عام 1984، رحل الشاعر الكبير معين بسيسو في العاصمة البريطانية (لندن)، ولم تكتشف وفاته إلاّ بعد 14 ساعة لأنه كان يعلّق علي باب غرفته بالفندق الذي نزل فيه عبارة: الرجاء عدم الإزعاج.
رحل معين بسيسو شّاباً في السابعة والخمسين، فهو ولد في (غزّة) بتاريخ 10 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1927.
كان يريد أن ينام، أن يرتاح، ولكن قلبه الذي أجهد نبض نبضات سريعة، ربّما احتجاجاً علي إرهاق الشاعر له، فمدّ معين يده إلي الهاتف يريد طلب المساعدة، ولكن الوقت كان قد فات...
عندما فتح باب الغرفة، وجد الشاعر نائماً، ويده ممدودة إلي الهاتف في مشهد جامد.
مفارقة هذه، أن يموت شاعر فلسطيني في (لندن) عاصمة السياسة التي كانت أس المصائب، وأصل النكبة والخراب في فلسطين، وأن لا يحظي بالراحة، ولا يصل نداء استغاثته بطلب العون، ثمّ ينقل جثمانه ليدفن في القاهرة، محروماً من دخول غزّة ، حتى بعد أن مات، وهذا ما يدّل علي مدى حقد عدونا على الشعر والشعراء.
كأنما هذه حكاية الشعب الفلسطيني، مع فارق أن شعبنا حي، وأنه يمضي علي طريقه، وأنه يتقوّي بصوت الشاعر، وبالشعر، حداءً لأمل سيتحقق. معين بسيسو، الفلسطيني، الغزّي، المدفون في ثري مصر الطهور، بين من أحبهم، لم تسمح سلطات الاحتلال الصهيوني لجثمانه بالدخول ليدفن هناك في تراب غزة الذي درجت عليه أقدامه، والشاهد الأول لتفجّر موهبته الشعرية.
و دفاتر فلسطينية، كتاب يمكن ان يدرج تحت جنس السيرة الذاتية للشاعر فعلى الرغم من ان اكثر صفحاته تأتي على تجربة معين في السجون، إلا أنه أيضاً يكتب عن حياته طالباً في مصر، ومعلماً في قطاع غزة وفي العراق، كما يكتب عن طفولته وأمه وأبيه وأهله ورفاقه في الحزب الشيوعي.
كان الكتاب صدر في العام 1978، وأعادت نشره دار صلاح الدين في القدس، ثم اعادت منشورات شمس في المثلث طباعته، وقد ترجم الى لغات عديدة، منها الروسية، كما يذكر معين، والالمانية
وأرى ان "دفاتر فلسطينية" كتاب مهم، لا لأنه يكتب عن تجربة شيوعي فلسطيني وحسب، وإنما لأسلوبه ايضاً، ففيه تنوع في الاسلوب، ربما لم يتحقق كثيراً في نصوصنا النثرية. يسرد معين تارة بضمير الأنا، وطوراً بضمير النحن، وثالثة بالضمير: الانا/ انت، و النحن / الانتم، ويجرد من نفسه شخصاً يخاطبه. وينوع في صيغ الافعال. وهو - أي الكتاب - مهم، لأنه كتاب نثري انجزه شاعر، وربما احتاجت كتب النثر التي يكتبها شعراء الى دراسة، ذلك لأنها نثر لا يخلو من الشعر، وربما تذكر المرء هنا مقولة التوحيدي التي صدر بها درويش ديوانه "كزهر اللوز.. أو أبعد" (2005): "أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم" وفوق هذا فإن خيال الشاعر يبرز بروزاً واضحاً، ويأسر قارئه......
No comments:
Post a Comment