Friday, August 12, 2011

زهير الجزائري - أوراق شاهد حرب, مقابلات مع الناجين من مذبحة تل الزعتر


 هذا الكتاب، لا ينشغل في تأمل المخيم كفكرة مجردة أو كمجاز لمصير شعب يصنع تاريخه من منفاه، لأنه يبحث عن معنى المخيم في يومياته وتحولاته الظاهرة ومآسيه المكشوفة وانتفاضاته  الغاضبة. رافق الجزائري الرحلة الفلسطينية من مخيمات اللاجئين في الأردن التي دخلها كصحفي يختبر الانتماء والمغامرة في نهاية الستينات، ليقيم منذ بداية الثمانينات في مخيماتهم بلبنان لاجئاً عند لاجئين!. النصوص التي ضمها كتابه متفاوتة في أسلوبها بين التقرير الصحفي والمقالة والقصة القصيرة، لكنها جميعاً تتوفر على قدر عال من البوح والرصد الدقيق لأبعادها السياسية والإنسانية. يكتشف الكاتب أنه في المخيم رأى الوليد الأول والقتيل الأول معلقاً أنه سيتذكرهما كلما عاد إلى المخيم”المتقلب، المقاتل، المقصوف، المحاصر». المخيم هو وحدة تناقضات بين الماضي والحاضر، بين الأباء والأبناء، بين المرأة والرجل، بين الأجيال والقيم، بين العائلة والتنظيم السياسي، بين فكرة الوطن المجردة وذاكرة الأرض الحية. بعض هذه التناقضات التي يسرد الكتاب تفاصيلها بالأسماء والمواقف، وجد له حلولاً جزئية ومؤقتة بفعل سلسلة الكوارث التي جلبتها حروب المخيمات. لكن الحلول التي فرضتها الضرورات العملية تبدو ثانوية إزاء التناقض الكبير بين الموت والحياة الذي أطبق على المخيم في مجازر أيلول 1970 وما تلاها حتى صبرا وشاتيلا. ويسجل الكاتب شهادات مرعبة للناجين من مذابح تل الزعتر التي كللت الفصل الدامي الأول من الفصول الرهيبة للحرب الأهلية اللبنانية. إحدى ممرضات المخيم عاشت شهور الحصار المريرة تذكر”أن في ليلة واحدة داومت فيها في الهلال الأحمر استشهد 25 من الجرحى بينهم جريح كانت إصابته خفيفة». نتيجة القصف المتواصل والقنص، وصل عدد الإصابات بين النساء والأطفال الذين كانوا يجازفون بجلب الماء من الأنبوب الوحيد في المخيم إلى 30 إصابة في اليوم الواحد، وفق رواية طبيب من المخيم. بعد التوصل إلى اتفاق مع الكتائب خرج السكان المدنيين، غير إن الموت كان ينتظرهم عند حواجز القوات المحاصرة. كان أفـرادها”ينتقون الشباب والصبيان ويجرونهم خارج الصف ويطلقون عيهم النار فوراً، أمام أمهاتهم وآبائهم واخوتهم”حسب شهادة أم فلسطينية. وتذكر أن شاباً اسمه محمود ياسين”وضعوا الحبل في عنقه وسحبوه بالكميون (الشاحنة) فتوفى وهو يرفس ……..بعد ذلك وضعوا صفاً طويلاً من الرجال وتحرك الكميون باتجاههم وأخذ يدوس فوقهم”. تلك الأم سمعت أحد الكتائبيين يقول”أحسن ما نخسر عليكم رصاص”!!!. من جحيم المخيم خرج أطفال رأوا بأعينهم أهاليهم يبادون بمنتهى القسوة والتنكيل، وغادروا الطفولة قبل الأوان تلاحقهم أشباح الماضي وتفاصيله السوداء. 
عن بيروت الحرب الأهلية ومخيماتها المتأهبة والمخترقة، رسم كتاب الجزائري لوحات مكثفة وموحية مصوّراً القناص كقاتل كسول”يرى العالم كله في دائرة يقطعها صليب”، والمتاريس حين تحول واجهات المدينة إلى أشبه بثكنة صحراوية من أكياس رملية، والقصف العشوائي وهو يجعل من الحياة مصادفة عابرة، وحالة النفير العام وهي تباغت الجميع وتوقظ عند المقاتل غريزة العنف لأن”يهرب من الحرب، ولكن باتجاهها”. أما العبوات الناسفة التي تداهم  الحياة العادية في لحظات الغفلة والنسيان لتديم الخوف والوسواس، فان انفجارها يغير خلال لحظات مشهداً بأكمله أحياناً كتلك البناية التي حين اقتلعت من أساسها تناثر البشر مع شظاياها. إحدى الجارات رأت”رجلين صعدا عالياً إلى السماء مع قاع الغرفة والسجادة وهما يلعبان النرد ومعهما التلفزيون وعلى شاشته ما تزال صورة المغنية اللعوبة». مشهد سوريالي من زمن اجتاحته نزعة عمياء للتدمير!!.
التدمير لم يأت فقط متسللاً من المواقع القريبة، بل كان يهبط أيضاً من سماء تخترقها الطائرات الإسرائيلية الغازية كل يوم.”تنـزل الطائرة”يقول الجزائري”فأرى قدومها بلحم ظهري وأنا أبتعد عن المكان، وعين الطيار تتجه إلي بالتحديد وهذا الأزيز يصعد من داخلي….لقد سكنت الطائرات مخيلتي وقبل ذلك مخيلة ابنتي التي تخاف أن تفتح ستارة النافذة، لأن الطائرة تنتظرها وراء الزجاج”. في يوم معلوم هو صباح الجمعة 17 تموز 1981 قصف الإسرائيليون الفاكهاني.
وهو يسجل الوقائع الفظيعة للمخيم، لم يدّخر الجزائري نقد منظمات المقاومة التي انفصلت عن الفئات المسحوقة في القاعدة نتيجة تنافسها على النفوذ وتكاثر أجهزتها البيروقراطية وتسلل الفساد إليها. ويصوّر في  لوحة كاريكاتيرية لاذعة زعيماً لدويلة حارة أو زقاق أحاطها بحرس حدود ووزع فيها جيشه”النظامي”وصار يتنقل فيها محصناً بحماية الحراس وجعجعة السلاح.

أو



No comments:

Post a Comment