روائي سكندري طموح في نهاية الستينيات من عمره, بلغ إنتاجه الأدبي خمس عشرة رواية وتسع مجموعات قصصية, وعددا وفيرا من الأعمال الدرامية والإذاعية. يجترح في هذه الرواية الأخيرة الحب والزمن مغامرة محسوبة في التخييل والتوثيق,
يقترب إلي درجة التماهي مع راوية المهندس الكيماوي مراد عامر لينسج شبكة الزمن في ضفيرة متباعدة الطرفين; بينهما قرابة أربعة عقود هي الفاصلة بين مرحلة النكسة عام 1967 ووصوله سن التقاعد عام 2006 حيث قرر فتح مقهي بلدي في حي سيدي جابر قرب الشاطيء; في منتصف المسافة بين المسجد الشهير وأحد البارات الصغيرة المرخصة, اشتريته بعد إحالتي علي التقاعد بأشهر قليلة, كانت قيمته تعادل إجمالي ما تقاضيته من مكافآت نهاية الخدمة والتأمينات وصندوق الزمالة وصندوق تكافل نقابة المهندسين; خصصت ركنا بالمقهي لتجمع الأدباء, اعتادوا اللجوء إليه بعد الخروج من قصر ثقافة سيدي جابر لقربه منهم, ولكون أسعاره في متناول جيوبهم التي تشكو دائما من الإفلاس, في تناسب عكسي مع ارتفاع أصواتهم, أشعر بانتماء قوي إلي عالمهم الذي أري فيه سحر حلالا. وقد أخذ الراوي يتخيل أنه كتب مذكراته أيام صباه, وأخذ يقرؤها علي هؤلاء الأدباء, وهي مذكرات بدأت بالنكسة وانتهت بحادث المنصة عام 1981 م, وقد وضع لها عنوان الشرخ وكانت هذه الكتابة بالنسبة له ـ كما يقول ـ بمثابة العلاج الطبيعي لمريض عصابي دائم القلق والتوتر. لكنه لم يحافظ علي الاتساق الزمني في عرضه لهذه الفترات, بل أوغل في تكسير الزمن ومضاعفة ثنياته, وأسرف في الاسترجاعات المربكة للقارئ دون ضرورة فنية.
وإذا كانت حيلة تكسير الزمن من قبيل التقنيات الفنية المشروعة نسبيا فإن سعيد سالم يلجأ في هذه الرواية إلي حيلة غير معهودة; تهدف إلي تحويل العام إلي الخاص, علي عكس ما هو مألوف في الإبداع السردي من تحويل الخاص الفردي إلي نموذج إنساني عام; إذ يدمج ما يطلق عليه الملفات المرقمة وهي عديدة داخل العمل, مع أنها نصوص منشورة مستقطعة من مواد مأخوذة من صحف المعارضة أو علي المواقع الاليكترونية لناشطين سياسيين عن تدهور الأوضاع في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية, وهي تقنية برع فيها صنع الله ابراهيم بأسلوبه المميز, لكنها بهذه الطريقة المباشرة تخلو تماما من القيمة الجمالية, وتظل غير متجانسة مع المادة المتخيلة, فليست خواطر للشخوص, ولا خلاصة خبرات لتجربتها الحيوية, ولكنها زوائد في جسد الرواية, تشهد بشجاعة من يسجلها إن كان قد كتبها قبل ثورة يناير, ولأن الرواية منشورة في يوليو عام 2011 فإنها تصبح خلايا غير حميدة تبتز مشاعر القراء, ولا جدوي في أن يؤكد الكاتب أنه أتمها عام 2006 لأن المعول علي تاريخ النشر, ويكفي أن نورد نصا قصيرا من هذه الملفات الطويلة للبرهنة علي ذلك في مقابل نص آخر نجح الكاتب في استزراعه في جسد الرواية, يقول النص الأول: تذكر منظمة الهيومان رايتس أن وسائل التعذيب في مصر تتضمن الضرب بالأيدي والأسلاك الكهربائية والتعليق في أوضاع أليمة والاغتصاب والعنف الجنسي, وقد رصدت الجمعية المصرية لمناهضة التعذيب أكثر من ثلاثين حالة وفاة في السجون نتيجة تعذيب الشرطة خلال عام واحد ولو كان شيء من ذلك حدث لأحد أبطال الرواية لكان تجسيده أوقع ألف مرة من هذا التقرير.
علي الرغم من ذلك فإن هذا المزج بين المادة التوثيقية والتخييلية يضفي علي السرد طابعا سياسيا حميما, يكاد يصل في بعض لحظاته إلي أن تصبح الوثائق هي لوثة الراوي القريب جدا من الكاتب الضمني, فهو شغوف بالبحر والغناء, مشغول بكتابة شيء عن نجيب محفوظ, والمشاهد الأخيرة من الرواية تبرر ذلك بحرفية بالغة, فهو يكاد يذوب في الماء مرتكبا ما لا يجرؤ علي فعله سوي الاسكندرانية, انسحبت بعيدا عن الشاطيء حتي لا يراني أحد, خلعت المايوه وعلقته علي رقبتي, وذبت في الماء وتلاشيت, تكلمت إلي الله بصوت مسموع كله خشوع وتوسل وتذلل, ألا يترك مصر نهبا للصراع والفوضي, غنيت لأم كلثوم حبيبي يسعد أوقاته علي الجمال سلطان لم أكتف بالغناء, بل كنت أردد الجمل الموسيقية بإتقان شديد أما المشهد الأخير في الرواية فهو منقول في صحبة نجيب محفوظ, يقول فيه الراوي: كان وقت صلاة العصر قد اقترب, فرأيت أن أصليه مع الشيخ خليل في المسجد لأستكمل شعوري بالخفة والطيران والشفافية, الليلة ليلة غصون, ليلة حب وحياة وبهجة وتقرب إلي صاحب النعم بالاغتراف من نعمه وشكره عليها, في الطريق إلي المسجد تذكرت عبد الله التائه الذي سأله نجيب محفوظ:
ـ متي تنصلح حال البلد ؟ عندما يؤمن أهلها أن عاقبة الجبن أسوأ من عاقبة السلامة. وكيف تنتهي المحنة التي نعانيها ؟ـ إن خرجنا سالمين فهي الرحمة, وإن خرجنا هالكين فهو العدل وبين سعيد سالم ونجيب محفوظ يقع هذا التعادل في المصير, ليجعل من رواية الحب والزمن شهادة علي عصر لم يقدر لمحفوظ أن يري نهايته ليتطلع في أمل وإشفاق إلي العصر الجديد, ولم يقدر لسعيد سالم أن يجسد بوسائل تقنية بحتة مشهد ميلاده.
صلاح فضل
تحتاج إلى أحدث نسخة من أكروبات ريدر لتتمكن من فتح هذا الكتاب. إذا طلب منك باسوورد, فهذا يعني أن نسختك قديمة!! رجاءا تنزيل أحدث نسخة من: