في روايتها الثالثة من هنا وهناك, تواصل الروائية بشرى محمد أبو شرار البحث في أجندتها الذاتية, وتقطير معاناتها نموذجا شاهدا على معاناة الشعب الفلسطيني, وذلك من خلال رحلة الوصول إلى الوطن علي هدير نزف لا يتوقف, وفقد متواصل, ميز حياتها, فقد نشأت في بيئة شكل الهم الوطني زادها اليومي, فانعكس في أدق التفاصيل, فأبوها الذي رافق عبد القادر الحسيني وإبراهيم أبو دية فرسان المقاومة في معارك النكبة, وتصدى لمشروع ضم الضفة الغربية لإمارة شرق الأردن ونزع الصفة الفلسطينية عنها, فطورد لاجئا سياسيا في كنف جمال عبد الناصر تاركا قريته دورا في جبل الخليل إلى غزة, ليصبح مسقط رأسه أمامه على مرمى حجر, ما جعله ينذر حياته للدفاع عنها, وهذا ما جعل أخاها ماجد يؤجل أحلامه في الأدب, ويلتحق بالمقاومة مقاتلا وقائدا ثائرا, حتى تناثر مع متفجرة غادرةَ نالت منه في روما فلا غرابة والأمر كذالك أن يرفرف طائر الأحزان حول رأسها في صحّوها ونومها ,يبحث عن حقل حنطة بيضاء. حرث الآخرون تربته بمحاريث أخذت البذور إلى التفحم قبل أن تمارس شهيق الحياة
لكن غيث المعاناة يأتي مع شمس الحقيقة, ليصير الحقل إلى خضرة دائمة, تستقبل روح الندى مع مولد الفجر المتخلق من ثوب ليل رهيف, يبشر بتسابيح النهارات القادمة.
بوابة الدخول..بوابة الخروج
الحياة لا تتوقف, وها هي زهرة ابنة ماجد تتهيأ للفرح, وتستدعي اللوعة عند كتابة الدعوة لعرس ابنة المرحوم ماجد أم ابنة الشهيد," والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون" لا فرق فالرجل لن يقف لاستقبال المهنئين ,ولن يطبع قبلة الخروج على جبين العروس, ولن يأخذا العريس إلى صدره, فقط سيتنحى جانبا حتى تأخذ لحظة الفرح توهجها..أي لوعة تداهم العمة /الراوية, تدك عظامها مع صقيع الغربة, وحيدة في حجرتها المطلة علي بحر الإسكندرية تبحث عن سلوى, هاربة تبحث عن حيوات أخرى مع تولستوى وقسطنطين سيمونوف وحكايات همنجواى عن البيت الذي يموت قبل أن يموت الذين عاشوا فيه ..وكل البيوت التي سكنتها ماتت ماعدا ذلك البيت في غزة الذي يسكنها ومازال يردد سيرة من سكنوه ولم يغادروه..فهل ما تكتبه بشرى أبو شرار معاناة ألم فردي أم صدى للعذاب الإنساني, في عالم تصطرع فيه الشهوات المدمرة وتقذف الحقيقة في جب العدم وظلمة النسيان, من يأخذ القاصة إلى صدر الأم فهي التي ترى الذهول في عروقها وتسمع هديره يصطرع في داخلها.
ربما لا يتجاوز القارئ مدار الأحداث المباشرة, وربما تأخذه شفرات النص إلى مزيد من الأسئلة حول الجور والعسف والاستلاب والانفجارات. فكيف للرواية تحقيق الانتصارات والعالم يتسلى بمراقبة المشهد عن بعد.؟
شخصيات عابرة وشخص مقيم
تستدعي الرواية عددا كبيرا من الشخصيات الحقيقة " منها الحي ومنها الميت " تظهر وتغيب, تبدو للوهلة الأولى شخصيات عابرة لا تترك بصماتها, ما يحير القارئ في مبرر حضورها على أرضية الرواية, وإذا ما توفرت لها شروط الشخصية الروائية, وما موقعها في السرد, وهل كون العمل يقوم على السيرة الذاتية, يملك الحق في الانتشار المتشعع كما هي الحياة في تداعياتها, وهل استطاعت الكاتبة ترويض السيرة إلى نسق فني مقنع ؟
الشخصيات في محطات تعكسها مرايا الكاتبة إن قدرة الكاتبة على التقاط العادي, وإعادة إنتاجه في مرجل تجربتها المنقوعة بالألم والفقد ودفع فواتير العقوق والخذلان, والصعود به إلي سياقات تتناغم مع الهم الإنساني الأشمل يؤكد وفي أكثر من موضع, أن الكاتبة تعيش مع وبين الناس, ويسكنها وعلى مدار الوقت شخص راصد يصارع الأسئلة .وعندما يتقاطع الحدث اليومي مع السؤال القابع والمتحفز يتحول التقاطع إلى تأويل طازج يأخذ مكانه الصحيح في معمار الرواية ,وعلى ذلك تحضر مع الأسئلة :
لماذا حدث ذلك؟ ولماذا فعلوا ذلك؟ وأي حال يجب أن يكون عليه الأمر؟
لا حدث مركزي تتراكم عليه سلاسل أو عناقيد أحداث تأتي صعودا أو هبوطا, لأن الفعل الشعوري والرصد النفسي هو سّيد الحالة, يتنامى بالتراكم حتى ذروة المعاناة, ما يجعل حالة الفقد حاضرة ,ساخنة حضور الدم في الأوردة وما يجعل الغياب حضورا والحضور إرهاصا بالغياب .فمعظم الشخصيات على قيد الحياة "منهم من غادروا الحياة بعد زمن القص ,مثل عبد الرحمن منيف", والغائبون القدامى حضروا بأعمالهم ,والجميع رسموا تفاصيل الحاضر للغائب ماجد أبو شرار..فها هو إسماعيل شموط يتحدث عن موت أخيه توفيق ويستدعي قصة هارون الساقي الذي سقى العطشى أربعين سنة ولم يجد من يقدم له شربة ماء شموط يرسم السيرة والمسيرة فيخّلد أحلام الشهيد, وعز الدين المناصرة يعتز بماجد شاهدا على عقد قرانه من زوجته كاملة, ويعاهده على التغني بسيرة باجس أبو عطوان ونبيل عمرو الذي دربها في إذاعة الثورة يأتي مع أصداء محاولة اغتياله وتهديد ساقه بالبتر نبيل هو من كتب كلمة تأبين وقدمها للأب المكلوم ليلقيها في أربعين الشهيد, فيمزقها الأب المناضل القديم ويصدح محذرا :
"نركب السيارات الفارهة ..نبني القصور ..ونلبس من صناعة الأزياء العالمية ,وتبغون الأرض لن تحرر الارض هكذا .." ويصّر الأب المقاتل العنيد على حفظ رفات ابنه في صندوق من معدن لا يصدأ, ويدفنه في مرقد مؤقت في حضن بيروت, إلى أن يعود إلى تربته الأم. ليلتقي مع ناجي العلي الذي أخذته رصاصة غادرة, لكن حنظلة توقف عند مرحلة الطفولة شابكا كفيه خلف ظهره ينظر للعالم باستخفاف.كما ظلت قصص ماجد علي الصفحة الأخيرة من مجلة الثورة, درسا يتعلمه جهاد هديب وموسى حوامده من الأجيال اللاحقة0ففي الرواية نجد الغائب حاضرا, والحاضر شاهدا, والمتخيل يقفز من أحشاء الواقع لينعكس على مرايا الكاتبة المزحومة لحد الفيض 0
الاغتراب /المنفى/ التشظي
يظهر المنفى والاغتراب وطمس الهوية بوضوح في الرواية, لكن ثمة منفى أعمق هو المغترب الداخلي, يمزق الفرد في ظل خيبات تنتهي مشاويرها قبل الولوج إلى البدايات, ما يجعل الأيام محطات حارقة, تلّون ما يتلوها بالحسرة ..فها هو جابر رفيق صباها يذّكرها بعد عشرين سنة بمن أحبوها, فيحضرها بسام الكسيح الذي اختزن عواطفه واكتفى بافتراش الشارع يبشر بقدومها, تقرأ في عينيه آيات عشق محرم, وتأخذه في صدرها إلى منطقة بين الشفقة والرحمة, فقد كانت مشغولة بصبي في المخيم يجاور الباخرة المهشمة, لا تدري أن حلمها سيتحطم تحت رفض الأم الارتباط بفتى فقي, ومراوغة الأب بتأجيل الأمر إلي ما بعد إكمال الدراسة .
وفي الجامعة تلتقي بالشاب الذي لم تجرؤ على البوح له بحبها, ولا هو يجرؤ على اتخاذ المبادرة, ويغادر مع حبه وصمته إلى المخيم في بيروت, وعندما تذهب لزيارته هناك يصدها الباب, فيما فيروز تغني (لا تندهي..ما في حدا) وعندما يقابلها بعد عقد من الزمن, يخبرها أنه كان في المنزل وخجل من مقابلتها فقد كان يعاني من المرض والفقر. أي لعبة قاتلة يلعبها معها القدر؟ فتدفعها لحظة ضعف إلى من يريد جسدها دون روحها "أعطيت زوجي عشرين سنة ولم أستطع أن ابني معه علاقة من خلال جسد أعطيه في ..جسدي وعاء روحي .وفي آخر المشوار أتلاشى." وها هي تجمع نثار ذاتها, من خلال تقصيها سيرة أخيها, وحكايات أبيها, ترهف السمع لعبد الرحمن الربيعي وهو يؤكد إن المرأة والرجل ضفتي نهر, واحد وتدهشها رهافة ذلك المثقف الكبير الذي التقط رائحة عطرها (مرياج) وقد تعطرت به على عجل, كما تأخذها عذابات جبار ياسين المنفي الذي يحمل أحلام المثقفين المتعبين بأوطانهم أينما ذهب.وجميلة كلما زاد إحساسها بالفقد تعمق شعورها بالاستلاب ,فنراها ترفض اغتيال فتاة بوسطجي يحيى حقي, وهنادي دعاء الكروان, وذبح حسنة بنت أبو حسين الذي قتلها أخوها, وتستهجن قبول أبوها المحامي محمد أبو شرار الدفاع عنه واعتبار الأمر قضية شرف..
جميلة/الراوية تعيش الحصار لدرجة الانفجار, فالحياة التي تنشدها يجب أن تعاش بالامتلاء وامتلاك الحضور المتكافئ, بعيدا عن توصيف الجنس وجغرافيا الجسد.ولكن تكون رقصا على إيقاعات التفاعل الايجابي الذي يتصاعد بالطاقة الإنسانية إلى ذروة تجلياتها, فالذي لا ينشد الذروة يفقد إنسانيته وتركبه شهوة الوصول إلى غير المتاح.
الزمن فاعل متربص
ثمة شيء يتربص بالراوية, حدث فاصل, شخص مفاجئ ,تفصيل صغير.لا شيء من هذا أو ذاك, فالأمور تسير مع إيقاعاتها, والفصول تسكن مقاماتها دون إرهاص بإشارة.ما عدا الزمن. ذلك المتوثب للانقضاض, يتقدم خطوة ليعود إلي البعيد, ثم يسكن الآني خطفا ويتربع عند مشارف الآتي .الزمن هنا وبمشاغبة غير مرّوضة فنيا يجيد العبث, يومض مثل برق, ثم يتراخى إلى لزوجة جلد ثعبان مراوغ, يهرب من الواقع إلي الحلم, يسكن بين الذاكرة والحضور.شاهد على نزف المظلومين, يتجلى في عذاب الراوية مع شريك يطأ لحمها ولا يصل روحها, موهوما بحقه الشرعي, لا يدرك أنه يمارس القتل اليومي ,ما يجعل الأجندة متعددة القراءات, طيّعة للتأويل.فالحاضر مذبوح بين المقاومة والاغتراب, والدهشة حاضرة كالانفجار الداخلي الذي زلزل صديقها راسم, عندما اكتشف أن صديق عمره عثمان يبيع كتبه (جهد عمره ) ذلك الصديق الذي يضعف أمام حفنة نقود, هو ذات المبدع الذي يتملكه الشعور بالولادة من جديد ,عندما يرى اسمه ورسمه, في معجم أدباء مصر..! أي مفارقة يشهدها هذا الزمن ,وكيف لمن يقتل جهد أخيه أن يبحث عن الخلود؟..لكن الزمن أيضا هو من يخرج الكاتبة من كابوس التداعيات على جناح خبر قبولها عضوا عاملا في اتحاد كتاب فلسطين المحاصرة .
هكذا يلعب الزمن لعبته ,ولذا كانت الإشارة في الصفحة الأولى من الرواية,عندما وقف طائر الأحزان على ساق واحدة, وقد ضم جناحيه على جسد منتوف الريش يرتجف من صقيع الغربة يتزود بلهاث الصبر حتى يعود له ريشه الذي احترق في أتون النّوات, فهل يطير من رماد الوقت كما العنقاء مبشرا بالأسطورة الفلسطينية ؟ وهل طمحت الرواية إلى ذلك ؟وهل قدمت الرواية وميضا أو شرر؟
أعتقد أن الفن الذي ينشغل بالإرهاص ويحذر فرقعات البالونات المعبأة بالهواء الفاسد هو الفن الذي يليق بالحياة وأعتقد أن رواية من هنا وهناك, حاولت الاستشراف ونجحت
غريب عسقلاني - أدب فن
http://www.mediafire.com/?9l5j3rnp17476nc
No comments:
Post a Comment