Monday, April 23, 2012

عزيز السيد جاسم - الزهر الشقي




منذ القديم ومفكرو العالم وفلاسفته يأخذون على عاتقهم مهمة تغيير العالم والسعي إلى تبديله نحو الأفضل ، كلما أتيحت لهم الفرصة لذلك ، وهو أمر لم يتقبله أصحاب السلطة الغاشمة ،لذلك سعوا إلى خمد تلك الأصوات ووأدها بكل ما أوتوا من قوة وإمكانات ، على أن ذلك لم يقتصر على زمن من دون غيره ، بل أن ذلك تخطى حدود الزمان والمكان ، ولكن بأساليب مختلفة ، وأصحاب السلطة اليوم لا يقتلون المفكرين بل يسخرون منهم ، ليس لان القتل أصبح أسلوبا مرفوضا هذه الأيام ، بل لأنه لا جدوى من قتل الموتى ، فإذا كان الخطر الذي يتهدد عموم الفلاسفة والمفكرين قديما هو قدرتهم على تزويد الناس أفكار يناضلون في سبيل تحقيقها . أما اليوم فان ما يقتل اغلب المفكرين هو عقم وعطالة ما يقولونه ، سوى النزر اليسير منهم ، كعزيز السيد جاسم ، فقد قتله فكره ،فالمفكرون تقتلهم أقوالهم، في حين يقتل الثوار أفعالهم ، هكذا هو ديدن الحياة منذ سقراط حتى يومنا هذا ، فقد غيبت وسحقت المئات من العقول الفاعلة، لأنها اخترقت الحجب وكشفت المستور الذي تحاول السلطة طمسه وفضحه، وفي هذا السياق لابد لنا من تذكر مقولة معاوية التي ما زالت إلى الآن خارطة الطريق التي يسير عليها معظم الظلمة، وهي قوله:((إنني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا ))، ولكن يبدو أن كتاب ( علي سلطة الحق ) حال بين القوم وملكهم ، أو هكذا ظنوا هم ، نقول ربما كان هذا الكتاب هو القشة التي قتلت عزيز ، فقد تحدى به المؤلف السلطة ، لأنه كان يعلم أن دوره كمفكر ومثقف يحتم عليه ذلك ، في وقت لم تكن السلطة الغاشمة على استعداد لقبول هذا التحدي ، كما أنها لم تكن على استعداد لقبول فكرة أن المفكر وسيلة للارتقاء وليس للقمع، لذلك كان عليها التخلص منه ، بعد أن أصبح خطرا عليها ،خوفا منه فربما كان قدوة لغيره بان يحذو حذوه .
كثير من المثقفين لا يعرف عزيز السيد جاسم وإن عرفه فمعرفته به معرفة سطحية، ويكفي عزيز السيد جاسم فخرا أنه أول كاتب عربي في العصر الحديث يولي موضوعة الحرية اهتماما خاصا ،بوصفها بعدا فلسفيا لوجود الإنسان,واقصد كتابه (الحرية والحرية الناقصة) ، وبذلك يكون عزيز السيد جاسم قد سبق كتابا كبارا كزكي نجيب محفوظ وزكريا إبراهيم وآخرين ، الأمر الذي جعل الفيلسوف والمفكر العربي المغربي عبد الله العروي يفرد فصلا من كتابه ( مفهوم الحرية ) لمناقشة أفكار السيد جاسم في هذا الخصوص ويعلق عليها (1) .
عزيز السيد جاسم من رعيل الستينيات الذي أرسى دعائم الحركة الثقافية والنقدية في العراق مع مجموعة من كبار المفكرين والكتاب العراقيين آنذاك أمثال جبرا إبراهيم وعلي جواد الطاهر وعلي الوردي وفاضل ثامر وعناد غزوان والملائكة وآخرين ، وهو طاقة إبداعية متفردة، وكاتب موسوعي استثنائي صاحب نظرة شمولية في التفكير لا تتوفر إلا لقلة من الناس ، أتحف المكتبة العربية بكتاباته التي تجاوزت الأربعين مؤلفا موزعة بين ميادين مختلفة كالسياسة والأدب والاقتصاد والتاريخ والفكر والفلسفة، فضلا عن الدين، الأمر الذي يجعلنا نقول : إن المؤتمرات والجوائز والاجتماعات وحدها لن تف هذا الرجل حقه وعلى القائمين على حركة الثقافة في البلد إيلاء الأهمية الكبرى لرموزنا الثقافية كإقامة النصب التذكارية لهم وإطلاق أسماء الأحياء العامة وأماكن الثقافة على مسمياتهم .
اقترنت ناحية النصر فضلا عن موقعها الجغرافي المتميز على نهر الغراف ،بكونها مسقط رأس المفكر والكاتب عزيز السيد جاسم فقد ولد عزيز السيد جاسم وترعرع فيها في بداية أربعينيات القرن الماضي.كانت ناحية النصر تسمى في بداية نشأتها عام 1937 بالغازية نسبة إلى الملك غازي ، ولا يعرف هنا سبب هذه التسمية على وجه الدقة ، إلا أن من المؤكد أن هذه المدينة كانت في بدايتها قرية صغيرة ، ثم سرعان ما تحولت إلى وحدة إدارية مستقلة ( ناحية ) في عام 1953 ، وبعد انتصار ثورة عبد الكريم قاسم وتيمنا بهذا الانتصار تم تغيير اسمها إلى ناحية النصر .
عائلة عزيز السيد جاسم ، مكونة من الأم التي هي ابنة السيد حيدر السيد فياض وقد أنجبت ثمانية أولاد أربعة ذكور وأربع إناث، اكبر الذكور سيد عزيز ويأتي بعده محسن والثالث هو السيد محمد ، وله حكاية معروفه مع علي حسن المجيد أيام ما كان السيد محمد مديرا لناحية النصر ، ورابع الذكور هو سيد عباس. أما الوالد فهو سيد جاسم ابن الفقيه سيد علاوي وثمة عمومة تربطه مع السادة القرابات وهم أولاد عم السادة القزاونة ، كان السيد جاسم يسكن في قرية( أبو هاون )وتربطه صلات حميمة بالسيد عبد المهدي المنتفجي والد السيد عادل عبد المهدي ( 2 ) .
يقول عزيز عن نفسه:(( في قرية الغازية الوديعة ـ ناحية النصرـ فتحت عينيَّ على الدنيا وكانت صورة علي بن أبي طالب رضي الله عنه معلقة على الحائط ! تلك هي الصورة التقليدية الشائعة بألوانها الساخنة وبالمهابة المميزة لوجهه الكريم تحيط برأسه هالة نور!! وكانت صورة الأمام حاضرة في البيت مثل البيت والأب والأم والأخ والأخت! فلم يكن ممكنا أن يكون البيت بدون صورة!! .... بعد أكثر من ثلاثين سنة هي رحلة طويلة في الكدح والمعاناة الذهنية أهديت لي صورة لعلي بن أبي طالب مصورة عن متحف اللوفر بباريس وهي صورة اقرب إلى حقيقة علي من سواها !وربما هي من رسم احد الرهبان ففي الصورة شموخ عجيب وقوة هائلة واستقرار تاريخي !كان عليٌّ راكباً حصانه حيث ظهر اعل من حجعة السرج! ولكنه بدا متبوئا مقعدا تاريخيا شديد العلو...)) ( 3 )
ومن الطرائف التي يرويها أخوه محسن الموسوي : يقول إن مدير المدرسة الابتدائية الوحيدة في قرية الغازية ، وكان اسمه ( صبري فرج الله ) ينقل هذا الرجل أن عزيز السيد جاسم زعل على المدرسة ومزق شهادته التي تشهد أنه الناجح الأول في صفه ، وذلك بسبب طريقة كتابتنا لاسمه فيها ، إذ كتبناه عزيز جاسم علي ، فقال مخاطبا المدير محاولا كبت غضبه : ((أستاذ أنا عزيز السيد جاسم وانتم كتبتم في الشهادة عزيز جاسم علي أنا لا أوافق لان اسمي عزيز السيد جاسم )) ،وهكذا كتب اسمه حين انتقل إلى الثانوية ! ، والطريفة الثانية التي ينقلها إلينا أخوه محسن الموسوي هي : أن والدته كانت تحتفظ بأوراق ومستندات عن ديوان الوالد وأملاكه والمبالغ التي يطلبها السيد جاسم من الدائنين ، وحين خرجت الوالدة من البيت لقضاء بعض الأشغال تسلل عزيزـ الذي كان صبيا ـ بهدوء واحرق الوثائق والأوراق ، ولما رجعت الوالدة لم تغضب ولم تعنف عزيز وإنما قالت : عفية عزيز خلي نبدي جديد ونعتمد على رواحنة ! ( 4 )
أكمل عزيز السيد جاسم دراسته الابتدائية في قرية الغازية ، ومن ثم انتقل إلى الناصرية ليكمل فيها دراسة الإعدادية ، ولكنه كان يرجع في أثناء العطلة الصيفية إلى الغازية ، ليعمل في طاحونة ومعمل للثلج وفي أثناء ذلك انتظم إلى تنظيمات الحزب الشيوعي ، وهو في الخامسة عشرة من عمره ، واستطاع أن ينظم أصدقاءه الشباب في مدينة النصر لهذا التنظيم ، كان عزيز السيد جاسم كثير المطالعة في هذه الفترة إذ استطاع الاطلاع على الفكر الماركسي ، فضلا عن مؤلفات مشاهير الكتاب الغربيين أمثال فولتير وجان جاك روسو وغيرهم وفي الوقت نفسه لم يمنعه الانشغال بالفكر الماركسي من قراءة كتب التاريخ والأدب العربي والإسلامي ، الأمر الذي جعله يكتنز علما وثقافة واسعين ، مما سهل عليه استقطاب الشباب أمثاله وقد مكنه هذا الأمر من لعب دور المحرض والقائد للشباب ، فأودع السجن مرات عدة في الناصرية اثر قيادته عدد من المظاهرات للمطالبة بمستقبل أفضل ، وقد بلغ هذا الدور أوجه بعد قيام ثورة 14 تموز ، عندما اظهر عزيز السيد جاسم مقدرة على الكتابة في أمور تحريض الجماهير، فضلا عن مقدرته على قيادة تلك الجماهير وتنظيمها ، ولاسيما صفوف الشباب .
كانت كتابات عزيز السيد جاسم في تلك الفترة تركز على الهوية العربية والإسلامية للحركات التحررية العربية ، مما جعله يصطدم بموقف الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه ، وعلى اثر ذلك قرر ترك الحزب الشيوعي عام 1960 ،وعبثا حاول رفاقه ثنيه عن قراره هذا ، فقد أصر على حرية الفكر ورفض القوالب الفكرية والأجوبة الجاهزة، مؤكدا خصوصية الوضع العربي وأصالة الفكر الإسلامي بعيدا عن المصالح الضيقة والتعصب الفئوي ، ومن بين ما أثر عنه في تلك الفترة أقوالا منها : كل ما يدعو إلى الخير يتصل بعضه ببعض ، وإن كل ما يخدم الناس يخدم الرب ، وأن الجانبين الاقتصادي والسياسي للماركسية لا يتناقضان مع الإسلام ، وان الاستعمار والظلم والدكتاتورية والقتل سواء.. هذه هي الحقيقة التي لا مراجعة فيها ، وان الجماعات توحدها المصلحة . أما الحرية فلا توحد إلا الأحرار وكرماء النفس ، وان الفكر الحر لا يعرف التأطير، وان الذهن الحر يتفتح على الدوام على الأفكار والمستجدات ويكرس طموحات وتطلعات الناس ، وإن المثقف الحقيقي مثقف حر، وبحكم ذلك فهو أكثر من سواه قدرة على معاينة ظواهر الاستعباد، وكذلك يكون أكثر من سواه إدراكاً لقيمة التوجهات السياسية التي تخدم الحرية وأكثر استبشارا بها (5 ) .
على أية حال ، تعرض عزيز السيد جاسم في هذه الفترة إلى المضايقة بسبب أفكاره ، وفي هذه الفترة أودع السجن مرات عدة ، مما اضطره في زمن الأخوين عارف إلى اللجوء إلى الكتابة الأدبية مبتعدا عن هموم ومشاكل السياسة ، ولاسيما بعد عدم تأييده انقلاب شباط 1963 ، فصار يكتب بعض الدراسات النقدية و الأدبية وينشرها في كبريات الصحف والمجلات الأدبية العربية ، وقد استطاع عزيز السيد جاسم من خلال تلك الكتابات أن يؤسس له كيانا يشار إليه بالبنان ، حتى استطاع من خلاله أن يشق طريقه إلى العمل محررا في صحيفة الثورة البعثية ، بعد أن ساعدته صداقاته مع نعيم حداد وصلاح عمر العلي وعبد الخالق السامرائي على ذلك ، فراح يكتب فيها مؤكدا نزعته التقدمية والوطنية ، إلا أن أمله سرعان ما خاب حينما اشتد الصراع بينه مدعوما من عبد الخالق السامرائي وصلاح عمر العلي ، فضلا عن رئيس الجمهورية احمد حسن البكر ،و بين رئيس التحرير (طارق عزيز ) المدعوم من ناجي الحديثي وصدام حسين ،وقد ساعدت أحداث تاريخية كبرى في تأجيج الصراع بين الطرفين ، كأحداث أيلول الأسود عام 1970 ، مما أفضى إلى انتقاله إلى أماكن عمل أخرى ، كرئاسة تحرير مجلة الغد ، فمجلة وعي العمال ، ثم انه قدم للرئيس العراقي آنذاك ( احمد حسن البكر ) دراسة لتأميم النفط ، فوافق الرئيس على المشروع على أن يعمل به بعيدا عن تأثير نائبه (صدام حسين ) ، وبالفعل انغمس عزيز السيد جاسم بالمشروع ، وأدار هو وعبد الخالق السامرائي المفاوضات مع شركات النفط المعنية حتى وصل إلى مراحله النهائية ،عندما كتب عزيز السيد جاسم بيان تأميم النفط وسلمه إلى الرئيس ،طلب منه الرئيس إبقاء الأمر سرا حتى اجتماع القيادة البعثية ، فقد كان هناك تخوف لديه من أن قرار التأميم قد يوأد قبل ولادته ، وقد ساعدت تلك الأمور ، فضلا عن أمور أخرى ،على تأزم علاقة عزيز السيد جاسم بصدام حسين .
وعلى نحو عام ،كان عزيز السيد جاسم في تلك الفترة من طليعة المثقفين العراقيين الذين نظروا للنظام العراقي الذي أتى بعد 17 تموز، وكان مقرباً من كبار رجال السلطة ضمن الدائرة المغلقة ، وكان يحمل مشروعاً لتثقيف السلطة وليس لفرض سلطة المثقف لذا احتفظ بمسافة بينه وبين سياسات النظام، لان مع هكذا نظام لا مجال للمناورة فأما أن تكون معنا بالكامل أو أنت حتماً ضدنا، وهكذا دفع عزيز السيد جاسم ثمن ذلك حياته .
يقول الدكتور عبد الإله الصائغ عن عزيز السيد جاسم : ومن لا يعرف السيد عزيز السيد فهو ابن الناصرية الذي عرف منذ نعومة أظفاره بحماسته للحزب الشيوعي العراقي! وقيل انه كان اصغر رفيق شيوعي يتولى مسؤولية منطقة مهمة في الناصرية! ولأن هذا الشيوعي الحالم كان ذكيا بصورة غير اعتيادية وموهوبا بموهبة شاسعة ودؤوبا بنحو لا يعرف الكلل والملل ! ولأنه خلق ليكون مفكرا مغايرا ! وأديبا مبتكرا ! فقد توفرت له النجومية بوقت قياسي! فمجلتا الأديب والآداب اللبنانيتان ، فضلا عن مجلات علمية ذات ثقل أكاديمي ، كانت تستقبل كتاباته بعاصفة من التبجيل الذي لم يسجل لها قبل السيد عزيز ، وذلك من دون أن تدري شيئا عن عمره الذي لا يتناسب إطلاقا مع موهبته وثقافته ، نعم فالمطلع على كتابات عزيز السيد جاسم وطريقة تناوله الموضوعات يدرك انه واحد من أهم العلماء العرب في علم تحليل النص وتأويله وترميمه ، بل هو من صفوتهم ،كان يكتشف في النص إسرارا لم تدر بخلد كاتبه ولا قارئه وفي أدق تقدير أن عزيز واحد من أهم علماء تحليل النص !! وتحيل قدراته الخارقة على مرجعيته الثقافية الإعجازية ! بمسوغ من تبحره في علوم القرآن الكريم وفقه اللغة وعلوم البلاغة والتاريخ والاجتماع والانتربولوجيا والفولكلور ! وتضلعه في النظريات الماركسية وعلوم الديالكتيك و مقولات هيغل وتمرسه في الفلسفة اليونانية! وهو إلى هذا قارئ مغاير صبور لأعمال غوركي وغوغول ودستيفسكي وتولستوي ثم أعمال ريتشاردز واليوت وبيرس وفيشر ومالرو .!! ، فهو يقول عن نفسه :(( وفي المدينة العريقة الناصرية ابتدأت رحلتي الدراسية ومعها ابتدأت رحلتي في المعرفة مع فولتير وجان جاك روسو وروبسبير ثم ابتدأت اتعرف على نيتشه وشوبنهاور وديكارت حتى وصلت ضفاف الفلسفة الأوربية حيث استطلعت فرأيت ماركس وهيجل وفيورباخ وانجلز ولفلاسفة الأنجليز !! كذلك تجولت في عالم تون بين ولنكولن والسياسيين والروائيين والمفكرين وانقطعت عن عالمي الصغير الأول )) ، لقد قرأ السيد جاسم كل ذلك وهو لما يبلغ الحلم ربما !! ، فقد كان مشروعا فكريا استباقيا يستوعب العربي والشرق أوسطي ، ومزية عزيز السيد جاسم انه يمقت الإنشاء وعرض المعلومات وهو ما كان يشم كثيرا من كتابة الستينات ! انه يكتب بطريقة الكتاب الغربيين الكبار ! فكرة / موضوع / منهج / خطة ! فهو أمين في نقولاته! دقيق في معلوماته موضوعي في توصلاته ! ميداني في خبراته ، ولا غرابه بعد ذلك أن دخلت مؤلفاته وكتاباته اتحاد الأدباء العراقيين! واتحاد الكتاب والمؤلفين! والمجمع العلمي العراقي واتحاد المؤرخين ! ونقابة الفنانين والمعلمين !! لا غرابة إذا دخلتَ كتبه وكتاباته مقاهي النجف الأشرف الأدبية ، فضلا عن المدارس الدينية ، ذلك لأن كتاباته تثير الجدل .( 6 )
تعرض عزيز السيد جاسم في عهد حكم صدام حسين للاعتقال مرتين، في الأولى طلب منه النظام وبأمر من صدام حسين تأليف بعض المؤلفات التي لا تتماشى مع أفكار ومبادئ السيد جاسم،كالكتابة في العلاقة الفكرية الجدلية بين صدام حسين وصلاح الدين الأيوبي ونبوخذنصر ، فضلا عن إجباره على الكتابة في أبي و بكر وعمر وعثمان ،لاعتقاده أن عزيز السيد جاسم كان طائفيا في كتابه عن الإمام علي (ع) ، فتم اعتقاله مع شقيقه الدكتور محسن الموسوي في إحدى الدور التابعة للمخابرات العراقية في منطقة الكرادة خارج في جانب الرصافة من بغداد، وقد سمح له ولشقيقه خلال هذه الفترة بالتمشي خارج البيت وتحت أنظار الحراس لساعة أو ساعتين كل ليلة ،حتى يتمكن من انجاز ما كلف به ،وخلال فترة اعتقاله هذه خضع السيد جاسم لإرادة النظام وقام بتأليف الكتب المطلوبة منه ،فأطلق سراحه بعد فترة وليعتقل مرة ثانية بعد أحداث انتفاضة (آذار) 1991 ، ولاسيما بعد نشره سلسلة طويلة من المقالات ردا على افتتاحيات صحفية كان صدام حسين قد كتبها ونعت أهل الجنوب فيها بنعوت بذيئة ، منها أنهم من أصول غجرية وهندية ، فثارت ثائرة عزيز السيد جاسم فرد على تلك المقالات بالدفاع عن أهله أهل الجنوب ، ومنذ تلك الفترة اختفت أخباره حتى لم تنفع توسطات بعض الأدباء العراقيين والعرب من اجل إطلاق سراحه، إذ بقي مغيباً في سجن أبو غريب قسم الأحكام الخاصة ولم يعثر عليه أو على جثمانه حتى اليوم ، ومما لاشك فيه أن ابن الناصرية لم يكن بحاجة لحجة لقتله، مثل رفضه الكتابة عن جدلية العلاقة الفكرية ، بين صدام حسين وصلاح الدين الأيوبي ونبوخذنصر ، إذ كان يكفيه انه ابن الناصرية لكي يشطب اسمه من قائمة الأحياء .


عزيز السيد جاسم مفكرا :


أتحف عزيز السيد جاسم المكتبة العربية بأكثر من أربعين مؤلفا توزعت بين السياسة والفكر والنقد والتاريخ والفلسفة ،من أهم أعماله : محمد الحقيقة العظمى،ومتصوفة بغداد ، وتأملات في الحضارة والاغتراب ، والاغتراب في حياة وشعر الشريف الرضي ، وديالكتيك العلاقة المعقدة بين المادية والمثالية ، و المجالسية في النظرية والتطبيق ، والدليل في التنظيم ، ومسائل مرحلية في النضال العربي ، وعشرات من المقالات والبحوث في شتى صنوف المعرفة ،فضلا عن (المناضل) وهي رواية شأنها شأن رواية (الزهر الشقي )،فضلا عن (المفتون) التي هي آخر ما نشر للراحل وقد قدمها أخوه محسن الموسوي لدور النشر واشرف عليها . على أن أهم مؤلفاته قاطبة هو كتابه الشهير عن الإمام علي بن أبي طالب ( علي بن أبي طالب سلطة الحق ) ، وربما كان هذا الكتاب فعل التطهير الذي أراد به عزيز أن يزيح عنه الأدران التي علقت بروحه نتيجة تعاطيه السابق مع الفكر البعثي، بعد توظيفه عقله المستنير لخدمة ظلامية البعث، فكان المنظر الأبرز والأهم في حزب لم يعرف ابلغ من القتل لغة وسبيلاً، ولكن هذا الكتاب كان القشة التي قصمت ظهر عزيز، بالرغم من أنه مقتول به أم بدونه،فقد فرض عزيز السيد جاسم بهذا الكتاب على البعثيين معادلة جديدة ، غير معادلة الرصاص والسجون ، أنها طريقة جديدة للتحدي لم يألفوها سابقا .
جاء في هذا الكتاب ما نصه :((...أما الإقتداء بعلي فإنه أمر لا يمكن التحدث عنه إلا بالصعوبات التي تذكرك بالمحال ، الذي يحتاج إذلاله إلى أعاجيب القدرة!! إن الكثير من الكتاب والباحثين والدارسين كتبوا عن علي بن أبي طالب آلاف المجلدات والكتب والأعمال الأدبية ! وأرى أن الكتابة صعبة لأن شخصية علي بن أبي طالب بالغة الثراء في جميع جوانبها!! وفي التاريخ هناك الأسكندر العظيم يعشق الفلسفة فيأخذ معه أرسطو وهو أستاذه! وهناك أفلاطون الفيلسوف وأستاذه سقراط، وهناك بوذا وكونفوشيوس وقادة الثورات والمصلحون، كل متخصص في ميدانه. أما علي بن أبي طالب فهو الحاوي على جميع سمات العبقرية المتعددة! فهو الخليفة والقائد وهو المحارب العظيم وهو الفيلسوف وهو الأستاذ في العدل والمؤسس لعلم النحو وهو الفقيه والقاضي والعالم بالحساب والفلك! وهو أمير البلاغة والشاعر والحكيم والحافظ لتراث محمد رســـول الله- ص - وهو الأخلاقي الرفيع والأنموذج في كل شيء يستطيع المرء أن يتعلم عنه أشياء كثيرة ولكن لا يستطيع أن يكون مثله ....)) (7)
تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه يمثل حلقة من حلقات الرفض والمعارضة التي تبناها السيد جاسم ، ففي كتابه ( متصوفة بغداد ) حاول السيد جاسم إهانة الحكام من خلال تصغير شأنهم ، ولكنه في كتاب ( علي سلطة الحق ) اتخذ من شخصية الإمام علي (ع) قدوة للوقوف بوجه كل جبار عتيد ، وهو أمر ما كان يجرأ على طرحه ـ آنذاك ـ أشخاص يحسبون أنفسهم معارضين لصدام حسين وهم يتنعمون في أوربا وأمريكا ،ومما لاشك فيه أن مجرد النطق باسم الإمام علي (ع) آنذاك يمثل تحديا لسلطة ترفع الإسلام والعدالة الاجتماعية زورا وبهتانا شعارا لها لتحقيق أغراضها ، ومن ثم فإننا أمام رعب حقيقي ، ومخاطرة لا تخلو من رائحة الدم ، وفضلا عن ذلك فقد اتخذ عزيز السيد جاسم من الإمام علي ( ع) قدوة له في رفض ومعارضة السلطة ، وبعبارة أخرى لقد أعلن السيد جاسم نفسه معارضا في وقت كان المرء لا يعرف متى يأتيه الدور ليقطع رأسه ، ومن جهة أخرى حاول السيد جاسم في هذا الكتاب أن يحذو حذو مؤلف ألف ليلة وليلة ،الذي أراد أن ينتقد السلطة العباسية ، وذلك عندما جعل الخليفة يتنكر بزي الإعراب ويتفقد أحوال رعيته ليلا ، فالسيد جاسم هنا حاول أن يجعل من شخصية الإمام علي (ع) مثابة للساعين صوب الحرية والعدالة الاجتماعية ، فاستشهد بما يروى عن الإمام علي (ع) من قصص في هذا الخصوص ، وهي قصص أكثر من أن تحصى ،وبهذا اتخذ عزيز السيد جاسم من شخصية الإمام قناعا استتر به واحتمى من سلطة البعثيين ، ولاسيما عندما تحدث عن الفرق بين السلطة الشرعية والسلطة غير الشرعية ، ومن جانب آخر ، فان الكتاب يمثل القمة في فكر السيد جاسم ، ذلك لأنه استطاع أن يجمع فيه خلاصة ما يؤمن به من أفكار قومية وماركسية ، ولاسيما من خلال تحليله الفكري لفكرة الصراع الطبقي في المجتمع الإسلامي ،ودور رأس المال والغنائم التي يحصل عليها المسلمون ، في دفع اقتصاديات هذا المجتمع ، وفضلا عن ذلك راح السيد جاسم تحليل خطب الإمام وأقواله تحليلا أسلوبيا ، وكأنك أمام ناقد فذ متمرس في الكتابة النقدية ، ولهذه الأسباب مجتمعة رفضت السلطة وقتها طبع الكتاب بحجة انه يثير النزعة الطائفية ، مما حدا بالكاتب أن يطبعه في بيروت ، فثارت نقمة السلطة عليه ، فطالبه صدام حسين بكتابة كتب شبيهة بكتابه عن الإمام علي تتحدث عن شخصيات إسلامية ، كشخصية صلاح الدين الأيوبي ، وتمت مضايقته حتى نفذ ما أرادت ولكنها لم تكف عنه إلى أن ضيعته في غياهب السجون والمعتقلات .

عزيز السيد جاسم روائيا :

وجد عزيز السيد جاسم مثل غيره من الكتاب أن طريق الرواية سيمكنه من ممارسة دوره الفكري عبر مساحة إبداعية أخري أكثر حرية ومرونة من الإنتاج الفكري بصيغة المنهجية القاسية ، التي لابد لها من منطق تستند إلى مقدمات للوصول إلى النتائج المرجوة ، وعلى الرغم من انشغاله بالكتابة الموسوعية ، فقد كتب في التاريخ والاجتماع والسياسة والتصوف والنقد ، ونجح في ذلك كله ، وعلى الرغم من عدم تفرغه للكتابة الروائية إلا انه أبى إلا أن يخوض تجربتها ، فكان له ما أراد ، فكتب في بداية الأمر مجموعة قصص قصيرة ( الديك وقصص أخرى ) ، اتبعها بثلاثية (المناضل )، التي صدر الجزء الأول منها في عام 1970، إلا أن انشغالاته منعته من إكمال مشروعه الروائي ، وبقي هذا الجزء يتيما ،وفي عام 1988 اصدر روايته الثانية ( الزهر الشقي ) ، وبين صدور الروايتين ستة عشر عاما اصدر خلالها السيد جاسم ثمانية عشر كتابا في مختلف صنوف المعرفة .أما رواية (المفتون )فصدرت بعد تغيبه في سجون دولة صدام حسين بثلاثة عشر عاماً ، ففي عام 2003 يعود عزيز السيد جاسم إلى واجهة الرواية العراقية من خلال رواية جديدة تحمل اسم (المفتون) صدرت له عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، وهي آخر ما كتبه عزيز السيد جاسم ، وقد تكفل أخوه الدكتور محسن الموسوي مشقة نشر الرواية وحمل مسودتها إلى المطبعة .


رواية المناضل :

كان للسجن حصة كبيرة في الإبداع العربي عامة ، والروائي خاصة ، فقد سجل لنا الشعر العربي قديمه وحديثه ، أجمل القصائد التي تحدثت عن هذا المكان المخيف ، وفي الرواية العربية كان هذا الموضوع حاضرا بكل قوة ، فعبد الرحمن منيف في شرق المتوسط صور لنا ما يلاقيه( رجب ) من أهوال في سجون الطغاة ( 8 )، وقد صنف الناقد إرفنغ هاو في كتابه (السياسة والرواية ) الروايات فقال : ليس كل رواية تتحدث عن سجن أو سجين رأي هي رواية سجن، وليس كل رواية تتحدث عن مجموعة حركية أو سجين حركي هي رواية سياسية ، فبعض الروايات التي تعاملت مع معاناة السجناء ركزت على معاناة السجين الحركي وتجاهلت ما سواه من سجناء، فتأرجحت بين الرواية السياسية ورواية السجن، ومن ثم فان ما يميز رواية السجن السياسي عن رواية السجن العادية ، هو تعاملها مع العلاقة القائمة بين الفكر السائد والأوضاع السياسية العامة ( 9 ) .
في ضوء ما تقدم نفهم روايات عزيز السيد جاسم ، ففي روايته الأولى ( المناضل ) التي تدور أحداثها في العراق من الحكم الملكي حتى قيام ثورة 14 تموز ،وهو زمن يرى فيه الناقد باسم عبد الحميد حمودي زمننا للتناقضات والصراعات (10) . أما بطل هذه الرواية فهو ( بابل ) ، وهو شخصية اقرب إلى عزيز السيد جاسم نفسه ، لقد حاول المؤلف هنا تسليط الضوء على فئة المثقفين ـ أمثاله ـ الذين يئسوا من العمل السياسي أو فشلوا في الاستمرار فيه فابتعدوا عن تياراته ، وتمثلهم هنا شخصية ( بابل ) الذي وجد أن هناك عدم تطابق بين ما يؤمن به بوصفه منتميا إلى تنظيم سياسي ينبغي أن يكون طوباويا ، وبين الواقع المعيش ، الأمر الذي جعله يتراجع وينكفئ على نفسه حاملا أمراضه معه ، وهاهم المنتمون الآخرون يتساقطون الواحد تلو الآخر ، وينكفؤن على أنفسهم مثله تماما ، وهذا الكلام ينطبق على شخصية (حسين) ـ صديق بابل ـ المدان أبدا ، فضلا عن دلال ــ حبيبته السابقة ـ التي لجأت إلى الزواج حلا لمشكلتها الشخصية عندما كان( بابل )في الإبعاد تارة وفي المعتقل تارة أخري ، بسبب انسحابه من التنظيم ، بعد معاناة طويلة مع العمل السياسي الجماهيري وسط مدن فلاحية صغيرة ، لأنه كان يحمل عليه ملاحظات ، لم يأخذها المنظمون كــ (غفور الأعمى ) بنظر الاعتبار ، لأنه كان يؤمن بالعنف حلا وحيدا شافيا لكل المشكلات .


رواية الزهر الشقي :

لا تبتعد رواية عزيز السيد جاسم الثانية (الزهر الشقي ) عن هذه الأجواء ، إذ تعد أنموذجا رائدا في مجال رواية السجن السياسي ، ولاسيما بعد جمعها بين صور الاعتقال في الخارج و صور التعذيب و التحقيق في داخل السجون ، فالرواية تحكي أحداث مثقف عراقي اتهم بالسياسة ، و الخيانة كذباً وبهتاناً ، وهو( وائل الجابري) ،الذي هو نسخة من( بابل )في رواية (المناضل )، وزمن هذه الرواية أوسع من سابقتها رواية (المناضل )، فهي تمتد طولا وعرضا، تأخذ من ذكريات التجربة النضالية والاجتماعية الماضية وتنطلق إلي زمن ثورة 1958 ، بل تصل أحداثها إلى 5 حزيران عام 1967 ، لتقودنا إلي تجارب العمل السياسي في العراق ،وما يحيط به من مناخ اجتماعي وما يقدمه من شخصيات ظالمة مستبدة تؤذي ، واخرى مظلومة،حانقة ترفض العيش تحت خيمة التنظيم وتريد العمل بحرية ، فيجعلها هذا الموقف عرضة لصنوف الاضطهاد ، حتى يصل الأمر إلى إعلان الحرب الاجتماعية والسياسية عليها ، وتحكي هذه الرواية لنا أيضا ما يلاقيه المنسحبون من التنظيم ، كـ(بابل )بطل رواية (المناضل) و(وائل الجابري) بطل رواية (الزهر الشقي) ، فضلا عن أصدقائهما من لدن السلطة الحاكمة ، وعلى سبيل المثال تأتي الشرطة هنا لتبحث عن المطابع السرية المزعومة التي تطبع ما يلوث عقول الناس ،في مشهد يبث الرعب في صفوف البسطاء والعامة ، ولم تنفع توسلات ورجاءات الجابري وآلاف الشبان أمثاله من ثني سجانيهم من التحقيق معهم ، والتحقيق يعني بعرف هؤلاء التعذيب والاهانة والتعليق على( عامود الحديد ) وتقطيع الأصابع واحدا تلو الآخر ،فضلا عن شتى أنواع التعذيب وضروبه ، كالركل والرفس واللكم إلى درجة الإغماء ، حتى يصل الأمر إلى القتل ، ذلك لأن الداخل للمعتقل لابد له من الاعتراف بأي شيء حتى يخلص نفسه من التعذيب ، فهو مجرم سواء أثبتت براءته أم لم تثبت ،وهذا ما حصل للجابري وأصدقائه ، والغريب في الأمر أن السجانين لا يكلون ولا يتعبون من( حفلات التحقيق ) ، لا بل أنهم يستأنسون ويتلذذون به (11)، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن محسن الموسوي ـ شقيق الراحل ـ قد افرد في كتابه النقدي (انفراط العقد المقدسي، منعطفات الرواية العربية بعد محفوظ) أكثر من عشرين صفحة للحديث عن رواية أخيه ( الزهر الشقي ) ، وهو نقد يمكن أن يقال عليه أنه نقد الأحبة والأخوة ، نقد المعجبين ، ذلك لأنه نقد عائلي بامتياز تتحول فيه مفردات النقد الأدبي إلى نشيد اخوي بغطاء موضوعي ، ومن ثم فنحن هنا أمام أجمل ما قيل في عزيز السيد جاسم (12) .

رواية المفتون :

جاء في مقدمة هذه الرواية التي لم يذكر اسم كاتبها، ومن المرجح أن يكون كاتبها هو شقيق المؤلف الدكتور محسن الموسوي : إن الرواية فريدة في كونها واحدة من النصوص القليلة المعنية بوضع العراق الحديث منذ سنة 1958 أي منذ العهد الملكي وصولا إلى ما تلاه،.....فهي تصور البلاء الذي نكبت به البلاد منذ أن اعتلى دفة الحكم فيها نظام شعاراته تبرر له التحكم في الحياة العامة للناس ، أن الذي يميز هذه الرواية هو أن حوارها يحتوي مجموعة من اللغات، التي يتقاطع بعضها مع بعضها الآخر، فينفرط الصوت في لغات متعددة تأخذ من الهضاب والأعالي والسهول والسجون والمستشفيات لغاتها الخاصة. وهكذا يكون صوت خلف الأعور، بجئيره، الوجه الآخر للطغيان، فهو مجنون يمارس سطوته من موقعه في تلة عالية تتيح أن يرى الآخرون نثاياه وحريمه. انه الوجه الدفين للمتسلط. لكنه محاصر بجنونه الذي يقصيه عن الآخرين، بينما يمده بمناعة خاصة وصوت رهيب. وعالمه، بعد ذلك، هو (الغروسك): عالم المتسلطين عندما يتمدد ويتضخم خارج حدود الواقع، فيبدو بمثل هذه الأوضاع المثيرة للضحك مرة وبتباعد الآخرين عنها مرة أخرى، ويمثل هذه السعة، تقدم هذه الرواية بعدا آخر للكتابة السرية، تلك التي بمقدورها أن تقول الكثير في فسحة صغيرة نسبيا: و"المفتون"، بعد هذه التوطئة القصيرة، رواية ما بعد الاستعمار بامتياز. أنها من بين النصوص الفريدة التي تستكمل ما كتبه فانون في "المعذبون في الأرض" عن ولادات الدولة المريضة ( 13 ) .
الشخصيتان الرئيستان في الرواية هما( هارون ) وهو طبيب النفسي في الخامسة والربعين من العمر، حصل على شهادة الماجستير في الطب النفسي بعد عناء طويل ومثابرة ودراسة متفانية في ظل ظروف قاهرة ، و(يوسف اليعقوبي ) وهو شاب جذاب يظهر مرة على انه مريض نفسي ، ومرة أخرى يظهر علينا على انه شاب له قدرة عالية في التحكم بمن حوله ، ويشترك الاثنان في كونهما من أصول ريفية هاجرا إلى المدينة ، شأنهم شأن الكثيرين من أبناء العشائر من الأرياف والقرى العراقية ، وعندما انتقلوا إلى المدينة نقلوا معهم ميراثهم الثقافي ، وبهذا انتقلت التقاليد والعادات الريفية إلى المدينة نفسها وأصبحت المدينة منتفخة بتشويهات متداخلة شبه حضارية وقروية وبدائية وعشائرية وظهرت أجيال جديدة تحاكي من الخارج أخر تقليعة أوروبية ، لكنها في الوقت نفسه تحمل في داخلها تيارات همجية واصواتا بدائية لم تخمدها مؤثرات المدينة .
تبدأ الرواية بحوار يدور بين الطبيب هارون ومريضه يوسف اليعقوبي ،عن السكين التي يرى اليعقوبي أنها يجب أن تكون صديقا دائما للإنسان ، وفي نهاية المحادثة بين الاثنين يستنتج الطبيب النفسي ملاحظات عدة يدونها في دفتر ملاحظاته عن الحالة المريضية التي أمامه ممثلة بيوسف اليعقوبي ، وهي ملاحظات متناقضة كتناقض يوسف نفسه ، فهو وحش في أهاب شاب جميل ، والغريب في الأمر أن يوسف اليعقوبي المريض النفسي ، صار يراجع عيادة الطبيب هارون لا بوصفه مريضا نفسيا حسب ، بل بوصفه معجبا بشخصية الطبيب ، الذي يكتشف أن هذا الإعجاب راجع إلى الصورة الذهنية التي كونها يوسف عنه ، على انه مناضل سياسي سابق وبطل لكنه انزوى في عيادته المتواضعة رافضا الظلم، وبالمقابل فان هارون قد أعجب بشخصية مريضه هو الآخر ، ولاسيما بعد ذكاءه ،وجماله المميز، فهو صاحب وجه شفاف، وعينين عسليتين تستحمين على أجفان طويلة،وأنف دقيق مرتفع قليلاً لأعلى، وفم صغير بأسنان دقيقة، فضلا عن ملامح أخرى محسوسة وغير مرئية تترك انطباعاً سريعاً على مزايا فاتنة في الوجه، والشعر الأسود الفاحم المتناثر في خصلات فوضوية تلّمها فتنة خاصة (14).
يخبر الطبيب هارون مريضه يوسف ، بأنه قد تم تعيين وزير جديد للداخلية ، وانه وعد الناس على فتح صفحة جديدة ، سوف يحرص فيها على أن يكون خادما مطيعا للقانون ، كما انه وعد بإطلاق سراح السجناء السياسيين ، لكن ذلك لم يحصل إنما حصل العكس ، فقد القي القبض على هارون الطبيب بتهمة سياسية ، وبهذا أضيف شخص جديد إلى قائمة المثقفين السجناء ، ليتم إبعاده إلى إحدى مدن الاهوار البعيدة . تثير هذه الرواية تساؤلا ربما يكون تقليديا مفاده ؛ هل يخلق مجتمع الظلم والقسوة شخصيات غير سوية أم أن الشخصيات غير السوية هي التي تخلق مجتمعات من هذا النوع؟ لكن سرعان ما يكتشف القارئ أن العلاقة الجدلية التي رسمها الكاتب تصور سيفا ذا حدين وان كان هناك تشديد على أن النظام السياسي الظالم هو أكثر قدرة على خلق العديد من حالات الخلل النفسي ، لقد حاول عزيز السيد جاسم في هذه الرواية أن يطرح معاناته بوصفه مثقفا مقموعا من سلطة غاشمة ، الأمر الذي منعه من نشرها في ظل نظام متسلط وشمولي، وكذلك الأسباب التي منعت شقيقه الدكتور محسن الموسوي من نشر هذه الرواية إلى فترة ما بعد صدام حسين .
ويرى القاص حميد المختار في إحدى مقابلاته : أن هذه الرواية تسرد وقائع التاريخ العراقي الحديث منذ ثورة 14 تموز وكأنه يقول بان هذه الثورة رغم نياتها الحسنة لكنها فتحت لنا أبواب جهنم ( فضاعت المقاييس وانعدمت الأنظمة والقوانين وكثرت التصرفات الاعتباطية وأصبحت الحياة مشدود بالقوة إلى ما يأتي من الأعلى ، وهكذا كثر الترحم على العهد الملكي وصدرت مقالات وكتب كثيرة منذ خاتمة الستينيات كلها تبكي حياةً مضت) ، لكنه حين أدان تلك الفترة إنما يريد الإدانة الباطنية الخفية للنظام البعثي الذي جاء هو الأخر بانقلاب مما دفع البلاد إلى الخراب التام ، هو لم يقل ذلك لكنه أوحى لنا به واستطاع أن يوصل أفكاره الخطيرة من خلال الحوارات التي تدور بين شخصياته الرئيسية كالحوارات الطويلة بين يوسف اليعقوبي والدكتور هارون ثمة الكثير من الرغبات المتداخلة للشخصيات ،هذه الشخصيات المستمدة من عمق الحضارات العراقية المليئة برموزها ومناخاتها الأسطورية وهي من سمات عمقها وقدرتها على التمظهر الواضح ، وكأن السيد جاسم يقول لنا أن المفكر حين يكتب رواية فانه يحاول أن يفرغ فيها كل ثقافته وأرائه ونظراته فعن طريق السرد الروائي يمكن للمفكر أن يقول الكثير بسهولة ويسر وقد سبقه في ذلك البعض من الفلاسفة مثل سارتر في أعماله الروائية والمسرحية ( كالغثيان ) ، (والذباب ) أما عزيز السيد جاسم فقد أعطى في هذه الرواية وجهة نظره عن التاريخ الحديث برؤية علم الاجتماع الذي أنجز السيد جاسم من خلاله الكثير من أطروحاته وكتبه ، أن المفتون رواية أفكار بامتياز وهي إضافة نوعية ليس في جنس الرواية فقط وإنما هي خطوة مضافة لمتون علم الاجتماع الخاص بولادات الدول وانهيار المجتمعات ( 15 ).
د. عبد الكريم السعيدي


أو



تحتاج إلى أحدث نسخة من أكروبات ريدر لتتمكن من فتح هذا الكتاب. إذا طلب منك باسوورد, فهذا يعني أن نسختك قديمة!! رجاءا تنزيل أحدث نسخة من:

4 comments:

  1. عزيزي الفاضل أبو عبدو


    أحبك ..وربنا يمتعك بالصحة والعافية ويحفظك

    ReplyDelete
  2. عزيزي أبو عبدو .. أدعي صادقاً وأشهد بأنك أول من وضع (رواية الزهر الشقي) على الأسافير .. بيد أن كرمك الفياض وعطائك اللا محدودين يحرضاني دائماً على الطمع أكثر ..وأتعشم كمان في الضلع الثالث للثلاثية (المفتون) آخر رواية كتبها المفكر والروائي والمناضل الشهيد

    ReplyDelete
  3. أهلا بك يا أخي
    سأبحث عن هذه الرواية في المكتبات العامة وأعدك بنشرها حال العثور عليها

    ReplyDelete