Tuesday, April 24, 2012

حمد صالح - الملاذات




أحبة وفنانون وأدباء، قصاصون وشعراء ونقاد وتشكيليون يفاجئوننا برحيلهم المبكر. الذي يترك بأفئدتنا الألم والحسرة والحزن. نحن الذين ننتمي لهم. أو هم الذين ينتمون لنا. تربطنا بهم أجمل الذكريات او المغامرات.. ومغامرة الكتابة، فهي اكبر وأجمل وأنزه المغامرات، ونذكرهم كلما جمعنا مجلس او مائدة، ونحن نتحدث عن الإبداع والفن، ولاسيما ان رحيل هؤلاء المبدعين الاصدقاء الأقرب الى القلب، مفجع تماماً ان يقدم، او يبعد ويموت في المنفى، او نتيجة لضغوط الحصار والفقر او الحروب المستمرة، فلم يكن رحيلهم طبيعيا او مريحا انما رحيل يوجع القلب.

نحن الان بصدد القاص المبدع حمد صالح، وهو من مواليد الشرقاط، نينوى. اصدر مجموعته القصصية الاولى "الملاذات" عام 1981 عن دار الشؤون الثقافية وفي عام 1986 نشر روايته "خراب العاشق" التي قال عنها الخبير آنذاك: "على جدران قلعة اشور بانيبال، اتكأ فسرح فكره في آفاق الماضي ليستحضر التي ساقته مكرهاً او راغباً الى منفاه".
جاء مثقلا بالطموحات والآمال والحب والبراءة. جاء مؤمناً بالتجاوز والقدرة على إلغاء كل عوامل الاستلاب والغربة الذاتية. جاء ليصدم كل الجدران الخربة المنخورة من تناقض وازدواجية.
ذلك هو محررعباس بطل رواية "خراب العاشق" البديل الذي إئتمنه حمد صالح ليضطلع بدوره وهو يتحرك على خارطة الزمن.
ان قارئ مجموعته القصصية "الملاذات" بتأن وروية سيجد ان نصوص هذه المجموعة على ثلاثة ابعاد. بعدان ظاهران للعيان، وبعد ثالث لم يصرح به القاص لكنه يخطط له، ويرسم ملامحه، بل ويلمح عليه بذكاء الأمكنة المروي عنها. الشخصيات التي تنتشر على مساحة القصص، قرى قرب النهر، صبيان، وعجائز، وشيوخ، وحكماء ولصوص، وشرطة. واذا تعمقنا في طيات السرد المغلقة بقراءات ما وراء السرد. سنجد شخصيات أخرى تنوب عن الشخصيات الرئيسة، "الشجرة" عن الصبي و"المسبحة" عن العجوز و"العكازة" عن الشيخ الهرم. و"النهر" عن الأم الثكلى. و"الذئب" عن الشرطي. وتكاد تمتزج الشخصيات من خلال السرد الفني الرائع الذي نفذ به القاص أغلب قصصه، الظاهرة للعيان من النسيج القصصي والمختفية وراء السرد. سيما ان السرد عن القاص حمد صالح له خصوصية متفردة، ليست سرداً لاستجلاب الحدث واستمراريته بل سرد يؤنس من خلاله للأشياء والموجودات بمعادلات موضوعية لا يمكن الاستدلال عليها بسهولة حتى غدا السرد في قصصه حالة ايجابية يكتشف من خلالها القارئ النبه مقاصد جديدة، تغني طموحه ورغبته باقتحام عوالم أخرى مخبوءة.
احتوت مجموعته القصصية "الملاذات" وأحسبها اذا ما غاليت او انحزت اليه، من المجاميع التي يشار اليها، وتقف في الصف الاول من مسيرة القصة العراقية، فهي تقف الى جانب مجموعة "المملكة السوداء" لمحمد خضير و"الأوفيليا جسد الارض" لعبد الاله عبد الرزاق و"نشيد الأرض" لعبدالملك نوري و"الوجه الآخر" لفؤاد التكرلي و"خريف البلدة" لأحمد خلف و"عصر المدن" لمحمود جنداري.
احتوت المجموعة على ثمان قصص وهي: "الأنفاس"، "تلك الشجرة المباركة"، "سفر العودة"، "الجامع"، "وجهان من الغربة"، "الحكيم"، "اهتمامات يومية" و"الملاذات".
هذا غير القصص المنشورة من مجلة "الطليعة الأدبية" و"الاقلام" والتي تساوي مجموعة قصصية أخرى، إذا ما قمنا بجمعها. بالاضافة الى المسودات التي بالتأكيد لم ينفض الغبار عنها بعد.
* * *
لمحنا من خلال فرز حدود البعدين، المكاني والشخصاني الظاهرين للمتلقي العادي، قرى على نهر دجلة. وشخصيات تعاني من هموم الماضي، وازدراء الحاضر الانتهازي، حيث لا خلاص من الهموم حسب رؤية القاص حمد صالح حتى يبدو ان مقاصده القصصية غير تلك الموجودة في متونها، بل تتصاغر وتتلاشى هذه الهموم البسيطة لتحل محلها هموم أخرى أكثر متاهة في داخل اعماق الشخصيات من خلال قراءتها من بعدها الثالث، وهذا ما سعى اليه القاص اذ تشخص لنا ومن خلال السرد، الغربة الذاتية والاستلاب والازدواجية. وفقدان الشخصيات لأشياء، أحلام وطموحات، وآمال مقتولة لم يحدد القاص من قام بهذا. وهو يطرح عوالم وأكوان للشخصيات، وما على هذه الشخصيات سوى الانسجام والعيش فيها بسلام.
ويمكننا ادراك هذا من خلال علاقة الصبي بالشجرة وحبه لها، وقرار أبيه في قلعها بوصفها شجرة هرمة، في قصة "الشجرة المباركة"، والايحاء القوي لصورة الشهيد فارس لصديقه جويبر وهو يتأمل زوجة صديقه الجميلة، التي تحمل سمرة فتيات الحقول التي اصبحت ارملة كغيرها، في قصة "والأنفاس".
وموسى الهارب من ماض غير محدد الملامح يهدد مصيره، واندماج أمه في نهاية الأمر مع دجلة وعودتها الى اصلها، لأن دجلة وحسب القاص تكون من دمعة لامرأة ثكلى، في قصة "وجهان للغربة" وعريف شخير الذي أصبح ضحية لذئب طالما امتهنه وأهانه، في قصة "اهتمامات يومية". وعلاقة المرأة العجوز الحالمة بعودة زوجها بالعكازة، في قصة "سفر العودة". واننا سنجد الكثير من هذه العوالم في القصص الأخرى.
ولكن ثمة صور من الضرورة توضيحها –طرحها القاص بدقة- كوجوه العجائزة المجدورة، والمجعدة، نساء معتوهات، نساء مهجورات، نساء مصابات بأمراض داء الكلب، شباب نحيفون، ومرضى لا يمكنهم القيام بالتحدي الذي يلقيه عليهم القاص. حياة مستلبة يخفف من وطأة استلابها مويجات النهر المتشابهة، والنسائم الهابة منه، ضياء الشمس المشرقة دائماً، بتلك القرى والقاص يصورها في الرواح والمجيء، وهي مشرقة أو وهي حافية في الظهيرة، وهي غاربة الدفلة. ولم يشر القاص الى اقطاعي، او تاجر، او رئيس قبيلة او مسؤول حكومي، او أي سلطة قامت بالاستلاب، انما هناك غربة روحية واستلاب متأصل لا يمكن معالجته الا باستئصال الواقع من جذوره. وهذا لم يصرح به القاص، بل اوحى به من خلال "الملاذات"، مجموعته القصصية التي حذرتنا منذ صدورها عام 1981 وهي رسالته الينا قبل ان يرحل، ولكن لا جدوى.
عبد علي اليوسفي


أو


تحتاج إلى أحدث نسخة من أكروبات ريدر لتتمكن من فتح هذا الكتاب. إذا طلب منك باسوورد, فهذا يعني أن نسختك قديمة!! رجاءا تنزيل أحدث نسخة من:

No comments:

Post a Comment