نسخة محسنة عالية الدقة
التاريخ يحقق نفسه من خلال الشعوب والجماهير من خلال "المفكرين" أو "المثقفين" أو "القادة"، وليس هناك برهان أقوى على صحة هذا من جرى في أنحاء مختلفة من العالم، وبخاصة في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي والصين. إلا أن الحركات الاجتماعية (كما يدعو هذه الظاهرة عام الاجتماع الفرنسي آلان تورين) لا تقوم خارج أو ضد الفكرة أو الفكرة بل من خلالهما. فالممارسة والفكر يسيران يداً بيد في الحركات الشعبية، ولا يمكن للتغيير الاجتماعي أو السياسي أن يحدث دون نضوج الرؤية والهدف من داخل المجتمع، من هذا المنطلق تبدو الحاجة ملحة لإقامة نقد حضاري للمجتمع العربي فكانت دراسة الدكتور هشام شرابي التي هي بين يدي القارئ والتي تهدف إلى وضع إطار فكري يمكّن من تحديد منهج تحليلي نقدي يتناول المجتمع في بعديه التاريخي والاجتماعي، وتمم من خلاله معالجة القضايا الكامنة وراء الأزمة الاجتماعية والفكرية والسياسية التي يعانيها المجتمع العربي اليوم. وثلاث ظواهر تكمن في صميم ما يرمي إليه هذا النقد الحضاري إلى كشفه في العقد الأخير من هذا القرن. الحداثة قضية المرآة، القوى أو الحركات الاجتماعية. أما كيف تتم عملية الكشف هذه، فمن خلال الوعي الذي أصبحت معالمه واضحة في كتابات جيل جديد من المفكرين والناقدين العرب (يتطرق إليها المؤلف في جزء من هذه الدراسة)، ويتناول هذا الوعي إشكاليتين مركزيتين هيمنة البنية الأبوية في المجتمع العربي المعاصر وسبل استئصالها جذرياً. هذا وأن المؤلف يرى بأن النقد الحضاري لا يستطيع بحد ذاته تحقيق أي شيء على صعيد الممارسة المباشرة. لكنه يسلط الضوء على الواقع وتاريخه ويكشف عن حقيقة الظاهرة والخفية ويخطط أساليب ومتطلبات تجاوزه راسماً الخريطة الفكرية التي تضيء سبل الفكر والممارسة معاً. بهذا فإن النقد الحضاري يشكل الشرط الأساسي لعملية التغيير الاجتماعي وهو الخطوة الأولى لأية حركة اجتماعية حية ترمي إلى استئصال الأبدية من المجتمع العربي وإلى السير به نحو مستقبل آخر يقرره أبناؤه لا المتسلطون عليه أو القلة المنتفعة به.
أو
No comments:
Post a Comment