يؤرخ هشام جعيط في هذا الكتاب لمدينة الكوفة، فيتحدث عن نشأتها العربية الإسلامية، وذلك في سبعة أبواب، تحدث في أولها عن الفتح العربي للعراق وتأسيس الكوفة، وتناول في الثاني المخطط المدني الأول لهذه المدينة، ورد على سؤال هل كانت الكوفة مجرد معسكر أم مدينة حقيقية؟
يطمح هذا الكتاب إلى أن يكون إحياء أو قل ترميماً للكوفة، أولى الحواضر العربية الكبرى، زمنياً، خارج الجزيرة العربية، التي ولدت مع الفتح، وكانت أحد المراكز الحاسة في الإمبراطورية، وزالت اليوم من الوجود. فالكوفة المتخفية في رمالها، تبدو أكثر تخفياً في ثنايا أقدم النصوص التاريخية، وتنهض لنواظرنا مجلببةً بكل هيئاتها وأجهزتها الكثيفة والكثيرة في آن. فقد خالجتها رعشات الحياة النابضة، بقوة، وهي تتكون بين النهر والصحراء، مشرفةً على سهول بلاد الرافدين، موجّهة قدرتها الحربية إلى العالم الإيراني بأسره. والمؤلف يقوم بعمل تنقيبي حقيقي عن آثار المدينة مستنفضاً إياها من غبار النصوص، بجامعها وبلاطها وخططها، الشوارع التي تقطعها، وبمدافنها وساحاتها، جسورها الحارة، الأماكن الرفيعة للاهتياج التاريخي في الإسلام المبكر.
تمثل الكوفة بامتياز تاريخ الحضارة الإسلامية في أقدم تعابيرها وأهمها، التي يحكي عنها الكثير، ويعرف عنها القليل من حيث حياتها النابضة التي تتراءى، في آخر المطاف، مثيرة للخيال اليوم، إن المؤلف يقيم حواراً حقيقياً بين هذه الحضارة وتلك التي تقدمتها، كالحضارات البابلية، والفارسية، والهلنستية والرومانية، فليحظ التواصلات، لكنه يظل متيقظاً لرصد الإسهام العربي الصرف. فهو يتخطى الكوفة، ليقوم باستجواب البصرة، واسط، وبغداد، ويكب على التقاط حركة نشوء المدينة الإسلامية ذاتها بوجه عام.
هذا الكتاب تأمل حقيقي في لحظات من تاريخ حضارات المشرق، وهو بذلك، تأمل في تكون الحضارة الإسلامية. ويبقى هذا العمل العلمي الدقيق بحثاً مونوغرافياً، دراسة فاردة دقيقة ومتبحرة، وضعت بأسلوب سهل ممتنع، بسيط ومدهش معاً.
or
No comments:
Post a Comment