مؤلف الكتاب: آرام كرابيت
نوع الكتاب: دراسة
دار النشر: جدار للثقافة والنشر
تاريخ النشر: 2010
مكان النشر: الاسكندرية - مصر
هذا الكتاب لآرام كرابيت يصف فيه رحلته في سجون سوريا في فترة شهدت الكثير من الاعتقالات، وذهب ضحيتها عشرات الالاف من السوريين من مختلف الاتجاهات. يصف آرام في كتابه هذا يوميات السجن، أو يكتب عنها، أو يصورها من داخل السجن
فصل من الكتاب:
كانت السماء ملبدة بالغيوم،الضباب المنبعث من سفوح الخابور يسرح فوق مروج السماء والأرض منذراً بموجة طويلة من البرد والعواصف. تقترب الألوان من بعضها لتتوحد في لون واحد مختلس، لون مسكون بالغم والحسرة وظلمة المجهول.
توقفت السيارة عند مبنى المحافظة في مدينة الحسكة. ترجل المساعد أبوعزيز مختالاً كالطاووس الفارغ، ممتلئ الاهداج كالديك الرومي المنفوش الريش. بقينا أنا ومحمد خير مكبلين بالأصفاد.
تكومنا على بعضنا كالطرائد الجريحة الهاربة، نحتمي ببعضنا من قسوة وشراسة عدونا المملوء بالحقد والكره. كانت الذئاب، عناصر الأمن السري مستنفرة مستعدة لتلقي الإشارة القادمة كي تغوص في نهش ضلوعنا. في تلك اللحظات الأليمة كنت أحاول الهرب من هذ المكان. وزعت نظري وقلبي على محيط المكان، أجوب فيه، أحدق في الوجوه القادمة والغادية. كواكب من البشر تمر بالقرب منا غير مبالية. لا يلتفتون إلينا، غائصون في أحاديث جانبية، في شؤونهم الخاصة، غير عابئين بشيئ. لا ينظرون إلى السيارة ومن فيها. رصدت قسمات الناس في تلك الأونة، رأيتها غريبة، تنحو نحو الاغتراب. النفوس شاردة، منهكة، متعبة تمشي على غير هدى. ما أن يقتربون من مقدمة السيارة حتى يديرون وجوههم إلى مواضع آخرى. قفزت الأسئلة المختلسة إلى ذهني دون إرادة مني، لماذا لم أرَ من قبل هذه الملامح المسكونة بالهرب من زمنها، لماذا ينحون نحو الهم والشرود. وجوه ضاربة في البحث عن لا شيئ. كنت أتمنى أن أرى وجهاً يشيئ بلون الفرح أوالدمع. لم أرَوجه طفل، عصفور يغرد على شجرة، امرأة يقظة من فرح. كأن الحيوية والنشاط لم تكن في أجساد هذه الكتل المتحركة من قبل. قلت لنفسي الهاربة، هل كنت مثلهم من قبل؟ هل عشت في هذه المدينة من قبل؟ بين هؤلاء الناس المتحركة؟ أسئلة تواردت بقوة في ذاكرتي المتعبة، المستباحة إلى لون الضياع.
استيقظ قلبي من غفوته، راح يبحث بلهفة عن وجه حبيبتي الأبيض النقي، كبياض الشمس في يوم ربيعي ضاحك. أعلم أنني أقطع رحلة الوجع الطويلة، وفي تقاطيع نفسي هم محفز، وسؤال ملحاح، يكررذاتي: إنني لن أعود إلى بلدي في القريب العاجل من السنين، أما إذا عدت، فإن الزمن الأغبر سيحرث سكته العمياء في ذاكرتي ووجهي، في شراييني وقامتي ويبعدني مسافات طويلة عن زمني ليرميني في زمن آخر ومسافات مجهولة.
غطست في الوشوشات القادمة من بعيد، في زمن الدهشة والاستغراب. اضطربت وانتابني شعور عميق باليأس والألم، الخروج الفجائي من الزنزانة الضيقة، التحقيق، التعذيب النفسي والجسدي، أقدامي الموجوعة المتورمة، المحتقنة بالدم الأزرق المسود من الضرب بالخيزرانات. وجهي معفر وجسدي لم يغتسل، لحيتي كثة، وانقطاع سديمي طويل عن العالم الخارجي.
لحظة انقسام اللحظة على بعضها، أحدهما يطوي جناحيه ويرحل إلى الماضي والآخر يرفرف بعيداً إلى مستقبل غامض ومجهول، لحظة متناقضة، وداع ورحيل. هذه الدقائق القليلة، الفاصل، نهاية ارتباط بزمن والبدأ بزمن آخر. ساترك مدينتي مرغماً إلى غيررجعة، لهذا عملت على استعادة الوجوه، الأشجار، الشوارع. بقيت نظراتي هائمة تجول المكان. تغزوني رائحة التربة المبللة ورذاذ المطر المعطر برائحة الأشجار العارية.
تفاصيل كثيرة مكورة في جوف ذاكرتي لا يمكن أن تخرج بسهولة، تغرز أناملها في قلبي وروحي في هذه اللحظة المتحركة، لحظة اقتلاعي من جذوري، من وجودي ونقله إلى مكان آخربالرغم عني. تتقافز أمامي صورالذين أعرفهم، أحبهم، الذين يعشعشون في داخلي، أهلي، أبي وأمي وأخوتي الصغار، الأصدقاء، صورة رشا أبنة أختي ذات الأعوام الثلاثة بوجهها البريئ، مشيتها الجميلة، رشاقتها ودفئ الروح في ملامح عينيها الغريرتين. صورة الطفلة وهي تلفظ الكلمات بحذر وحياء، تكسر الكلمات بين أسنانها اللبنية الغضة. يحملني العطش للحب إلى رياح البحث عن الشوارع التي عانقت ذاكرتي وسطرتها في كل ركن وزاوية مني. توقفت حدقة عيني على أغصان شجرة عارية من الأوراق، الضباب، يلعب في عراؤها ويعانق وجعها، يمتص أنينها ويرميه خلف السحب الراحلة إلى رحيل.
هذا الافتراش لروحي على بساط المكان ترك لدي انطباعات غريبة لا أعرف كنهها إلى اليوم، كما لا أعرف كيف أعبر عنها. باختصار كنت أتمنى أن يتوقف الزمن كي أبقى في الزمن ذاته.
حمل المساعد أبو عزيز الملف الأخضر بيده اليمنى ونزل متجهاً صوب الحاكم العرفي للمحافظة، بفرح ورشاقة وثقة، به أسماءنا ليوقعها.
أو
No comments:
Post a Comment