إلى سلالة المعلمين الكبار ينتمي ياسين الحافظ، تتلمذ له جيلان من المثقفين والمناضلين العرب: جيل رافقه وقرأ له، واحتك بمعاناته الفذة مع قضايا التغيير والهزيمة ونقد فكرة الهزيمة، وتقاسم معه هواجس حقبة انتقالية دراماتيكية من عصر الثورة إلى عصر الثورة المضادة. وجيل أعقبه فوجد في نصوصه ما يضيء بحثه عن أفق صعب في الظلمة الظلماء لمرحلة تعرجت فيها السبل، وذهلت فيها الأفكار عن بيناتها والمقاصد. عاش معه الجيل طوبى التغيير الثوري والوحدة القومية والبناء الاشتراكي مثلما ذاق معه مرارة الهزيمة وانكسار الأحلام ووهن العنفوان. أما الجيل الثاني، الذي نشأ وعيه السياسي في سياق الهزيمة وعقابيلها السياسية والنفسية. فأخذ عن المعلم (ياسين الحافظ) عدته وعتاده النقديين وإيمانه العميق الراسخ بقضية الوطن والأمة. ليست ثمة فجوة كبيرة بين الجيلين، لأن نصوص الحافظ كانت البرزخ وكانت أداة الوصل، ولأن الأسئلة الكبرى التي طرحها على الوعي العربي، منذ خواتيم الستينات، وهزّت بحدتها الكثير من البداهات واليقينيات، هي عينها الأسئلة التي لم تزل تتردد في الوعي السياسي الراهن، وتعيد طرحها، بكيفيات مختلفة، جمهرة من المثقفين تعلمت من الحافظ أن لا ترمي تاريخها وراءها، وأن لا تفقد الإيمان بإرادة التغيير، أو بعدالة قضايا الأمة. بهذه المعاني وبكثير غيرها، كان ياسين الحافظ معلماً ومدرسة وعنوان اختيار وفعل. ولعله اليوم من قليلين ما زالت نصوصهم قادرة على تعبئة الوعي بالأسئلة الصحيحة في مراحل جديدة حبلى بتحولات وانقلابات كَنسَت أكثر الأسئلة الموروثة عن حقبة الثورة وردّتها على أعقابها. ولم تكن نصوصه لتكنز هذه المزية إلا باعتبار أصالتها ونقديتها. تتغذى أصالتها من عميق الصلات التي نسجتها مع القضايا التي فكرت فيها وأنتجت رؤيا حولها: لم تطل على هاتيك القضايا من عل، ولا ركبت في مقاربتها مركب التمرين النظري للقوالب المجردة على واقع لا وضع اعتبارياً له إلا أن يكو حالة تطبيقية لـ"علمٍ" جاهز ومنظومة مفاهيمه مجردة ومتعالية على العياني... بل تناولتها مهجوسة بأولوية سؤال الواقع على أجوبة الذهن، وبالحاجة إلى "فكر مطابق"، في لغة الحافظ، لا يتأمل الواقع معيارياً، أو من حيث ما ينبغي عليه أن يكون، بل يتأمله وضعياً: مثلما هو كائن. أما نقديتها، فتنتمي إلى شروط الكتابة نفسها وإلى حاسة تاريخية مرهفة لدى الرجل. إن منزعه النقدي وريث النائبات والملمات والتحولات العاصفة؛ حملت عليه الهزائم والنكسات وانفضاح البرامج والشعارات والقينيات في امتحان الواقع. لكنه منزع ما نشأ عفواً من صدمة الهزائم والخيبات، بل التلازم مع وعي حاد بالواقعية والتاريخ قاد صاحبه إلى نظرة نسبية إلى الأشياء. وهكذا لم تسجنه أصالة وعيه في شرانق النكوصية والتحسس المرضي من النقد؛ ولم تذهب به حاسته النقدية إلى حيث يذهل عن الثوابت والمبادئ. تلك إضافة لبعض فكر ياسين الحافظ في تأليفه، ويمكن القول بأن نصوص هذا الرجل الكبير الفذّ وحدها تستطيع أن تقدم نفسها بنفسها.
نبذة النيل والفرات
أو
تحتاج إلى أحدث نسخة من أكروبات ريدر لتتمكن من فتح هذا الكتاب. إذا طلب منك باسوورد, فهذا يعني أن نسختك قديمة!! رجاءا تنزيل أحدث نسخة من:
No comments:
Post a Comment