Sunday, September 21, 2014

أمين الزاوي - رائحة الأنثى

سحب وتعديل جمال حتمل
 

الروائي الجزائري امين الزاوي الذي غادر الجزائر فترة طويلة هرباً من رصاص الاغتيال يعود في روايته الجديدة "رائحة الأنثى" الى مأساة المآسي سارداً سيلاً من الحكايات على لسان ابن بطوطة ومقسّماً الحكايات الى "أبواب" على طريقة ابن حزم، دامجاً بين التراث السردي والواقع الجزائري الراهن.
مستلهماً التراث السردي، يبوّب الروائي الجزائري المرموق امين الزاوي روايته الجديدة "رائحة الأنثى" دار كنعان، دمشق، 2002 في ثلاثة عشر باباً، لكل منها اسمه. وفي هذه الرواية كان لابن بطوطة ولابن حزم فعلهما الحاسم، كما كان لتعدد رواة الأبواب فعل حاسم في تحقيق تعدد اصوات أو لغات الرواية، وكما كان لكل ذلك فعله الحاسم في رسم الشخصيات الروائية.
اما ابن بطوطة فيحضر منذ الباب الأول "باب السماء" الذي تفتتحه روايته "حمامه" بذكرى امها التي ماتت وهي تحكي، وباستقبالها جثمان المسرحي عبدالقادر في مطار وهران - مدينة الكاتب - مع حشد من الكتّاب والمثقفين و... البوليس الذي تشبه حمامة رائحته برائحة الخنازير.
من اغتيال عبدالقادر - في مسلسل اغتيال المثقفين الجزائريين - الى آخر ما قدم للمسرح "منامات الوهراني" الى ذكرى عيشها في دمشق، تنتهي حمامة في خاتمة "باب السماء" الى رحيلها هي - في مسلسل رحيل المثقفين الجزائريين فراراً من الجحيم - حاملة إرث ابن بطوطة الذي اختفى او رحل في اتجاه آخر. وليس الإرث غير مخطوطة "حكايات الهدهد عن غرائب الأمصار وعجائب الأقدار" الملفوفة في ملصق مسرحية "أرلوكان خادم السيدين" والتي ظل ابن بطوطة يخفيها عن الجميع.
قبل المخطوطة كانت حمامة رهناً لـ"طوق الحمامة". لكن ابن بطوطة سينسيها ابن حزم الأندلسي. وسرعان ما سندرك اللعبة الروائية المعهودة، فالرواية هي المخطوطة، وابن بطوطة هو الكاتب الذي لن يحمل غير هذا الاسم، والمخطوطة المهداة لابن مقلة الخطاط الذي بُترت يداه فظل يكتب بقدمه، ستسرد هول ما رأى وما سمع ابن بطوطة "مني ومن زهار ومن امي ومن يمامة ويامنة ومن الطشقندي".
وإذا كانت وهران ستختفي برحيل حمامة عنها، لتخرج مدن اخرى من غابة المخطوطة، ولتبدأ الرواية بالباب الثاني، فعلينا ان نوطّن النفس على ما هو اكبر من التباس شخصية ابن بطوطة بين رحّالة الأمس وكاتب اليوم، لأن الشقيقات الثلاث - الراويات الأساسية الثلاث لأبواب الرواية: حمامة ويامنة ويمامة - لسن بشقيقات، ولأن ما ترويه اي منهن عن نفسها او عن سواها، في غالب الأبواب، سيشتبك بما ترويه الأخرى في الباب نفسه، وكذلك بما قد يرويه ابن بطوطة او الطشقندي او سواهما. ومما يضاعف الالتباس اشتباك الأزمنة منذ عهد الثورة الجزائرية التي انجزت الاستقلال حتى يوم الكتابة في العصف الجزائري الذي سيظل حضوره متلامحاً بعدما افتتح الرواية، الى ان نبلغ بابها التاسع.
لكن الغموض سيسربل الرواية، وحمامة تروي في الباب الثاني باب الهدهد عن ابن بطوطة وتسميته يمامة التي جيء بها من اسطيف، وتسمية زهار - وسنرى انه عبدالقادر - لحمامة، ووصف هذه مشهد ختن الطشقندي الذي يلهث خلف الأخوات الثلاث، وكل منهن تحسب الأخرى غايته. وفي هذا الباب ستروي حمامة عن يامنة انها الأكثر شبهاً بينهن بالهدهد او بالنسر، وانها تعتقد ان اسمها يعود الى اميرة، ولكن "كل ما في رأسها عن تلك الأميرة هو من صنع ابن بطوطة". وقد اهداها التاجر المتجول الطشقندي فنجاناً يعج برسوم الحيوانات الخرافية التي لا يعرفها سوى ابن بطوطة، والتي "تفر لتوها فزعة من متن حكاية صينية او هندية او فارسية". وكسرت يمامة الفنجان بعد موت صاحبته التي تروي انها سافرت مع ابن بطوطة شهراً الى جزيرة السعد. وسيقطع ابن بطوطة نفسه ما ترويه حمامة بلا إشارة تعين القارئ، ويروي حكاية الأوكرانية لوفا التي التقاها في فندق في مالطا قبل ان يتعرف على زهار وحمامة. وستكمل لوفا نفسها روايته عن الصرّاف اللبناني انطون الذي يعمل مع شركاء في طنجة والدار البيضاء - تحت يافطة الاستيراد والتصدير - في استقطاب النساء وتدريبهن على الرقص والغواية، ثم يصدرهن الى مالطا، فدول عربية وغير عربية. وبتوسّع اعماله وفتح فروع في موكسو وبوخارست، استقطب لوفا، وتنقل بها بجوازات مزورة بين لبنان والبحرين وطهران، وفي كل بلد يتم تزويجها برجل فرجل، الى ان اختفت في مالطا.
وفي باب "الغواية" الذي ترويه يمامة سيضاف الى شخصيات الرواية الكلب دوتشي الذي جاء به ابن بطوطة من ألمانيا. وستحسب يمامة ان اختها المتوفاة يامنة تقمصت الكلب. ولأن الأم كانت تتلصص على خلوات ابن بطوطة ويامنة، سقوطاً في غواية الرجل او في غواية حكاياته، فقد ماتت يامنة وهي تكره امها، لأنها شعرت ان الأم بدأت تسرق منها الرجل.
في الباب الرابع "باب المكتوب" يبدأ عصف الجزائر الراهن عبر اغتيال الصحافي والكاتب والباحث في الشعر الشعبي جمال الدين زعيتر، قبل ان يقرأ مقالته عن علولة في مجلة "الطريق" اللبنانية. وها هو زهار يُغتال، وترحل القرية الى المستشفى في المدينة لتعود به مسجّى، وهو الشيوعي الذي سيلي في "باب النساء" انه فرّ الى سورية عام 1959 بعدما أفتى "الأخوة" في الثورة بقتله لأنه وراء حملة التعاطف الدولية مع الطاهر الغمري - من ينسى روايات رشيد بوجدرة والطاهر وطار عن ذلك؟
من الآن فصاعداً سيوقّع اغتيال زهار ابواب الرواية. ففي "اب التدوين" تروي يمامة ان زهار الميت يكلم الإمام الذي يقرأ في كتاب النفزاوي "الروض العاطر": "اني أعرف ان ابن بطوطة قد انتهى من تدوين حكايتي في مجلده"، ولذلك آن الدفن، وفي هذا الباب ايضاً ستأتي حكاية كتاب النفزاوي في مجلد ابن بطوطة المعنون بـ"الأحزاب والأوبئة والكلاب السمينة"، وسيأتي ان حمامة الجامعية، وبحسب ما يروي الطشقندي: حفيدة فريد العطار صاحب "منطق الطير" وسيدنا سليمان الذي عرف كل لغات الطير، وفي الباب التالي "باب الغواية والنكاية" ينذر بالفتنة اغتيال زهار وسمنة الكلب دوتشي، ويتقاطع سرد ابن بطوطة عن عيشه في مالطا بسرد يمامة التي رفضت الأم طلب الطشقندي لها. ومن هنا سيترجّع في الرواية التوحّش الذي يصيب يمامة، إذ يداورها اكل قلب ابن بطوطة وقلب الكلب وجثة يامنة، وستتغنى في "باب الغيرة" بهند آكلة قلب حمزة: "اعظم امرأة في العرب"، و"امرأة اكبر من التاريخ". بل سترمي يمامة شقيقتها حمامة في هذا الباب بأكل قلب زهار، غيرة منها على ابن بطوطة، وستؤكد ان حمامة ليست غير لوفا الأوكرانية متلبسة بجلد فلسطينية تدعي الانتساب للأمير عبدالقادر الجزائري، وهي ليست غير حفيدة آكلة قلب حمزة وابن حزم الأندلسي!
قبل ذلك، وفي "باب الكذب" تروي حمامة انتسابها الى تاغدامت عاصمة دولة الأمير عبدالقادر، وفرار جدها الذي كان من رجال الأمير الى فلسطين، وزواج جدتها بعده من اخوته الستة - كلما تزوجت واحداً مات - وموت امها في فلسطين، وتسميتها بجاكلين وباسم نبع "كيلن" في موطن الأمير عبدالقادر. وتروي حمامة ايضاً الرحيل الى دمشق بعد النكبة، ودراستها الجامعية، وعملها في دمشق الى ان حاق بها خطر اختطاف ضابط لها، فدبّر لها ابو هيثم الفرار، كما دبّر لزهار، فجمعتهما الباخرة، كما يبين الباب السابق "باب النساء"، وحيث تأتي علاقة زهار بالحلبية، وقضاء حرب 1967 على هذه العلاقة، وموت الحلبية بعد قراءتها لكتاب ابن حزم "طوق الحمامة". وهنا يأتي ما يتوخى تبرير التلاعب بأسماء الشخصيات الروائية، فزهار هو من سمى حمامة، وحمامة من سمت زهار: ماذا يعني ان يسمّيك سواك؟
يقطع السرد في "باب النساء" خبر اختطاف كوماندوس المجموعات الإسلامية طائرة من بومدين مذكراً بالعصف الجزائري. وفي "باب الدفن" ترمى جثة زهار في البحر. وفي "باب الحرير" يموت الكلب، ويقول قائل غريب: "علينا ان نرص الصفوف وأن نقاوم ما فسد في العباد بقطع الرؤوس والأيدي والألسنة"، كما يرى الغريب في ابن بطوطة اصل بلاء البلاء. ويروي الطشقندي حكاية الأميرة الصينية وأصل الحرير في سالفها، ومغادرة حمامة وابن بطوطة للبلاد لنتذكر بداية الرواية، وتروي يمامة رميها في النار على يدي الغرباء الصامتين ذوي اللحى المثيرة.
ببلوغ الباب الأخير "باب عبدالقادر" تروي حمامة وصولها الى وهران المحاصرة بالعسكر وصفارات الإنذار والجثث واغتيال الطاهر جاعوت. وتلاعب الماضي والحاضر بين عبدالقادر الذي ينجز مسرحية "منامات الوهراني" وسيناله القتلة، وبين تمثال الأمير عبدالقادر وسط المدينة، وقد غادرته ابتسامته التي لازمته منذ الاستقلال، وهزل حصانه، ومال السيف من قبضته، فـ"السلطة المركزية ألغته من الأوراق النقدية، والآخرون باسم الدين يريدون إلغاء تماثيله من الساحات العمومية".
في كل ما تقدم تنهض الرواية بالحكاية معنى ومبنى، لتنجز تنسيبها الى التراث السردي. فإذا كانت الحداثة تشظي الحكاية وتعدد الرواة واللغات والأصوات، فهذا هو ابن بطوطة يتوحد بالحكاية مثل شهرزاد، وبها يتسلح ضد شراسة الموت وحد الوقت، ولحمامة يقول: "انا احكي حياة الرجال والنساء والبلدان كي اعيش مرات"، وعنه تقول يمامة: "كان ابن بطوطة يتلذذ هو الآخر للغواية التي تخلقها حكاياته بشخصياتها العجيبة التي تمنى لو انه رآها فعلاً، على أختي وعلى امي". ويمامة نفسها، إذ تواجه انها وحمامة ويامنة لسن شقيقات، تقول: "قد تكون حكاية بعض الناس كافية لكي تجعلهم اخوة لك". وها هو الطشقندي في "باب الدفن" يبحث عمن يعلمه العربية كي يأكل قلب حمامة ويشرب هديل حكاياتها العجيبة المسروقة من كتاب ابن حزم. اما حمامة التي روت ما فعل كتاب ابن حزم بزهار وبالحلبية، فهي ترى حكايات ابن بطوطة - حيث لا بطل سواه - اكثر بإغراء من حكايات "طوق الحمامة".
انها تجربة اخرى لأمين الزاوي، قد تخاطب بناء روايته التراس - 1984 من لوحات قصصية، وقد تخاطب ما زامنت من الرواية الجزائرية منذ اخذ العصف الجزائري يعصف بها، لكن الزاوي نأى عن سبل الآخرين، من مجايليه واسيني الأعرج او جيلالي خلاص أو... الى من سبق الطاهر وطار او رشيد بوجدرة أو... الى من تلا ابراهيم السعدي او بشير مفتي او احلام مستغانمي أو... وسواء كان ابن بطوطة هو الزاوي في "رائحة الأنثى" ام جدنا الرحالة الجليل، ام شخصية روائية، فليس لنا ان ننسى من نهاية هذه الرواية: لا طمأنينة في الإبداع، الكتابة المطمئنة كالجيفة الهامدة تنتظر التفسخ"، وليس لنا ان ننسى ان ابن بطوطة في هذه النهاية سيجمع ما تبقى من سرفنتس وروبلس وكامو، كما جمع من التراث السردي ومن الراهن الجزائري، لتتمثل الرواية ما جمع، فتنكتب.
نبيل سليمان - الحياة


الكتاب منشور في غروب أبوعبدو البغل:
https://www.facebook.com/groups/127937193979404/

على هذا الرابط:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=717809578298540&set=gm.570340403072412&type=1&theater


للتبليغ عن أي رابط غير فعال, الرجاء إرسال رسالة إلى:
abuabdo101@gmail.com

No comments:

Post a Comment