمعنا في مقهى كلوني بباريس وشكلنا هيئة التحرير من: الهنداوي، والعزاوي، وهادي والآخر وأنا. عبد الحسين وأنا اشتغلنا على العدد الأول لوجستيكيا برفقة احمد أمير الذي تولي إخراجه الفني وكتب نصا فيه. نشرت فيه، كما قلت لك قصة الرجال التكعيبيون المارة الذكر ومادة عن مأساة الثقافة العراقية ضمن تصوري في ذلك الوقت وبضعة متابعات. عبد الحسين وكتبوا فيه مادة فكرية تناقش الأسس الفاشية لحزب البعث وهكذا مع قصائد وقصة لصادق احمد كنا نكتب بأسماء مستعارة، أنا مثلا كنت اكتب باسم محمد إمام وسعيد البوم ومثقف عراقي... الخ.
قيس العزاوي الذي كان أكثرنا فهما للدبلوماسية تولي أمانة الصندوق وكان يجمع التبرعات ويهتم بالإعلام، فهو رجل علاقات وكان يكتب باسمه الصريح.
كان صدور العدد الأول مفاجأة لنا، فقد استقبل بترحاب وأثار ضجة. التف حولنا الكثير في فرنسا وألمانيا والسويد وسوريا ولبنان. ثم مضت تجربة المجلة بأعدادها العشرة الأولى. أنا تركتها بعد العدد السادس. فقد شعرت ان العالم كان يتغير، كما ان السياسة غلبت على مجمل موضوعاتها، إضافة الى ان اندلاع الحرب العراقية ــ الإيرانية في عام أعطاني صفعة قوية، فقد كنت أتوقعها واخشي نتائجها. في العدد الثاني من أصوات، شتاء، كتبت مقالة طويلة (مهرجان الشتائم) تحت توقيع سعيد البوم، توقعت فيها إطاحة صدام للبكر وجعل العراق اكبر ترسانة للسلاح في الشرق الأوسط وشن الحرب علي إيران وتجفيف الاهوار وشن حرب (الانفال) أو ابادة الأكراد وسقوط العراق نهائيا كدولة وشعب. كما قلت لك، كنا بسطاء لكننا كنا ننظر بعين الحلم، وبامكانك ان تراجع هذه المقالة لتقرأ ما أقوله لك مكتوبا قبل أكثر من عقدين وربما بالحرف الواحد كما يقال.
علي كل حال، وبعد قرابة ربع قرن علي صدورها وقرابة عقدين علي توقفها تبدو تجربة مجلة أصوات مهمة، فهي قد كسرت، ربما للمرة الأولى وفي أوج قوة الحكم في العراق، حاجز الخوف الذي عاد فأطبق وحاولت انتفاضة آذار كسره عام. بعدها خربت الدار وخرج نصف أهلها وظهرت صحف ومجلات كثيرة، لكن تجربة هذه المجلة المتواضعة تبقي علامة مهمة في تاريخ الصحافة العربية الحرة. فقد كنا لا نعرف ما الرقابة ونحن ننشر المواد التي تصلنا، وهذا حتى اليوم أمر لا يحدث!
أراك أحيانا ككاتب تضيع جهدك كثيرا بل تشتت نفسك في هذا التنويع ما بين ما هو شعري وبين ناهو نثري؟ فكم من القصص القصيرة التي نشرتها والتي تحتاج كل واحدة منها الى كتاب، غير ان نفسك الكتابي كما يبدولي قصيرا، بل قل شعري، لهذا يفضل أحيانا ان يعبر عن نفسه بطريقة شعرية، وهي برأيي لا ترقى مستوي التعبير الذي بامكانك ان تعطيناها لو عبرت بطريقة نثرية؟
ــ اعتقد ان الأمر أكثر تعقيدا من هذا. لست شاعرا، أود ان أؤكد ذلك دائما. ثمة جنوح الى الشعري في السرد حينما أكون في أزمة مستعصية. هكذا كتبت (على ضفاف الجنون) و(أرض للنسيان)، ثمة حاجة للتعبير مستعجلة وهي تدور في الفوضى الزمانية التي حدثتك عنها قبل قليل. دفق اللغة يفرض نفسه حينا لأن الوقت غير منظم ولا بد من التعبير عن الهبوط اليومي للجحيم. أنا أؤمن ان النثر أكثر صعوبة بدليل ان الإنسانية اكتشفته بعد الشعر كمجال للتعبير.
النثر يحتاج الى كتابة ومحو أي تأمل بين الاثنين. أحيانا لا أجد الفرصة الروحية ــ الزمانية لكتابة النثر الذي اقصده. لكني في كل الأحوال اكتب سردا حتى في هذا الشعري الذي تتحدث عنه. أني اروي الواقعة، الحدث ولا أوحي حسب عبر اللغة كما في القصيدة.
من جانب آخر فانا مولع بالقصة القصيرة، وهي بالمناسبة من أصعب الأنواع الأدبية. ففي القصة أنت توحي وتقول، تروض الزمن الشاسع وتقحمه في المكان الضيق. القصة مثل الذهب بين المعادن، فهو خلاصة الأرض ولا يصدأ. لي أكثر من تجربة روائية ستري النور قريبا. كما ان أكثر القصص التي كتبتها، وكما تقول، هي مشاريع روايات. تحت ضغط تشتت زمانيّ كتبت هذه الأفكار كقصص قصيرة لأني مستعجل في قولها ولاني مشتت. هل تراها فكرة الموت المبكر هي التي تقلقني فأختصر الروايات الى قصص قصيرة؟ ربما لكني منذ عامين، اشعر بسيطرة أكثر علي فكرة الزمن الماضي والآخر الجاري الآن لذا فقد كتبت رواية (سارق الذاكرات).
واعدت كتابة قصة طويلة لعلك تعرفها منذ زمن طويل، اقصد الترجمان التي أعدت كتابتها أخيرا كرواية. نعم نفسي الحياتي قصير والكتابي صار مثله، فانا مستعجل في الحياة، فقد فقدت عشرين عاما علي ان أعوضها بطريقة ما!
ــ لقد عشت أكثر وهذا طبيعي، لكنك عشت وعشقت الحياة وبدا وكأن الأدب وكأنه زوجة رابعة لك؟
ــ لا ليست زوجة، انها عشيقة وعلاقتي بها غريبة وغامضة وأنا أريد ان احملها أحيانا ما هي غير قادرة عليه. لكننا مجذوبين دوما الى العشيقة نقول لها ما لا نقوله للزوجة الأولى أو الرابعة الأقل خبرة بالحياة؟
أحيانا يخيل لي أنني قد عشت عدة حيوات ومع ذلك فثمة بتر ما، ثمة شيء ضائع علي التعويض عنه. مرة أجده في هذا الاستغراق العميق بعالم الطبيعة حيث اخترت العيش وسط الغابة بين الحيوانات والأعشاب والأشجار ومرة أجده في الأدب الذي اكتبه حينما تشتد بي الدنيا ومرة في التيه في أسفار وعلاقات مع البشر وعوالمهم الرائعة.
اليوم لا ادري أي حياة علي ان اختار بشكل نهائي؟ وهل أنا مجبر علي الاختيار من جانب آخر فقد فضلت عيش الأدب كحياة. الحياة أجمل حينما تعيشها كرواية.
رواية يهيم فيها البطل بين المسرات والأوجاع وفي كل يوم يفقد شيئا وهو غير مكترث لأنه يعتقد انه قد فقد كل شيء، بما في ذلك حياته، في زمن سحيق نسيه هو ذاته، فصار ظلا لنفسه ولموته القديم.... اعتقد ان الحياة وهبتني الكثير من الحب والألم معا. ربما هي هكذا الحياة!
أما الأدب فكن مطمئنا، فان تركت قصة واحدة كذكري فقد كسبت الخلود! ألا تعتقد ذلك؟
رجل التواصل الثقافي
أيضا فأنت أخذت دور (رجل التواصل الثقافي) أو التبادل الثقافي في تنظيم وترتيب لقاءات ثقافية عربية/ ?فرنسية علي الأغلب؟
ــ هذا أمر لا بد منه حينما يتعلق الأمر بحال مثل حالي: العيش في كنف ثقافتين أي بين عالمين. والمرء، في نهاية المطاف بحاجة الى تعريف بمعني الكشف عن هويته. لا يمكن ان يعيش المرء كل حياته ضيفا مضيفا? ! ?ان سؤال الهوية يطرح نفسه دائما. والهوية في تقديري ليس مناصبة العداء للآخر وتحميله مسؤولية التاريخ برمته بجروحه خصوصا كما هو الحال لدي البعض. سؤال الهوية هو القدرة علي محاورة الآخر بطرق الحوار العديدة. لقد اكتشف الإغريق الحوار في المائة الخامسة قبل الميلاد في ذات القرن? ?الذي اكتشف فيه الفينيقيين المرآة. أفلاطون في محاوراته مع أستاذه سقراط أعاد الحياة لأستاذه وجعله خالدا. نحن لم نطور مرايانا منذ القرن العاشر، لذلك سقطت بغداد بعد ثلاثة أيام من الحصار المغولي. ما أريد قوله أننا لم ننظر الى صورتنا في مرايا الآخرين، كيف يرون قوتنا وضعفنا والنتيجة أننا لا نفهم بعضنا ولان فهم الآخر؟
بينما بقية الإنسانية طورت الحوار اليوناني ــ الافلاطوني لتصل الى الصيغة الديمقراطية التي نراها اليوم في الغرب، وهي رغم بعض الثغرات ــ المعرضة دوما للنقد ضمن صيغة الحوار ذاته ــ لكنها الصيغة الأفضل اليوم للتعايش بين بني آدم. الحوار الديمقراطي هو في أساسه ثقافي أو قل فكري يبغي الوصول الى تقسيم للأدوار بين البشر وخلق حالة من السلم بكل المديات الممكنة.
هذا التواصل الثقافي الذي أحاول القيام به من خلال النشاطات الثقافية المشتركة هو جزء من تصوري للحوار كما انه تعبير عن هويتي كنتاج لتمازج ثقافي تعسفي في البدء واختياري في نهاية المطاف (التمازج الثقافي هكذا دائما). كما ان ــ وأنت تعرف هذا بحكم تجربتك الطويلة والثرية اليوم في كنف الثقافة الأخرى ــ حال الإنسانية اليوم في ظل وسائل الاتصال والمعرفة يضعنا فيما يسميه الفيلسوف الفرنسي ادغار موران في وضْع (المصير المشترك للإنسانية) أي أننا مضطرون للتعايش المشترك. بالتالي فان معرفة الآخر ثقافيا هو البدء بوضع أسس لغة الحوار المبني علي المعرفة والرغبة في السلم. لا تنسي أنني بدأت هذه النشاطات بعد تجربة عنيفة في الغرب هي تجربة المنفي التي تشبه النزول الى الجحيم وفي لحظة الصعود كانت دبابات صدام حسين قد غيرت وجهتها من الشرق الى الجنوب. في ذلك العام بدأت حيث أدركت ان معضلتنا الكبرى ثقافية تتمثل في عدم معرفة الآخر وعدم معرفة وجهتنا و قوانا. بينما كان العالم يعد العدة للحرب كنت أهيئ نشاطات ثقافية عربية وفرنسية وأسست (المنتدى الثقافي العربي). وبينما كانت بغداد تقصف كل يوم والجنود العراقيين يموتون اختناقا في المخابئ الصحراوية كان سعدي يوسف يرتل? ?شعره كصلاة الغائب في متحف مدينة بواتيه بحضور المئات من معادي الحرب. ألا تذكر، فقد كنت بين المدعويين، كيف أقمنا اللقاء الشعري العربي ــ الفرنسي في بواتيه بينما كان الأكراد يموتون في الجبال والشيعة يسحقون في الجنوب بدبابات الحرس الجمهوري. حينها كان شعار الشعراء (الحرب ضد الحرب) ?والحرب ضد مشعلي الحرب.
منذ ذلك الوقت دعوت المئات، اعتقد أكثر من خمسمائة، من الكتاب والشعراء والفنانين العرب الى فرنسا. هكذا ان نري ان لغة مشتركة قد تقوم بيننا و هكذا يري الآخر ان هذه الشعوب التي تعيش الحروب والفتن هي أيضا شعوب تحب الفن والأدب وأنها تتقاسم والإنسانية مصيرها الذي يتحدث عنه الفيلسوف الفرنسي.
في النهاية فان هذه النشاطات تجعلني أحدق، بل أحيانا أعيش مع ما هو جميل وقبيح في العالم.
الجميل والقبيح
منذ عام وأنت في فرنسا، ما هو هذا الجميل وما هو هذا القبيح؟
ــ شأن أي مكان في العالم فرنسا. الفوضى والنظام والنور والظلمة. غير ان للأشياء، أحيانا، قوانينها وقواعدها التي تسمح بسهولة النظر وسرعة الاختيار. ثمة أيضا هذا الرمادي الذي تتعايش فيه الأشياء. لا ادري ان كان المنفي امتيازا كما يذهب الكاتب الروماني سيرون؟
قد يكون كذلك من زاوية نظر ما.
الطبيعة جميلة في كل مكان في مشهدها الرعوي الذي رسمه فناني النهضة في ايطاليا وفرنسا وفي مشهدها الصحراوي الذي رسمه الرسامون المستشرقون. البشر كذلك، وأنا اعتقد ان كل طبيعة، مهما كانت عنيفة، فهي جوهر الجمال. ان المشكلة في التلوث الإنساني بالمعني الذي يذكره اليوت في الأرض الخراب.
لسوء الحظ، فإننا في هذا العالم الصغير، عالم المنفيين، عالم الحدوديين الذي يعيشون بين حدود بلدانهم وحدود الدول التي تضيفهم نشهد حينا الكثير من التلوث واللوثات؟ علي المرء ان يناضل أضعافا كي يحافظ علي الباقي من براءته ونقاؤه الأصلي.
فبالقدر الذي تجد الحياة الثقافية الفرنسية منتظمة ونشطة وعامرة بالمحبة أحيانا كثيرة، فالأدباء خصوصا ممتلئين بالحب، تجد ان عالم المنفيين والمهاجرين من الأدباء ملئ بمن اسميهم (حفاري القبور). الوسط الثقافي العربي، في معظمه متشرذم، فقد براءة السنوات الأولي وصار لصوصيا، منافقا، كل فرد فيه يعد العدة لحرب يريد خوضها ضد الآخرين الذين يفترض عداوتهم له.
ثمة حالات مرضية (باتولوجية) بالمعني السريري. والا كيف تفسر ان شاعرا ومترجما يكرس سنوات طويلة من حياته لتشويه سمعة شاعر آخر وكأن مجده الوحيد كامن في (قتل) هذا الشاعر بالمعني الفرويدي؟
وكيف تفسر ان آخرا يسرق ترجمات الآخرين، وهو لا يفقه من اللغتين شيئا، ويصدر كتبا يضع عليها اسمه كمترجم؟ وهو فوق هذا يصرف كل ما يتقاضاه من نشر الكتاب في نداءات تلفونية شرق العالم وجنوبه يشن فيها حروب وقائية ضد المترجمين الجيدين الذين سرقهم لأنه غير واثق من نفسه أو ضميره دون شك يؤنبه؟ وكيف تفسر سلوك هؤلاء الذين يهاجمون إصدارات الآخرين قبل ان يقرؤوها و أولئك الذين يصرمون وقتهم ومالهم في التنقيب ــ وبصبر الآثاري ــ عن زلات في ترجمات غيرهم؟
ــ هناك الكسل والغش والانكى شيوع مافيات أدبية صغيرة تروج يوما لهذا ويوما لذاك من دون ان تستطيع فهم مقاييسهم. تجمعات لا تفهم الرابطة بينهم يوما تلتحم وآخر تنفض وتنقسم علي نفسها بسرعة الضوء كانقسام السبايرو جيرا التي درسنا انقاسمها السريع في مادة علم الأحياء؟
هناك ما هو مضحك، فهذه المؤامرات التي يتقنها البعض متصورا انها مؤامرات ماكبثية تدور في قصر دنسينان حيث الغابة تسير نحوه بينما مكانها هو في غرف بائسة من نوع غرف خادمات موليير اللواتي يتحدثن لغة مبتذلة، ثم هناك مشكلة انعدام المعايير التي تقتل في المهد كتابا للمستقبل وتضيع جهودا كثيرة للآخرين الذين يريدون للأشياء ان تخرج من دورتها المألوفة. لكن الكاتب الحقيقي يستطيع دوما ان يمر ماضيا الى الهدف مترنما بقول المعري:
لقد نبحوني وهاجمتهم
كما نبح الكلب ضوء القمر
كيف تري الثقافة العراقية ما بين (الهنا) وتلك (الهناك)؟
ــ لكن ما هي الثقافة العراقية؟ أنا انظر الى ما نسميه بالثقافة العراقية كجزيرة في أرخبيل الثقافة العربية. اللغة واحدة، والهاجس ذاته وفقه اللغة لم يتجاوز الثعالبي بعد. انها جزء من ثقافة في أزمة انتقالية، في مرحلة سؤال الانتماء الى الماضي أم الحداثة وما بعدها. من جديد أعود الى مشكلة الحوار والمرآة. نحن لم نبدأ، إلا في حالات محدودة، مسألة الإنجاز الثقافي أي مسألة العلاقة بالمجتمع والمتخيل وطرق التعبير. كل شيء في حالة ضبابية والتعريفات التي يحاول البعض اجتراحها ليست ذات أهمية. ما هو مهم هو الدخول في منظومة المتخيل والقيم الجمالية اجتماعيا.
كل هذا مرتبك ونحن مازلنا نعتمد ثقافيا علي التراث والغرب دون إيجاد علاقة متوازنة بين الاثنين.
لا بد لي من قول هذا قبل ان أعود لنتحدث عن الثقافة العراقية كثقافة عربية بخصوصية محلية مصدرها التاريخ والجغرافية وما ينتج عنهما من متخيل وحالة نفسية وشكل خاص من التلقي. هناك شيء آخر في الثقافة العراقية ــ كحدود سياسية ــ هو وجود أدب كردي نجهله في العموم لسوء الحظ، رغم انه أدب عراقي محلي في طور متقدم حد معرفتي المتواضعة. لعل هذا ما يميز الثقافة العراقية عن ثقافة سوريا أو مصر أو تونس مثلا.
الثقافة العراقية الحديثة استطاعت ان تنجر أول الأسس في منتصف هذا القرن، خصوصا بثورتها الشعرية التي عصفت بأسس الشعر العربي برمته، ومازالت بشكل أو بآخر. والثقافة العراقية أنجزت شيئا في القصة القصيرة وفي الآداب الاجتماعية. كانت تلك هي الأسس الأولى. غير ان البناء تهاوي فجأة في ستينات القرن الماضي جارفا الأسس أيضا، والجيل الذي كان ممكن ان يكون حلقة الوصل للمستقبل انقرض دون ان يترك تلاميذا ولم يعد، في هذه الحال، ثمة تواصل بين الأجيال. هكذا يبدو لي ان لا شيء قائم اليوم غير الشتات والخواء والكمون.
 

الهنا والهناك
القضية ملحة فهذا الكمون الذي اقصده مثل جذور الشجرة المقتلعة والمتروكة في العراء، لن يعيش حتى نهاية الربيع اللاحق دون رفده بماء وتربة جديدة. طبعا هذا إذا لم يتعرض الى زمهرير طويل. لحسن الحظ فان الروح التاريخية لكل ثقافة كفيلة بمنع هذا الزمهرير لأمد ما.
لكن علي صعيد آخر، زمني وما تسميه الهنا والهناك ؟
فان الثقافة العراقية اليوم هي في اغلبها ثقافة شتات. اجهل نسبيا ومنذ وقت طويل التفاصيل اليومية للداخل. بالتالي ليس لي حق الحكم.
غير أني اعتقد ان لا ثقافة في الداخل والثقافة العراقية ــ العراقية بمعناها الإنتاجي تحولت الى الخارج. كما انه منطقيا ليس من السهل ان تكون هناك ثقافة ــ بمعني الكلمة ــ في أوضاع كالتي يعيشها العراق حيث ان العراق اليوم هو صدام حسين والزينة التي حوله؟؟كل شيء هباء في هكذا زينة.
لكن في هذا الشتات الموزع علي (الأراضي السبع ومابينهن) فهناك دأب أسطوري للعراقيين. ثمة نتاج وثمة بحث و ثمة جديد. غير ان الصورة لم تتضح بعد. هناك اهتمام بالرواية والقصة القصيرة بمنظور حديث، قصيدة النثر العراقية هي الأهم في النتاج العربي، لكن المشكلة ان احد من العراقيين لم يفق بعد من الصدمة، اقصد صدمة ذوبان البلاد. الكل يتعلق بأذيال كلكامش والأسطورة العراقية القديمة؟
ــ هناك صورة الماضي تخرج من سباتها لتعوض عن صورة الحاضر غير المعقول. لم يتعلق العراقيين بماضيهم القديم كما هو حادث منذ حرب الخليج الثانية. فالحاضر والمستقبل مفقودان والجميع يريد ان يؤكد للعالم انتماؤه لهذه البلاد. فالعراقي يري نفسه اليوم ضحية خراب العالم.
العربي ضده لأنه ضد البطل القومي والأوربي ضده لأنه يري فيه امتدادا لصورة هذا البطل الموهوم والشركات الدولية تري فيه عقبة أمامها يشوش مستقبل استثماراتها.
والمثقف العراقي لم يعد يفكر في بلد اللجوء بل المهم ان يجد مكانا يستطيع ان يتناول فيه عشبة النسيان بعد ان عرف ان الشافعي سرقت عشبة الخلود من جده الأسطوري كلكامش. لن أقامر، كما البعض، بالحديث عن أدب داخل سيهز المشهد الثقافي العربي، فالحربين لم ينتجا بروستا واحدا ولم ينتجا أي رونيه شار؟
علي العكس فقد تخلف كثير من كتابنا بعد ان انغمروا في تدبيج أدب الحرب وصرف أموال الجوائز الوهمية.
أما التراكم الذي حدث في العقدين الأخيرين فهو تراكم أسلحة وهزائم والتراكم الثقافي الذي ننتظره قد يأتي ثماره بعد عقدين آخرين حينما سيفيق الجيل القادم علي هول ما حدث.
حلم بعيد
كيف تنظر الى (تلك البلاد) اليوم، الى ذكرياتك عنها، عن تلك الوجوه التي تبدو سحيقة في العمق وبعيدة كالمستحيل أمك؟
ــ أشبه بحلم بعيد، لكني أتذكره بتفاصيله.
اعلم ان الذاكرة انتقائية، لا تري المرء إلا ما يريد. أحيانا، وقد مر الزمن واندملت الجروح علي الجلد، تبدو؟؟
اعتي الأيام وكأنها نزهة أمام منظر رعوي! لكن، كما قلت لك، فان خلف أكمة الجرح المندمل شيء مبتور. هؤلاء الذين بترت أطرافهم في الحروب أو في حوادث الطرق، يبقون يتحسسون تلك الأطراف كما لو انها ما زلت بعد في خضم أجسامهم. تجد ابترا يقول لك ان ذراعه تحكه ويقصد الذراع المقطوعة التي تلفت وبادت منذ زمن. الحالة هكذا.
كل شيء ما زال في مكانه وكأن العالم الذي تركته ظل جامدا هناك، لم يتحرك منذ لحظة وداعي له. حسب الغبار ما علاه.
في هذا الحلم البعيد، تأتي وجوه وتذهب وجوه. يأتي الأموات الذين سمعت بموتهم وكأنهم مازالوا أحياء. تأتي بيوت ــ لاشك انها هدمت ــ وشوارع مغبرة كأني مازلت اقطعها عائدا في المساء الى الدار. أحيانا أراني ماشيا في شوارع بغداد وعمري ما يزال عشرون عاما. كل شيء حي، لم يهرم ولم يتغير وكأن المنفي صورة من صور الخلود...
أحيانا يبدو لي وكأني عشت أكثر من حياة هناك، رغم أني لم اعرف (تلك البلاد)، كما يسميها صديقنا صلاح فائق، غير عشرين عاما بضمنها طفولتي.
لكن حينا آخر، يبدو كل شيء ?غائبا، مطمورا بطبقات من الزمن صعب اختراقها.
ولا شيء واضح غير صورة الكابوس الذي أطبق علي هذه البلاد.
في ربع قرن رأيت صورا غريبة ومفزعة: صورة بغداد تحت القصف مضاءة بلون شيطاني، صورة طوابير الأكراد، الشعب الكردي برمته في سفر خروج؟؟
دون نبي، صورة تلال القتلى في الحرب العراقية ــ الإيرانية وصور الناس الذين لا اعرف وجوههم، بل استغربها، وهي ترقص فرحا بالهزائم كأني أري صور بلاد لم اعرفها أبدا ولم اعش فيها هذه العشرين عاما.
هكذا بين وجهي الطيف: الحلم والكابوس تتبادل صورة البلاد.
الشيء الأكثر صفاءا والذي لا يغير صورته هو الطفولة. لعلي عشت طفولة سعيدة! فكل الصور والذكريات القادمة من هناك بيضاء، ناصعة.
وكلما تقادم الزمن تبزغ صور الطفولة حتى أني عدت أتذكر تفاصيلا كنت قد نسيتها في العراق.
صورة أمي الشابة مثلا تأتي مرارا رغم أني رأيت صورها وهي امرأة هرمة بعد غيابي الطويل عنها.
صرت أتذكر أسماء رفاقي علي رحلة الصف في المدرسة الابتدائية بل أحيانا أراهم بملابسهم التي كانت تتغير حسب الفصول واشم روائحهم الريفية. حتى اللعب الصغيرة التي كنا نصنعها ثم نمل منها ونرميها، أتذكر يوم أين تركتها...
كأن الذاكرة دائرية المنحي. قد يكون اليأس بلغ منتهاه فدار علي نفسه بصورة آمال تنبثق من عمق الذاكرة البعيدة...؟
لا أدري ان كانت الذاكرة نفسها تقاوم تقادم الزمن وغلبة النسيان علي هذا المنوال! أني أتساءل دائما وأفكر بهذا. والا ما معني أني ارفض الموافقة علي موت الكثيرين من أصدقائي هناك، رفاق طفولتي وشبابي، بينما أوافق علي موت الآخرين الذين رحلوا هنا؟
حتى اليوم لم أوافق في قرارة نفسي علي موت أبي الذي رحل عن هذا العالم عامين بعد رحيلي عن العراق، منذ زمن طويل اليوم....
لكن أيعني الحنين وطاقته سعادة العودة؟ لا ادري لقد تركت بلادا اعرفها غير انه من يجزم ان هذه البلاد التي في ذاكرتي هي نفسها التي سأعود إليها، خصوصا ان قدر العراق كما يرسم اليوم يجعل الأبواب مفتوحة علي احتمالات ليس لها علاقة بالتاريخ والجغرافية التي نعرفها لهذه البلاد.
وأنا أتحدث إليك، اشعر ان الصورة القادمة معتمة ولن يستطيع بصر الرجل الذي أمامك الآن ان يري ما يريد ان يراه.
شيء واحد اعرفه اليوم: إني ما أزال احمل في رأسي حلم العودة المستحيلة والمطلق.
حاوره: خالد المعالي

إذا كان الرابط لايعمل لسبب ما, فالرجاء البحث في مجلد الكتب المحملة حتى اليوم:
http://www.mediafire.com/#ms1dzyv1tns14
or
http://www.4shared.com/folder/QqJXptBS/_online.html


No comments:

Post a Comment