سحب وتعديل جمال حتمل
تبدو الكتابة عن السيرة الذاتية أحيانا، كتابة عن الشخص ذاته، لا لشيء إلا لأن التصاق الموضوع بصاحبه، لا يتيح المجال لإيجاد ممر او مساحة لكتابة من نوع آخر، تحاور وتتساءل وتبحث عبر السطور عن مستويات القراءة وبلاغة اللغة ومصائر الأبطال! وما كان يمكن أن يكونوا عليه، وما أصبحوا عليه تحت سطوة خيال سلطة الكاتب أو ديمقراطية هذا الخيال، لأن الأبطال في السيرة موجودون لحما ودما وأرواحا هائمة، بحيث يتعدى وجودهم شكل الكلمات وبراعة من خطها، وتنقلب المعايير السائدة التي طالما رددت أن أعذب الكلام أكذبه!!
ولعل أجمل ما في السيرة المكثفة لفاروق وادي (منازل القلب كتاب رام الله) الصادرة حديثا ضمن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، أنها لا تتيح المجال سوى للصدق، بأن يتقدم ويبوح، ملامسا حدود الكشف الكامل بأكثر من وسيلة من الوسائل التي أتاحتها له خبرته كإنسان وكاتب، اعطانا من الأعمال الابداعية والنقدية ما اصبح جزءا أصيلا من حياتنا الثقافية.
لذا، فإن محاولتنا هذه للاقتراب من (منازل القلب) هي محاولة للاحتفاء بكتاب جميل، في زمن يوشك أن يكون الجمال فيه خروجا على القانون، حيث يتم الترويج للبشاعة والضحالة كقيم أصيلة، عبر ما يمكن أن يوصف بحملات إعلامية جاهزة، تسبق الحدث كما لو انها مقدماته والنطفة التي تخلق منها.
وإذا كانت رواية فاروق وادي الثانية (رائحة الضيف) نموذجا للقاء الحميم بين فن الرواية وفن السيرة فإن (منازل قلبه) كانت على درجة من التحقق بحيث لم تسمح له بمواصلة النظر اليها كما لو انها ليست سوى منازل خيال، ولا سمح له ساكنوها بالفكرة التي اشاعها (النص) عنهم، بأنهم أنصاف بشر وأنصاف إبداع.
لقد ظل ذلك الطفل (البعيد) يتململ في داخل فاروق وادي الكاتب، ويحثه على الخروج من شفافية النص القاسية، لكي يعترف الكاتب بأن مثل ذلك الطفل على درجة من الحياة لا تتيح له أن يسكن النص الأدبي كبيت أخير له الى الأبد, لقد ظل ذلك الطفل يطارد الكاتب الى ان اعترافا معا, لكن ومن حسن الحظ ان قسوة الاعتراف ووضوحه وذلك الرثاء الكامن فيه، لم تحرم السيرة من أن تكون (نصا) ينتمي لجمال الأدب وقوة تأثيره، حيث ظلت السيرة تفيض عبر صفحاتها، وتتحول من حكاية طفل الى حكاية شعب، ومن حكاية مدينة الى حكاية وطن، ومن تاريخ شخصي الى تاريخ عام.
لا تخفي (منازل القلب) الخبرة الطويلة، التي كرسها صاحبها للكتابة الإبداعية، بل لولا تلك الخبرة ما كان يمكن لمنازل القلب هذه ان يكون لها شوارعها المؤدية اليها، وسطوحها التي تطل على ماض وتاريخ يستدعي المأساة وشخوصها، وأدراج تواصل الصعود رغم تآكل حوافها، وبيوت لم تزل تهتدي لنفسها، حتى وإن أوشك الزمان ان يمحو خطوات اصحابها وصدى ضحكاتهم عن عتباتها وفي زوايا حجراتها.
يتأمل صاحب المنازل تاريخه الإنساني منذ الصفحة الأولى بحرص من يريد أن يبتعد قليلا بما يتيح له أن يرى أكثر, هكذا يضع مسافة من خلال اللغة بين من يكتب، ومن تروى حكايته، رغم كونهما واحدا لا مسافة بينه!! واذا كان فاروق وادي، يختار هذا الأسلوب طريقا فانه على مستوى البناء الفني الذي اختاره، يمنحنا كقراء الفرصة لتتبع خيوط الحكاية، انطلاقا من النهاية بكل مراراتها، في رحلة نحو البدايات، وما قبلها ليعيدنا ثانية نحو النقطة التي بدأنا منها، او انتهينا اليها.
(ها أنت أخيرا تتهيأ للخروج من رهافة (النص)، بحلمه الشفيف، وأكاذيبه البيضاء لتدخل حجر المدينة، فتطوي شعابها التي ظلت مستحيلة,, ها أنت، ودون شروط منك، تستكين لكل شروط الدخول).
إن عودة ناقصة كهذه، لا تستطيع التغلب على نقصانها بأقل من ان تكون قادرة على رؤية الماضي وعهود البراءة بصدق: براءة طفولة صاحب السيرة وبراءة تاريخ من حوله وبراءة الأماكن التي عاش فيها، الأماكن التي حين غادرها أبت إلا ان تواصل عيشها فيه حيث (تحالفت الأحلام في صياغتها مع الأشواق والذاكرة المغسولة بالمطر) كما تحالفت في صياغة النص الرواية (رائحة الصيف) كما ان عودة كهذه لا تحتمل ادعاء كاذبا تعوض عنه كتابة مزهوة بانتصارات خاصة، لا نرى ظلالا تشبهها سوى ظلال الطواويس، كما لو ان الذي يقوم بكتابة سيرة من ذلك النوع يحاول ترضيتنا بنصره الخاص، الذي ما كان يمكن ان يتحدث فيه لو ابصر حجم هزائم أمة بأكملها.
في روايته (رائحة الصيف) التي تناولت الأحداث نفسها التي تتحدث عنها السيرة، كأن ثمة مسافة فاصلة بين الراوي ومنزل قلبه، مما أتاح له أن يرى بعيني خياله، يقول فاروق حول تجربته تلك في حوار معه اذا كانت الكتابة هي عملية ممارسة الحرية، فانني بالفعل لا أمارس حريتي إلا من خلالها، وفي فضاء الحرية المفتوح أكتب أحداثا عايشتها وأخرى أعيد صياغتها، كما لو كنت أتمنى ان تحدث، بل إن من حقي ان اختلق أحداثا نسيت في حياتي أن تحدث!! انني احتمي بالخيال من هول الواقع .
وهكذا وبعد ان مارس حقه ككاتب في رائحة الصيف، تأتي الأحداث لتمارس حقها في (منازل القلب)، وكأن فاروق وادي يترك روايته وسيرته تتعاركان لتصلا الى صيغة حرة لم يستطع هو نفسه الوصول اليها، وهو بين طرفي معادلة فلسطينية نادرة، لا يستطيع المرء استعادة وطنه من خلالها تماما، لا بالخيال ولا بالواقع.
تخرج (منازل القلب) من فسحة الخيال، لتدخل في (هول الواقع) ولذلك تبدأ بانتزاع ريش الأجنحة التي وجدت لها مكانا في فضاء الكتابة ولم تجد لها ما يشابهه في سماء الوطن الحلم، الذي تحول فجأة الى واقع لا تختلف السيرة على احقيته في أن يكون أجمل من الخيال، لكنها لا تستطيع مواصلة الخيال كي لا تحرمه من وجوده الفعلي ومراراته.
بعد زيارتين لفلسطين المحتلة، كتب فاروق وادي كتابه هذا (قبل وبعد إعادة انتشار قوات الاحتلال الإسرائيلي حول المدن الفلسطينية) ولعل من يقرأ الكتاب سيلاحظ ان الكاتب لا يضع خطا فاصلا بين زمني (إعادة الانتشار وما بعده) حيث تستعاد التفاصيل، ويتم تأمل الأحداث في زمن واحد مزيج، لا خطوط فاصلة بين لحظاته التي وحدتها (شروط الدخول).
تتذكر الشرطي الفلسطيني الذي التقاك على الجسر وسلمك دون ان يدري مفتاح الدخول الى قلب الوطن، عندما سألته ان كانوا يواجهون مشاكل في العمل معهم، فأجاب: نحن لا نعمل معهم,, نحن نعمل عندهم !!
وفي موقع آخر يأتي حوار آخر موصول بالحوار الأول ومكمل له: تستدرج السائق لمشاركتك انكساراتك وغبطتك، تسأله: منذ متى اصبحنا نصل الى (قلنديا) دون المرور من القدس؟ فيجيبك بسخرية ودون تحديد للتواريخ: منذ ان شقوا هذا الطريق, ثم يضيف بلكنة موشاة بحزن وانكسار: نحن نسير على الطريق التي رسموها لنا على الخرائط من زمن طويل !!
عبر فاتحة كهذه، تبدأ بها الصفحات الأولى، لا تملك الكتابة سوى ان تكون صادقة، بعد ان تبين لنا على المستوى الفعلي للتاريخ أن أقبح الكلام كان دائما أكذبه.
إبراهيم نصر الله - الجزيرة
الكتاب منشور في غروب أبوعبدو البغل:
https://www.facebook.com/groups/127937193979404/
على هذا الرابط:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=719046894841475&set=gm.571302119642907&type=1&theater
للتبليغ عن أي رابط غير فعال, الرجاء إرسال رسالة إلى:
abuabdo101@gmail.com
No comments:
Post a Comment