Friday, September 26, 2014

جرجس شكري - والأيدي عطلة رسمية


سحب وتعديل جمال حتمل


الكتاب منشور في غروب أبوعبدو البغل:
https://www.facebook.com/groups/127937193979404/
 

شاعر مصري‏,‏ ولد عقب النكسة بشهور‏,‏ وأصدر ثلاث مجموعات شعرية خلال عشرة أعوام‏,‏ تتميز عناوينها بطابع مختلف عن المألوف‏,‏ يلفت النظر بشدة‏,‏ فالمجموعة الأولي أطلق عليها‏'‏ بلا مقابل أسقط خلف حذائي‏',‏ والثانية ترفق بقرائه فأسماها‏'‏ رجل طيب يكلم نفسه‏'‏ أما الثالثة فقد عاد ليصدمنا بعنوانها‏'‏ ضرورة الكلب في المسرحية‏'‏ وتأتي المجموعة الأخيرة بعنوان يحتاج إلي حرف جر بسيط‏,‏ كي يتسق مع نظام الجملة العربية‏,‏ وهو‏'‏ والأيدي عطلة رسمية‏'‏ إذ يحتاج إلي‏'‏ في‏'‏ بين طرفي الجملة‏.‏ لكن الشاعر يعمد إلي هذا الكسر المقصود كي ينبه القارئ إلي اختلافه وغرابته‏,‏ ثم يقدم لديوانه بمدخلين يدعوان إلي التأمل‏,‏ أحدهما فقرة يفترض أنها من العهد القديم لسليمان بن داود الملك‏,‏ ولكني لم أعثر عليها في نشيد الإنشاد‏,‏ وهي تقول‏'‏ ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما‏,‏ لم أمنع قلبي من كل فرح‏,‏ لأن قلبي فرح بكل تعبي‏,‏ وهذا كان نصيبي من كل تعبي‏'‏ والمدخل الثاني يتمثل في إهداء الديوان إلي طه حسين‏,‏ دون إشارة إلي أية علاقة به‏.‏ ولهذه المداخل المتعددة‏,‏ من عنوان منقوص‏,‏ واستشهاد مرصود‏,‏ وإهداء مبهم‏,‏ دلالات مضمرة تستحق التأمل والتأويل‏,‏ لكننا لا نود أن نقف عندها بمعزل عن النصوص ذاتها‏,‏ فهي التي تغرس لها سياق القول‏,‏ و تعزل قبلها لحن التقديم‏,‏ و تشــتبك معها في تفاعل المعني حضورا وغيابا‏,‏ إذ إن هذا اللون من الشعر يربطـك بما قيل و ما لم يقل علي حد ســواء‏.‏ و لنقرأ مقطــوعته الأولي‏,‏ و هي بعنوان يحتاج بدوره إلي توضـيح‏'‏ حكاية حاسرة الرأس‏'‏ يقول فيها‏:‏

'‏كان بناء بيوت‏/‏ يملأ الفراغ حجارة‏/‏ ويزينها بالنوافذ
يقيم في كل بيت سلما‏/‏ يؤدي إلي السطح‏/‏ وبالتالي إلي السماء
وحين ينتهي البناء‏/‏ يأتي بشر يملأون الفراغ
وغالبا ما كان يمر أمام بيوته‏/‏ يتسمع الضحكات ويعبر راضيا

..‏
يسمونه صانع بيوت‏/‏ ويسمي نفسه
خالق حيوات في غرف لها سلالم‏/‏ تؤدي إلي السماء
وذات مساء‏/‏ صعد إلي الجبال فلم يشاهد فراغا
كانت بيوته تهمس فيما بينها‏/‏ عن وباء لم يسمع به الناس بعد
فعاد إلي بيته حزينا ولم يتكلم‏.‏
قالت زوجته‏/‏ إنه كان يهذي‏/‏ ويحكي
عن بنايات تكبر أسرع من أصحابها
ثم تأمره أن يصلي راكعا للأبواب والنوافذ‏.‏
وفيما بعد‏/‏ سمع الجيران عويلا
فهرعوا في سراويل النوم إلي بيته‏..‏
في الصباح شيدوا مقبرة كبيرة‏/‏ وزينوها بالنوافذ‏'.‏
ومن الواضح أن الشاعر قد استغني عن الإيقاع الغنائي واستبدل به الإيقاع السردي في قصيدته النثرية المكثفة‏,‏ وإذا كان قد سماها‏'‏ حكاية حاسرة الرأس‏'‏ فلعله قد قصد بها كناية متعددة الدلالات‏,‏ قد نفهم منها الكشف والوضوح‏,‏ أو الضراعة والابتهال‏,‏ أو مجرد الصورة التشكيلية الجميلة‏,‏ أو غير ذلك مما يتراءي لهوي القراء ومزاجهم في لحظة القراءة‏,‏ فليس هناك معني قانوني لا يجوز تجاوزه في لعبة التخييل والتأويل‏.‏ وما يصح في العنوان يصدق علي الحكاية ذاتها‏,‏ فهي مقصوصة من قماش الرمز‏,‏ تتحدث عن صانع بيوت يحرص علي تزيينها بالنوافذ‏,‏ يري نفسه خالق حيوات تفضي إلي السماء دائما‏.‏ وعندما يجد الوباء قد أخذ يفتك بسكانه يهرع إلي بيته‏,‏ يهذي ويحكي حتي ينتهي به الأمر إلي مقبرة‏..‏ ذات نوافذ أيضا‏.‏
الحكاية تقدم أمثولة محكمة تتسع لألوان عديدة من الفهم والتأويل‏,‏ فقد تكون تمثيلا للإنسان‏,‏ صانع الحضارة وعمارة الكون أمام جبروت النهاية‏,‏ حيث تتطاول بناياته شامخة أكبر من أصحابها وينتهي أمره إلي القبر‏,‏ غير أنها بحركاتها السردية وتفاصيلها الحوارية تقدم نموذجا لافتا للتكوين القصصي الوجيز في دقته وبلاغته‏.‏ وقد تكون أمثولة للفنان المبدع‏,‏ الذي تصنع يداه عوالم مبسوطة علي الأرض ومشرعة نحو السماء‏,‏ لكن البشر فيها سرعان ما يجتاحهم الوباء وتاركين له الحزن والهذيان والنهاية المحتومة‏.‏ وقد تشير إلي غير ذلك مما تبتكره مخيلة القراء‏,‏ وتلونه أفهامهم‏,‏ لكنها في جميع الحالات تظل مفعمة بروح الشعر والشجن العميق‏,‏ دون أن تكون بحاجة إلي نقرات الدفوف في إيقاع الغناء المتداول‏.‏
في محبة الأشياء‏:‏
يمتزج شعر جرجس شكري بعرق فلسفي ضارب في أصلابه‏,‏ يتوق لمطارحة الوجود المطلق والرؤي الكلية الميتافيزيقية‏,‏ لكنه في الآن ذاته يمسك بعناصر الحياة اليومية‏,‏ مجتهدا في ترميزها‏,‏ وتكثيف معناها‏,‏ ليصل علي عكس ما تعود عليه الشعراء‏,‏ من التجسيد إلي التجريد‏.‏ ومع أن تكويناته تبدو مكتملة ومكتفية بذاتها‏,‏ وقابلة للفهم الواضح علي المستوي المباشر‏,‏ فإن معالجاته لأحوال الأشياء‏,‏ واستنطاقه للأدوات المادية في الحياة‏,‏ مثل الأطباق والمطارق والسكاكين‏,‏ سرعان ما يكشف عن ثقوب نري من خلالها دلالات أبعد ورؤي أعمق مغلفة بضباب الشعر الشفيف‏.‏ وهو عندما يخص الأشياء بمحبته يختار منها ما يبدو أن وظيفته تتعارض مع مفهوم المحبة‏,‏ فينطق السكاكين بدفاع مشهود عن مهمتها في الذبح‏,‏ في سخرية طريفة يشي بها العنوان اللاذع‏'‏ النشيد القومي‏'‏ قائلا‏:‏

'‏نحن السكاكين‏/‏ لنا شفرات تصرخ‏/‏ ومقابضنا ميتة
نعرف أننا نذبح ونمزق‏/‏ ولا تخدعنا محبة القصاب
نبتسم للذبيحة وهي تتألم‏/‏ فلا تكرهونا
نحن السكاكين الكافرة‏/‏ بكل محبة
خلقنا هكذا دون قلوب‏.‏
وضعوا مشاعرنا في نصل حاد
وأوصانا الحداد الخالق‏/‏ أن نذبح وبقوة
حتي لا نموت‏.‏

..‏
فلا تكرهونا حين نذبحكم‏/‏ نحن لا نعرف الألم
وأيضا لا نبكي‏/‏ فقط نذبح
فيرتفع النصل الحاد عاليا‏/‏ دون خوف‏.'‏
ومهما كان الكلام في ظاهره عن الأشياء‏,‏ لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التفكير في الأشخاص‏,‏ وربما كان المناخ الذي تنجح المقطوعة في تصويره أقرب لأفلام العنف في السينما التجريبية‏,‏ وهي تعتمد علي تشكيل متخيل كلي‏,‏ قادر علي تمثيل ما في الحياة المعاصرة من الرعب المدهش والعنف الدموي الرهيب‏.‏ والمفارقة هنا أن السكاكين تصبح أناسا وهي تنشد معزوفتها الباردة‏,‏ بمقدار ما يصبح الناس آلات حادة صماء للذبح بقوة ودون شعور كما نراهم في الواقع الملموس‏,‏ فتبادل الأدوار بين الأشياء والأشخاص‏,‏ واستمرار الحديث عن المحبة‏,‏ يجعل الآلة أجدر بالتعاطف من البشر‏,‏ ويعطي للأشياء درجة من النبل تتفوق بها علي الإنسان المتوحش‏,‏ مما يفرغ الطاقة الكامنة في عملية التجسيد العيني من دلالتها التمثيلية‏,‏ لتصبح معادلا مجازيا للشعور الباهظ بوطأة التشوه الأخلاقي للبشر‏.‏ وربما نلمح في العنوان التهكمي‏'‏ النشيد القومي‏'‏ إشارة خاطفة لعقلية الجماعات المعاصرة عندما نرتكب أشنع انتهاكات لحقوق الإنسان وهي تحتمي بمفاهيم الوطنية والقومية والعدالة والحرية وغير ذلك من الدعاوي المثيرة للسخرية‏.‏ علي أن النص يورط القارئ في التلبس بهذا الموقف عندما يقرأونه بضمير المتكلمين‏,‏ فيصبحون بدورهم آلات منشدة‏,‏ تدور في دوامة العنف الطاغية التي تجعل من كل واحد فينا ذابحا أو مذبوحا دون أن يكون له من الأمر شيء‏,‏ ودون أن يستطيع الفكاك من الشفرات المسنونة‏,‏ والكره المفروض الذي يتغني بالمحبة‏.‏
الأيدي في عطلة‏:‏
أما كيف تصبح‏'‏ الأيدي في عطلة رسمية‏'‏ كما يرد في عنوان الديوان‏,‏ فإن القصيدة الأخيرة المكونة من سبعة مقاطع تتكفل بتمثيل ذلك‏,‏ وحسبنا أن نتأمل المقطع الأول وهو يسرد حركة الزمن فيها لندرك رؤية الشاعر‏,‏ إذ كان المجال لا يسمح بتأمل بقية مقاطعها التي لا تخرج عن النمط ذاته وهو يقول‏:‏

'‏شاهدت بعضهم يشيخ‏/‏ وذهبت مع آخرين إلي المقبرة
بكيت‏/‏ ومنحتهم خالص أحزاني‏.‏
أيضا شاخت الشوارع‏/‏ وتلاشت بعض البيوت
سترتي التي أحبها‏/‏ ذهبت في نهاية مأساوية
إلي المطبخ‏.‏
تصدعت جدران معدتي‏/‏ من القلق
وتشققت قدماي‏/‏ من الجري وراء المحبة

..‏
وما زلت‏/‏ أسكر في نفس الحانة
أنا ويدي اليمني‏/‏ التي تحمل الكأس
إلي فمي في كل مساء‏/‏ منذ عشرين عاما
وتنتظر أن أشيخ‏'‏
لابد أن نلاحظ الأثر القوي للغة الكتاب المقدس في أبنية الجملة الشعرية في المجموعة كلها وطبيعة التخيل وأنماط التصوير فيها‏,‏ إضافة إلي تلك الحكمة الصافية التي تتقطر في ثنايا العبارات‏,‏ فكأنه يقتبس منه وهو يقول‏'‏ تشققت قدماي من الجري وراء المحبة‏,‏ وما زلت أسكر في نفس الحانة‏'‏ وكأنه ينهل من المنبع ذاته وهو يجسد في صور حسية عذبة مذاق الفكر الذي يبلغ درجة عالية من الوجد الصوفي والتجريد الكوني في آن واحد‏,‏ وبينما يحكي مشاهد سردية قد تبدو مبتذلة في تمثيلاتها الخشنة‏,‏ عندما يتحدث عن سترته المحبوبة التي انتهي مصيرها إلي المطبخ أو عن معدته التي تصدعت من القلق‏,‏ نجده ينفذ من ذلك إلي إضاءة الروح بقبس من حكمة الوجود عندما تتجلي في تضاعيف الكلام المنثور المكتنز بعطر الشعر الحقيقي‏.
صلاح فضل - الأهرام

للتبليغ عن أي رابط غير فعال, الرجاء إرسال رسالة إلى:
abuabdo101@gmail.com

No comments:

Post a Comment