منشورات الجمل, كولونيا 1990 | سحب وتعديل جمال حتمل | 152 صفحة | PDF | 3.48 MB
http://www.4shared.com/office/plwMfvKice/___-_____.htmlor
http://www.mediafire.com/view/wh55o53d99hcj7c/عبد_القادر_الجنابي_-_معارك_من_أجل_الرغبة_الاباحيه.pdf
الجنابي: من يكون؟
شاعر وفنان وناقد مثقف عراقي، ولد ببغداد في الاول من تموز/ يوليو 1944. لم يستفد من " المدرسة " شيئا اذ كانت شقاوته وعبقريته اكبر منها فصار يدخل عالم الشعر مترجما عن الانكليزية من الشعر الزنجي.. اختنق في العراق على مدى سنتين من حكم البعثيين، فهرب الى لندن في العام 1970، واندمج بالحركة التروتسكية معبّرا مخلصا عن " الثورة العربية " لسان حال الاممية الرابعة، ثم اكتشف أنه لم يبق من ديناميكية في هذه الأممية سوى نقاوة تروتسكي الثورية، فتمّرد عليها وانخرط في عالم السوريالية كي يتحرر كليا من اي تبعية وخصوصا بعد هجرته لندن نحو باريس التي استقر فيها بعد ان قّضى في لندن سنتين وستة اشهر. نشر " الرغبة الاباحية " في العام 1973 بعد وصوله باريس، وأجده هنا قد تأثّر وتشّبع بما يسمى بـ الثقافة الضدّ Counter Culture التي راجت في الستينيات وأوائل السبعينات من القرن العشرين. نعم، لقد خرج من التروتسكية الى حركة المجالسية المضادة لكل لينينية وحزبوية، ومن هنا كان اسم اول مجلة اطلقها في العام 1973 هو "الرغبة الإباحية". والإباحية ترجمة وجدها الجنابي مناسبة بالرغم من الالتباس الشائع عنها للكلمة الفرنسية التي تطلق على تيار الماركسية الفوضوية Libertaire.
تمّكن الجنابي من الثقافتين الانكليزية والفرنسية، واصدر عدة كراريس شعرية ومجلات بالانكليزية والفرنسية والعربية منها: "في هواء اللغة الطلق" (197، "ثمة موتى يجب قتلهم" (1982)، "مصرع الوضوح" (1984). واصدر في العام 1982 مجلة "النقطة" التي استمرت عامين وظهر منها اربعة أعداد فقط، ثم اعقبها بمجلة "فراديس" التي اشتهرت كثيرا لدى المثقفين العرب المتحررين من كل القيود والتي كانت أول من فتحت ملف جيل الستينات العراقي، ومن هنا اصدر في العام 1992 أضخم انطولوجيا موثقة لشعرية هذا الجيل ومعاركه الضارية، تحت عنوان "انفرادات الشعر العراقي الجديد" (528 صفحة، منشورات الجمل). بعد ذاك اصدر الجنابي كتابا بعنوان: "مرح الغربة الشرقية" في العام 1988، وترجمتين لشعر جويس منصور وباول تسيلان و ثم اصدر "رسالة مفتوحة إلى أدونيس: في الصوقية والسوريالية ومدارس أدبية أخرى.. (دار الجديد 1994)، وكتابيه "حياة ما بعد الياء" (فراديس 1995)، و"تربية عبد القادر الجنابي" (دار الجديد 1995)، وأخيرا، اصدر كتابه "الافعى بلا رأس ولا ذيل: انطولوجيا قصيدة النثر الفرنسية" عن دار النهار في العام 2001. ناهيك عن عدة انطولوجيات للشعر العربي بالفرنسية. ولقد وّضحت اعمال الجنابي الابداعية والنقدية قدرته العالية في التفوق الذي نجح في التوّصل اليه من خلال غنى تجربته الثقافية وعمق وعيه بالحداثة الغربية.
من هو الرجل؟
لم اكن اعرفه معرفة شخصية، ولكنني كنت اتابع انشطته وابداعاته التي عادة ما يجسدها باشعار تعد ومضات في قلب دنيا مظلمة.. مذ كنت اعيش في كل من بريطانيا والمانيا الغربية قبل عشرين عاما. كنت اقرأ للجنابي فراديسه واشعاره واستمتع بمجادلاته الاباحية ونقداته الشرسة لبعض من عدّوا انفسهم سدنة مهترئين للثقافة العربية المعاصرة.. ثم حكمت الصدف وما احلى الصدف، ان تتوثق عرى صداقتنا كأثنين من المثقفين العراقيين الذين يشتركون في نهر عجائبي من الهموم.. وكان أن أهدى لي منذ زمن ليس بالقصير بعض أعماله الادبية والنقدية والابداعية، وقسم منها نادر جدا، خصوصا وأنني أعمل على توثيق مضامين كتابي "انتلجينسيا العراق: النخب المثقفة في القرن العشرين"، فصرت أمام عالم مترع بالجمال، عالم من مخلوقات عبد القادر الغريبة.. كنت انتزع من زمني قليلا لأهرع اليه وابتهج قليلا وافكر طويلا بما يريد ان يقوله، وكأنه يرتّل الكلمات ترتيلا، ثم اعود لأجده وكأنه يصوغ فلسفة صعبة تتخاصم فيها الاشياء ! انها مخلوقات جميلة لم اكن قد اطلّعت على بعضها، فضلا عن انشطة غرائبية أخرى كان قد كرّسها في اصداره مجلتين جريئتين بباريس قبل قرابة عشرين سنة ! وصف لي اعترافاته: " شئ من حياة مستمرة بشكل آخر ". ووصفني في مكان آخر كوني: " فاتح آفاق الذاكرة العراقية " ولا اعتقد اني كذلك!
لقد شدّتني شجاعة هذا المثقف العراقي الذي عاش بوهيميا في متاهة ثلاث عواصم كبرى في هذه الدنيا: بغداد ولندن وباريس، وخصص من الستين سنة التي يمتلكها ثلثا للعراق وقرابة ثلاث سنوات في لندن وما تبّقى جعله لباريس.. وفي كل واحدة منها، سجّل له تاريخ معّين يعّج بمختلف العجائب والغرائب والبدائل والصور ما بين شقاوة شاب بغدادي ينهل من ثقافة عراقية يجدها اينما يلتفت ولا يعرف الا التمرد على الواقع الكئيب.. وما بين جنونية شاب ماركسي فوضوي مغترب يهوى حياة الهيبيز في اعماق لندن ويقتات على مسروقاته من الكتب، ويبيح لنفسه ان يفعل ما يشاء من اجل لقمة العيش ! وما بين مخلوقات شجاعة لمثقف عربي في باريس يلتزم بما يعتقده هو ولا يلتزم البتة بما يريده الاخرون!
مثقف في زحمة الصراع والتناقضات
ان ما يثير التفكير في هذا الصديق الجنابي ثقافته الادبية وخزينه اللغوي ومهارته في الترجمة منذ صغره وجرأته مقتحما كل الابواب الموصدة ومغامراته من اجل ان يعيش وتورّطه بألعابه وسط هذه الكوميديا الدنيوية المضحكة. وبرغم ذلك، فهو لم يستسلم للسلطة في العراق ابدا. لقد بقي نقّيا يستفز الاخرين الى حد الابكاء، ثم يحيلهم الى طور الاضحاك بتعليقات قلما يجيد صنعها الاخرون، له سخريته من اناس يجدهم لا يستحقون الاهتمام بحكم سخريته من الواقع ومضامينه الموشاة بالدجل والاوحال والازبال هنا وهناك ! لم يكن يطيق سلطة فاشية زرعت نفسها في العراق لمرتين في عامي 1963 و1968، فهو انسان لا يحتمل أبدا الدق في كل اللحظات على مفاخر هذا ومديح ذاك.. وجد انه قد اكتشف الحياة على حقيقتها في اعماق امرأة، وهتك الاستار منذ طفولته اللعينة، فهو لا يقدر ان تحّركه هذي او يستغله ذاك..
لقد وجد نفسه ليس بيدقا كبقية البيادق التافهة التي استخدمتها السلطة الفاشية في كل مكان.. لقد هرب ليس من واقع سياسي حسب، بل من واقع اجتماعي كان سببا في خلق ذلك الواقع السياسي بكل رموزه الكريهة التي تمّثل الجهالة والبلادة والاهتراء والعفونة. انني اعتقد بأن ما أرعبه حقا ان يرى عددا من اليهود العراقيين وقد تدلوا باجسادهم بعد تعليقهم من اعناقهم من قبل البعثيين على المشانق من دون اكياس تغطي وجوههم في ساحة (التحرير) اكبر ساحات بغداد في العام 1968- 1969، لقد اعدموا لمجرد كونهم من اليهود العراقيين.. وكل عراقي اصيل يرى في اقوام العراق القديمة وبضمنهم يهود العراق القدماء مصادر اثنوغرافية لولادة مشروع حضاري متنوع جديد، فكيف بنا ازاء مشروع قهر بعثي شوفيني وفد العراق ليحكمه منذ اربعين سنة بعدما صدّرته الينا مجموعة العفالقة المتوحشة من قلب احدى مقاهي دمشق!؟
انني اعتقد بأن من يمتلك روحا عراقية لم تلوثّها الشوفينية، ولم تغدر بها العصبيات المذهبية والطائفية والدينية، او لم يكوها الاضطهاد الاجتماعي اللئيم، فهي نقّية تلتقي مع كل العراقيين اينما كانوا منتشرين في دياسبورا العالم وشتات الآفاق.. فلا غرابة ان يعقد الجنابي صداقات له مع شعراء وأدباء يهود عراقيين يسكنون في اسرائيل، فتقوم الدنيا ولا تقعد ضدّه من دون ان يستحي العرب من جماعاتهم السياسية ونخبهم المثقفة في الطوق حيث يقيمون علاقاتهم السياسية وروابطهم الثقافية وتجاراتهم ومصالحهم مع دولة اسرائيل.. انه كأي عراقي اصيل يرى في العراقيين كلهم وطنا حقيقيا له، فالعراقيون متنوعون على أشد انواع التنوع، وكل عراقي هو العراق نفسه فلا يمكن لواحد منه او عشيرة او طائفة او ملة او مذهب او اقلية او قومية ان تحتكر المواطنة العراقية لنفسها ابدا، ذلك ان ما يجمع العراقيين هو ترابهم القديم جدا، ومياه الفراتين كشريانين ازليين وروح لا يمتلكها الاخرون الذين لا يعرفون انفسهم الا نوعا واحدا!
ان الجنابي واحد من الذين آمنوا بالماركسية وتعلقوا بها وتنقلوا من التروتسكية الى المجالسية المضادة لكل حزبوية وسبقوا في ذلك غيرهم من الماركسيين العرب، كّون ثقافة عبد القادر قد ارتوت في حضن بيئة غارقة بالادب والشعر، كان يبحث له عما يسّد به رمقه في شوارع رئيسية ومقاه مكتظة بالافندية البغداديين.. انه احد مثقفين خوارج عراقيين يعشقون الفن والشعر والقراءة والانجذاب نحو المقاهي (والبارات)، ويهوون المجون والعربدة والغناء والخمر، أذكر منهم: معروف الرصافي ويونس بحري واحمد الصافي النجفي وذنون ايوب وناظم الغزالي وحسين مردان وعبدالأمير الحصيري ومظفر النواب وجان دمو ومؤيد الراوي وعبدالرحمن طهمازي وغانم الدباغ وسركون بولص وامير الدراجي وعبد المحسن عقراوي وجبر علوان وغيرهم كثير ان من بين هؤلاء وغيرهم: سمات من جنون وفنون وعبقرية شيطانية وبوهيمية طبيعية لعشق ارض عراقية عتيقة، هي: سومرية هي اكدّية هي بابلية هي اشورية هي آرامية هي عربية وكردية.. وهلم جرا.
لقد كان مثقفا يبتهج ببوهيميته العراقية وهو شاب في مقتبل العمر يضمنها تفصيلاته الكثيرة التي ربما يدور أغلبها حول التاريخ الشخصي في حياته ويغترف نماذجها من خصوصياته. كان بطلا يتمتع باستقلالية التفكير عن محيطه المنهك، ويقرأ كتبا متمردة المضمون وذات شحن حداثوية تساهم في شحذ التأمل المطلوب لمعرفة الواقع المعاش ناهيك انه عاصر صعود ثقافة الضد في بيئاتها لندن وباريس وخالط بعض تجمعاتها كالحركة السوريالية وأممية مبدعي الأوضاع التي لعبت دورا هائلا في احداث ايار الطلابية عام 1968.. وهذا لا يتأتى لدى اي مثقف عربي يعيش في بيئة عربية أخرى متنافرة على أشد ما يكون التنافر والتنابز عن العراقيين وبيئتهم. ولن يستطيع أي متحرر عربي أن يمتلك التفاوض مع واقعه وعناصر ذلك الواقع مهما كانت قدرته في المناورة غير العادية ! لقد قال لي أحد اصدقائي وهو مفّكر عربي معروف بنزعته القومية قبل ايام وهو يحادثني هاتفيا: لقد تجاوز عمري السبعين يا سّيار، وقد زرت العراق مرارا واقمت فيه احيانا وقرأت تاريخه كما تعرف وعرفت الكثير عن مجتمعه.. لكنني لم اعرف العراق على حقيقته الا هذه الايام عندما انكشفت عن العراق أغطيته السميكة، وانطلق العراقيون يعّبرون عن حقائقهم التي اخفوها ردحا طويلا من السنين، فسألته: هل صدق كلامي الذي خالفتني به عندما قلت بخصوصية العراق وصعوبة فهم الوان العراقيين قبل سنين؟ قال: صدقت!
من صلب التروتسكية الى جذب الليبرالية
يتمتع الجنابي بشخصية لها جاذبيتها تتقاطع همومها الانسانية ومعاناتها العراقية مع واقع صعب جدا التلاؤم معه، فيفّضل الهروب كبقية أقرانه من المثقفين المتمردين العراقيين سواء كانوا من الليبراليين ام كانوا من الماركسيين.. لم يكن ساذجا في الكشف عن مستوراته التي يحرص عليها الاخرون بكل بلادة.. انه يهرب الى واقع جديد ربما تكون قسوته أرخى عليه لأنه سيتنسم هواء الحرية ويتذوق طعم الانطلاق بتحريض من عشقه لهما. ولكن هل تنتهي معاناته؟ الجواب: لا، لأن المعاناة الجديدة لا تعني شيئا لشعوره بالضياع وهو ما يحملها على العودة دوما الى مكوناته الاولى التي يريد بترها بترا.. انه متمرد وضائع وتحّول من صعلكة بغدادية شقّية ليجد نفسه في آن بوهيميا وتروتسكيا في شوارع لندن يلاحقه طيف نادجا (بطلة أندريه برتون).. انه متشرد في مجتمع غريب حيث لا يعرفه أحد في لندن التي لم يكتف بشوارعها الخلفية التي تنطلق حياتها في الليل من علب الليل، وانما لا يجد فيها صمتا يقطعه بكاء او عويل او صوت سكير في بغداد وازقتها المظلمة العتيقة!
المتمرد.. المتشظي والمتحّور
كان الجنابي نموذجا حقيقيا للمثقف العراقي المتمرد والثوري على كل مكوناته الاولى التي اعتبرها غثّة وبليدة، لكنه يحتفظ في اعماقه بذكرى عائلته.. بذكرى أمه وابيه واخيه.. ولعل الجنابي كان ابرز مثقف عراقي يفصح باعترافات مكشوفة عن خصوصياته وعلاقاته الجنسية التي يعتبرها: مضامين اخلاقية لانسان عراقي متحضر يعيش ويفّكر كما هو حال المثقفين التقدميين في العالم بعيدا عن الزخرفة والبهرجة والطلاءات التي تخفي تحتها مناظر بشعة.. انه لا يريد ان يتوقف عند زمن معين، بل يمتد نحو أعماق الازمنة العراقية الاولى، وكأنه وصل الى حافات التاريخ الاولى عندما خلق الانسان اول تكوين حضاري له عند شواطىء ميزوبوتيميا الجميلة، اي: ضفاف وادي الرافدين المكسو باخضرار الطبيعة، وجماليات الليل والنهار.
انه يصطحب معه عاطفة قوية لا ينطفئ أوارها، فالعراقيون اينما ذهبوا وحيثما حّلوا يصطدمون بجفاف عاطفي شنيع - كما يصفونه - لدى الاخرين ! جفاف لم يعرفونه هم قط، لأنهم الشعب الوحيد في هذا الكون وهو يمتلك من العاطفة بحورا.. يغني فيبكي، يعشق فيبكي، يثور فيبكي، يقرأ القرآن فيبكي.. يجتمع في الشوارع ليبكي بكاء الصعب.. انه يغسل بدموعه كل ما يعلق بأعماقه من أدران.. انه يدّق على رأسه بحركاته او يثور مجنونا ولكنه سرعان ما يبرد ويندم على ما فعله.. وكلها تأتي عفوية في غالب الاحيان.. ويحدّد من خلال عواطفه الثائرة كل مظاهر الحياة المختلفة في مكان مركزي يقع في قلب هذا العالم.. انه بقدر ما يفخر كونه ينتمي اليه، فهو يهرب منه لأنه مكان ابتلي بالشقاء والاكدار منذ عصور ودهور!
هذا المثقف المتمرد لا يريد أن يسدل الستار على حياة مليئة بالوحشة والالم.. انه مقتنع تمام القناعة بأن كلماته تموت وتفنى عندما يجعلها تحيا جافة من أجل لا شئ في هذا الوجود. انه نموذج لعراقي حقيقي مقتنع حتى الثمالة بأن الالتزام بهذا الواقع وتحديثه أجدى نفعا من اي التزام لاصلاحه او ترقيعه.. انه لا يعترف بأن المفاخرة بالشرف الرفيع مثلا لا تمر الا من خلال الاعضاء الجنسية التناسلية، فهذه مجرد آليات جميلة لاستمرار الحياة بكل ما فيها من مباهج ترضي العواطف والشهوات، لا ان يجعلها الانسان محور شرفه وما يتفجر عنها من موبقات ولعنات تلحق بها المصائب والثارات وتجري من خلالها الدماء!
انه يرى بأن التزامه عراقيا وبكل ما ورثه على ارضه أجدى نفعا له ولأمثاله من مجرد أداء طقوس ليس لها اية معاني. انه يرى الخطيئة في ان يترك هذا الشعب الذي يقطن وادي الرافدين كل أرثه وملاحمه واساطيره وقوانينه واشعاره ومخلوقاته الرائعة التي امتدت عنها كل الاديان والفلسفات والادبيات والافكار والمشروعات في العالم شرقا وغربا.. ليردد بضعة نصوص لا يفقه معانيها ولا علاقة لها بأي واقع.. انه يسلّط الضوء بابداعه وكلماته واشعاره على وطنه الذبيح وكأنه يرى فيه أمرأة تتمتع بقوى خارقة تعينها على قراءة المستقبل، ولكنها أمرأة مقّيدة من مئات السنين بقيود ثقيلة من حديد تشقى بها ! انه يرى ان من الاهمية بمكان كشف ملابسات وقائع واحداث مهمة تورط فيها العراقيون منذ القدم، وما زالوا يتعّلقون بأهدابها، فتضيع عليهم فرص الحياة والجمال.
كلمة في شعره
ونتساءل: هل ثمة متغيرات في ذهنية مثل هذا المثقف الجرئ المبدع ابان صعلكته او عند استقراره؟ وقبل أن أجده وقد هجع قليلا عما كان يفعله كما يخبرنا هو نفسه باعترافاته عن تاريخه المتقّلب وخصوصا في (تربيته) التي ضمنها كتابه المثير وهو اشبه باعترافات مكشوفة عن ادق الخصوصيات.. انني اراه مجتهدا وبالغ الحس في كل قصيدة من قصائده التي يوهم الاخرين بما فيها.. وسواء كتب الجنابي قصائده ام ترجمها، فانه يرسم اجزاء من صورة غير متكاملة وعن واقع ملئ بالتناقضات المريبة، وهو من ادق الناس باستخدام اللغة لغته مرهفة كأنها مجرد ومضات سريعة في ليل بهيم، وقلما نجد من يمهر في ذلك عربيا. انه شاعر فنان ويحس بالاشياء ووقع الاصوات والاجراس ونداءات الطبيعة الخفية. انه يعقد مع الطبيعة اكثر من صفقة ليرتوي منها طويلا.
انه ليس كالآخرين، لأنه لا يعرف الزيف أبدا.. ما يؤمن به يصّرح عنه، وما يكمن في قلبه يطلقه بقوة على لسانه ويعرضه مكشوفا على الناس بلا رتوش ابدا، وكأنني امام تشيكوف في صراحته وجان جينييه في مكاشفاته.. لذا، فانني لا أفكر في لغته ولا في خداع كلماته كالذي افعله وأنا اقرأ الاخرين.. انه ليس مثل صاحبنا نزار قباني يصّور للاخرين نفسه بلغة خادعة كلها مفاتن نفسه التي يجعل منها ينبوعا للاخرين وشجرة كروم تتلبس بالعناقيد.. والحقيقة غير ذلك، فقد كان نزار بخيلا جدا ولا يمكن تخّيل بخله ! ان الجنابي لا يعرف المراوغة ولا دواعي الكذب. وعلى الرغم من قلّة النقاد الذين تعمّقوا في مكنون بحره، الا انهم لم يكتشفوا من يكون!
خصوماته ومشكلاته
ان خصوماته مع بعض الشعراء العرب تقع في هذا الباب، اذ ليس بمقدورهم تحمّل طروحاته القوية، وهو يكشف عن خفايا تزويراتهم وخداعهم ليس الاخرين، بل خداع حتى انفسهم. وفي هذا الصدد، يبدو الاكثر اثارة الى حد الان ضد كل من ادونيس ومحمود درويش وغيرهما. وليس غريبا أن ينشر الجنابي في العدد الثاني من "الرغبة الإباحية" (1974) ترجمة لمقالة الشاعر السوريالي بنجاما بيريه "مثلبة الشعراء" التي جاء فيها: "الشعر، بالنسبة إليهم، لا يعدو أن يكون ترف الغني ارستقراطيا أو صيرفيا، وإذا أراد أن يكون (مفيدا) للجماهير، عليه أن يخضع إلى قدر الفنون (المطبقة) فنون (الزخرفة) الفنون (المنزلية)..إلخ. بيد أنهم يشعرون بالغريزة، إن الشعر هو نقطة ارتكاز التي كان ينشدها أرخميدس، ويخشون أن العالم إذا رفع سوف يسقط على رؤوسهم. وهذا يفسر طموحهم إلى تحقيره، إلى تجريده من كل فاعلية، من كل قيمة عظيمة، لإعطائه دورا مؤاسيا، نفاقا هو دور الراهبة. على أنه لاينبغي للشاعر أن يغذي عند الآخرين رجاء وهميا؛ إنسانيا كان أو سماويا، ولا أن يعجز الأذهان بحقنها بثقة غير محدودة في أب أو قائد يصبح كلُ نقد يوجه إليه تدنيسا، بل بالعكس، عليه أن يتكلم الكلام المدنّس دوما والسباب المستمر".
كما ان الجنابي يكره الشعراء الدجالين والمشعوذين والمطبلين والمزمرين الذين يقتاتون على المكرمات.. اذ انه آخر من يتاجر بكلماته ومواقفه. قال لي يوما: ان ناشري كتبه ودواوينه يأكلونه اكلا ! قد يفرض بفرض المنطق، ولكنه لا يقتنع بزيف المواقف.. وهذا ما اسماه بخطاب الغياب عن الواقع في معرض انتقاده الشرس تلك العلاقة المتوترة بين شعراء العربية بتصويرهم الواقع تصويرا مزيفا وبليدا يضحكون فيه على الناس. انه يبدو من مظهرهم الخارجي وافتتانهم بالحد الادنى من الشهرة والمواصفات العقيمة.. وبخاصة في استخدامهم اللغة استخداما غير طبيعي، اذ يبحثون على الاشكال الجميلة فيها من دون ان ينتجوا معنى له روعته ! وتراهم جميعا وقلوبهم شتى، فهذا يكّرس طائفته من وراء ستار، وذاك يكّرس قضيته ولا يضيره ان احترق العالم، والاخرون يكرسون شوفينية قذرة من وراء حجب، وبعضهم ينحرون العالم من اجل " نص " لا يفكرون فيه، وبعضهم تجده يتعبد في جحور قبيلته بما فيها من رؤوس وبطون وافخاذ واطراف.. الخ من نماذج تحركها الامراض وبقايا التاريخ وترسباته الماضوية العتيقة!
واخيرا: نماذج من شعره وتفكيره !
انني ارى الجنابي شاعرا وناقدا على حد سواء.. لما ابداه من كبر اهتمام بالمنطلقات الفكرية لمن يكتب قبل ان يحّضر كالاخرين ادواته ومحابره وفرشاته واقلامه.. ويستحضر عاطفة مستعارة ولغة شكلية تثير الشهوة وخيالا مريضا يزدحم بالطوباويات والاطنابات المميتة. انه سريع البديهة. ربما لا يتدفق بعطائه كثيرا، فهو ينحت كلامه نحتا ولا يطلقه على عنانه ليكون اسهابا واطنابا عاديا كما عودّنا غيره من الشعراء والنقاد العرب. انه مثقف تجاوز العربية وعبر منذ زمن بعيد الى ضفاف ثقافات اخرى، وبدأ يمضي في اعماقها. اتمنى عليه في المستقبل ان يتبنى مشروعا نقديا او ابداعيا كي يتدارس فيه الشعر العربي ابان القرن العشرين ليتشكّل موقفه عن كل مجايليه العرب ويقدمه باكثر من لغة عالمية.. وأحب أن أختم كلمتي هذه ببعض المقتطفات من كراريسه وكتبه:
***
لأن الشاعر العربي أسير تعثرات تاريخ العرب، فإنه بقي "عقلنة" هامشية في حال نشوب أزمة المجتمع. ففيما يتعلق بالثورة الاجتماعية، كان المجتمع يلجأ إلى الأسطورة عندما تشتد حدّة التناقضات الطبقية، في حين أن الشاعر العربي يلجأ إلى الرمز لاعبا دور عدو الجدل.
الشاعر العربي حالة استمنائية. إنه جندي الرضوخ والتواطؤ. الوهم هو واقعه الوحيد والواقع الحقيقي هو ليس سوى حافز للاستمناء. وكما أنه شاعر هجري؛ ارتداد إلى الخلف، فإنه إدانةٌ لمكانته كشاعر ذي دور في التاريخ. الشاعر العربي يتهاون بالتاريخ بقدر ما التاريخ يهينه ويلفظه. (1975)
***
الثورة آلة قديمة نزيّت دواليبها المسننة، كل مساء، قبل أن ننام
لنستبدل الثورة، هذا المهدي المنتظر، بما تتغذى به حركة التاريخ، أصلا: التمرد. وها إننا نتخلص، بقدر الامكان، من المكبوت ومن عودته التي نضيق بها ذرعا. لقد قالها الجاحظ، عن حق، أن "بتغيّر الزمان يتغيّر الفرض وتتبدل الشريعة"! (1979)
***
اللغة العربية أرض معبدة بروح التجديد بقدر ما هي مغطاة بأعقاب الماضي. ويقينا أن لغة كهذه لابد وأن تشعر في خلاياها بقشعريرة الخوف من الانتفاض؛ من نقد تاريخ استخدامها برمته. ففي كل مرجل من مراجل مكوناتها التعبيرية والنحوية يوجد صمام أمان يمنعها من الانفجار.
الكتابة المحرِّرة والمحرَرة من ثنائية صراعية، تجعل من التمرد الذاتي، في ظروف موت الثورة، لعبا حقيقيا غايته اللاغاية أي الانتعاش بموت الأشياءن الرموز؛ وكل غد يعمل على تنميط الحقيقة. الكتابة ليست إعلانا عن افكار بل هي بيان شعري يمرئ موت هذه الأفكار. (1979)
ما أسوأك أيها العيش! ها أنك تتركنا نتسقّط الحياة، ونحن قابعون في ركن خوفنا منها. (1983)
***
الشعراء الحقيقيون هائمون في خرائب مخطوطاتهم، يشمّرون في غرفة مبهمة، عن ساعد التأمل، فيترملون بغبار البعيد. بهيمتهم لها غطيط يجرس في وضح الكتابة، كأنه خلخال حقيقة. أسفل السلم، هراوات التعتيم تنتظرهم بالمرصاد! (1981)
****
في ذكرى ليو شتراوس: مجتمع سياسته الاضطهاد يفسح، بالضرورة، المجال لظهور تقنية كتابية جديدة تعرف بالـ"كتابة ما بين السطور". أي أن الكاتب الذي يريد إيصال أفكاره المشككة بأفكار السلطة الحاكمة اضطهادا، دون أن يجازف برقبته، عليه أن يقون أن عمرو هو زيد. على أنه، ما بين السطور، يذكّر وعلى نحو دائم، الذين يوجه رسالته إليهم بأن عمرو ليس بزيد. وهكذا يسلل الفكرة المقصودة إلى الداخل. وهو يدرك تمام الادراك أن هناك قراء أذكياء يعرفون كيف يتم لهم اغتصاب هذه المتسللة؛ العارية من كل تواطؤ، ليستولدوها معنى مرادا. عندها ينفتح أفق جديد في مخيلتهم المستعدة لكل طارئ رقابوي يتهدد حياتهم، دون أية وشاية بالكاتب. وها أن ما رمى إليه الكاتب قد أنجز بلا ضجيج إعلامي او مواجهة قد تكون وخيمة العواقب وهذا لايعني ثمة تفضيل كتابة مغلقة على مواجهة مفتوحة. وعندها يبرر سكوت معظم الكتاب على ما يجري وما سيجري في واقع الحياة اليومية، بحجة أنهم كتّاب "ما بين السطور". كلا فالكتابة مواجهة مفتوحة مع الواقع في لحظة تخليها عن ادعائها رصد الواقع. إذ ما يخيف السلطة هو الانفلات وما لا يدخل ضمن تسمية. كما ان الكتابة تذكير بالتمرد في لحظة ممارسة الرقابة عليها، مثلما "الفضيحة تبدأ حين تأتي الشرطة لايقافها" كما يقول كارل كراوس. (1979)
***
حتى لا تموت أميا، اعلمْ:
أن "الملحد أقرب الناس إلى الله" (أدورنو)
أن "القصيدة تبقى جيدة حتى نعرف من كتبها" (كارل كراوس)
أن "المتمرد ليس في حاجة إلى أسلاف" (أندريه بروتون) (1981)
***
كل لغة في هذا العالم لها شعراء – مفاتيح تاريخها الذين خرجوا من محليتها مرتقين ذرى الكونية الحقة فصاروا قوتا شعريا للغات الأخرى. اللغة العربية؟ كان لها في قديم الزمان شعراء – مفاتيح صاروا بفضل الأعاريب اليوم أقفالا تبحث عن مفتاح – قارئ واحد يفكّها من صدأ القرون فيطلقها في هواء المعنى الطلق. كم من معري، من باطن دغلها، يصيح: (افتح يا سمسم أريد أن أخرج!)" (198
***
ذات ظهيرة، تضورت جوعا في جادات باريس الرحبة. لم يكن لدي ولا فرنك واحد. لمحت شاعرا فركضت إليه وسألته إن كان في مقدوره اعارتي بضع فرنكات أشتري بها سندويتشة.. ناوشني نسخة من ديوانه الأول وقال: كل. فأكلت! (1982)
***
أنا حلمي!
تركت العربيةُ، مئبر التاريخ، أثرا لا يمحى في ذهن العرب. لقد غلطت كإنسان.
أنى أذهب، أحمل قلما بيدي، فلا تهاجمني الأفكار.
ليس من مجال للإدانة في مجتمع كل أعضائه مدانون!
الخطأ النحوي غالبا ما يكون زفيرا ترتاح له اللغة!
على الشاعر أن يحترق حتى الفجر. كيف لمهمة بسيطة كهذه أن تثبت وجودها!
الشعر صراط غير مستقيم.
الفكرة طمث الدماغ!
الملحدون، في مجهول الشقاء، تتلاعب بهم رياح الإيمان!
القصيدة، بعد سنوات، بعدة دقائق!
مقدار تفاهة الشعراء العرب يكون على مقدار ما في القارئ الذي يتغنون به من اطلاعات تافهة!
الأوضاع العربية الحقيرة هذه، لو أصابتها ذرة تغيير لوقعت أكبر أزمة بطالة في التاريخ! (1979-1989)
***
مرحبا بك أيها العجز المنتشر على صفحة أعماقنا
حاصرا كل الأسئلة في حدقة شاردة الذهن
هكذا كان
وهكذا سيكون
للصحراء أبوابها الموصدة! (1983)
نقلا عن "إيلاف" الالكترونية - د. سيّار الجميل
للتبليغ عن أي رابط غير فعال, الرجاء إرسال رسالة إلى:
abuabdo101@gmail.com