في مجموعته الشعرية "طفل المدينة" الصادرة عن "أزمنة"
"يموت قرب بوابة الصحراء ولا أحد يردم الضوء فوق عالمه الجديد"
لا ينطبق المثل القائل "المكتوب يقرأ من عنوانه" على مجموعة الشاعر السوري علي سفر "طفل المدينة"، الصادرة حديثاً عن دار أزمنة للنشر، فليس العنوان كما يبدو عنواناً لمجموعةٍ قصصيةٍ أو عملٍ روائي، بل هو مجموعة لقصائد نثر لم تفلت من السرد.
كما أن "الطفل" بوصفها مفردة تؤشر على البراءة ولطف الحياة وبدايتها، لا تبدو كذلك في عنوان سفر، فرغم اتساقها بـ"المدينة" وما يجب أن يدل عليه التركيب من الغنج ورهافة العيش وتنعمه، إلا أن الحكاية حكاية موت وغياب وألم، وليس الطفل مصاباً برغد عيش المدينة بل مصاباً بمرارة الفقد وصلابة الاسمنت فيها.
في النص الذي يفتتح فيه سفر ديوانه يظهر تمسكه في فن السرد ويجنح للقصة أو السيرة ليقول ما يعتقد ان القصيدة ربما لن تفلح في قوله، ويعترف بصعوبتها على الغلاف الخلفي للديوان حين يقول: "أيتها القصائد المدلاة.. على أغصانٍ من شغف وموت.. كم هو صعب قطافك.. وكم أنت جارحة ومرة..".
على غير العادة يضع الشاعر مقدمة يرى أنها "ضرورة لابد منها"، وبعنوان "الطريق إلى المدرسة" يسرد سَفر قصة تكونه من سلسلة حالات فقد على صعيد المكان –في تغير مكان مدرسته وتغير الطريق إليها- وعلى صعيد الأشخاص – في موت أبيه-، فيظهر ممسكاً بالسرد ليس فقط على صعيد عنوان المجموعة أو مقدمة ديوانه بل بعنوان القصائد أيضا فيعنون مرة بـ"الحكاية" و"سر العتبة"، ومرة بـ "تفاصيل محذوفة" و"هوامش".
مشغولا بالموت يتبدى سَفر فالطريق عنده ليست طريق البيت أو المدرسة أو الجبال البعيدة، بل هي طريق الرحيل إلى المقبرة إلى الله إلى السماء، والخشب في نصه ليس لأشجار سامقة تصنع أثاث البيت ومقاعد الانتظار، الخشب عنده لتابوت يؤوي جثة. وكذلك الخيط والقماش والإبرة، فهي عند سفر لم تأت لتحيك ثوب زفاف أو ترتق شقاً أصاب قميصه، إنما جاءت كلها لحياكة كفن فيقول في قصيدة "الخياط": قد يفاجئني الألم وأنا أوزع خيوط الحكاية على حدود ما يمتد جسداً.. فأدرك أنني أصنع كفناً".
يصبح سفر مشغوفاً بفكرة الموت منذ فقدانه والده وهو ابن المدرسة الابتدائية وابن المدرسة الحياة، فتصبح الجبال لديه جبال الموت، وتنكس الأشجار رؤوسها كناية العزاء، وحتى جسده لم يعد، قلباً ينبض حياة أو رئتان يستنشقان هواء رطبا، بل بات حالة مؤقتة معرضة للفقد في "الهباء" أو "في محطة قطار"، ولم يعد يرى جسده غير "محمولاً على سجادة الفقد".
فيقول في قصيدة بعنوان "الطريق إلى أثينا": "قد أسمع صوت أحد يغني فأبكي إلى آخر تذكري لحكاية غيابك، بمرارة الزبد الساكن محمولاً على سجادة الفقد، أضعت شيئاً بين الجملتين اللتين سربتهما لي همساً قبل أن نرتفع بالمنطاد إلى أعلى شغفاً بالموت".
ليس فقط مشغوفاً بالموت يظهر سفر بل بات الموت في كل مفردة من مفردات حياته، فيعترف أنه يمرعلى قبر والده كل صباح حتى ولو مجازاً، فيقول: "ونحن نمر قرب الجدار الذي يفصلنا عن قبركَ وهو من حملك إلى الغياب.. وهي من تحملك إلينا كل صباح..".
الموت الفقد والغياب والأفول، كلها حالات عاشت سَفر وأنتجت قصائده فبات البحث عن الفرح ضرورة بوصف ذلك كله ذو مذاق مر، فحين يقول في قصيدة "الشاعر": "لا يدركني الفرح إلا مقتولاً بآخرتي" تصبح النجاة هاجساً والفرح غاية، فيجد مقابل مفردة الموت مفردة المرأة، ويعوّل عليها هروبه إلى مساحة مغايرة ربما مكتظة بالبهجة.
المرأة عند سفر احتمال النجاة وسؤالٌ إجابته احتمالين، فهل تنجيه فكرة المرأة أم يموت؟ يجيب سَفر في قصيدة "الشاعر" حين يقول :"أنا الشاعر بين الخياط والمرأة.. لا أصابع رتقت المسافة بين الجروح وقصائدي ولا تلويحة يدها أرشدت دربي إلى قاعها.. وقرب بوابة الصحراء أموتُ ولا أحد يردم هذا الضوء وهو يهبط فوق عالمي الجديد..!"
يموت سفر قرب بوابة الصحراء مشغولا بالحياة الأولى فيقول "لا أحد يردم هذا الضوء وهو يهبط فوق عالمي الجديد"، فلا نجاة لسفر حتى في موته.
يشار إلى أن "طفل المدينة" جاءت في 118 صفحة من القطع المتوسط، والشاعر علي سفر ولد في سورية سنة 1969، خريج الآداب والدراسات المسرحية بسورية سنه 1993، ويعمل صحافيا ومخرجا تلفزيونيا يقيم في دمشق صدر له : بلاغه المكان 1994، صمت 1999، يستودع الإياب 2000، اصطياد الجملة الضالة 2004.
العرب اليوم - محمد أبو عرب
No comments:
Post a Comment