الدكتور خالد زيادة مفكر وباحث تاريخي مبدع, بعثته لبنان ليكون سفيرا لها في القاهرة, كما كانت دول أمريكا اللاتينية ترسل كبار أدبائها سفراء في باريس ليدخلوا المشهد الأوروبي من بابه الذهبي ويظفروا بجوائز نوبل.
ومع أن القاهرة ليس عندها أوسمة كبري تمنحها فمازال بوسعها أن تشرف من يلتمسون الدفء في حضنها الحضاري بشهادة مواطنة إبداعية, مهما اغبرت اجوائها قليلا بزوابع الخماسين الديموقراطية وتوهم بعض الناس استقالتها من هذا الدور الريادي للنهضة العربية وأطلق بعض من أبنائها ذقونهم وألسنتهم بحرب الأدب والفن والثقافة الطليعية عن جهل وسوء تقدير. وقد تراوح إنتاج الدكتور خالد زيادة بين الدراسات الحضارية المعمقة من جانب والمغامرات السردية المطولة من جانب آخر, وحكاية فيصل تجربة مثيرة في التمثيل الجمالي لتاريخ العروبة القريب في مطلع القرن العشرين, وكيف انبثق حلمها من رحم الخلاص من تركة الرجل العثماني المريض وبطش القوي الاستعمارية المتربصة وكيف دانت في بدايتها للوصاية الانجليزية فتمخضت عن ولادة الكيان الصهيوني إلي جوار بعض الملكيات المتواطئة في سوريا والعراق وشرق الأردن قبل أن تأتي الموجة الناصرية لتنتزع قمر العروبة من مدار الاستعمار وتضعه في الفلك الطبيعي الذي مازال يبحث عن مساره العملي حتي اليوم.
ولأن الكاتب يؤثر صيغة الراوي المتكلم, وهذا أمر عسير في الروايات التاريخية- فإنه يجعل فيصل يتحدث عن نفسه علي غير المعهود مازجا بين التاريخ وتخييل الذات وعلم النفس والتوثيق في سبيكة أدبية متقنة تحاول النفاذ إلي جوهر المشاعر ومعني الاحداث, يحكي فيصل لنفسه مبررا كتابته: أردت حيث عزمت علي تسجيل هذه الأوراق منذ خروجي من دمشق أن أكتشف نفسي, أنا الذي لا اعرف نفسي إلا في نظرات الاخرين وآرائهم, يقولون إنني كريم حتي الجنون, وبسيط مثل بدوي في الصحراء, يقولون إنني داهية صموت, واذا بدأت بالكلام لا أتوقف, يقولون إنني صبور وحكيم وضعيف متردد, وأنني ملهم وأملك سحرا أمارسه علي الناس فأخضعهم لإرادتي. لا أعرف أنني أقدر أن أكون هؤلاء جميعا. لم أكن أفكر بالكرم حين أنفق المال. ولا بالصبر حتي تجبرين الوقائع علي الانتظار وكظم يأسي... أما حين يدعي إلي التنصيب ملكا علي العراق برعاية الانجليز فإنه لا يجد غضاضة في ذلك مستغلا تنافسهم مع الفرنسيين الذين قهروه وأحبطوا مشروعه الأول ويكتب عن نفسه قائلا: لا اعرف رواية علي بطلها أن ينشيء من العدم مملكتين, لقد ظننت أنني بلغت نهايتي يوم ودعت ملكي وتشردت في القطارات, ليست سوي أقدار, لقد صرت رمز العروبة التي اقترنت باسمي. لم تكن العروبة سوي فكرة فصنعت منها جيشا وثورة ومملكة, كونتها علي شاكلتي فحملت خصالي وصارت تشبهني في هياجي وصمتي وترددي.
ما ينقص من أدبية الرواية التاريخية عموما هو قصور مدي الخيال المبدع فيها كلما لامست الواقع ففقدت توهجها مهما حاولت بث الحياة فيه.وقد ألجم خالد زيادة خياله حتي لا يشتط فيحرمه من لذة التوثيق المولع به مع أنه كان يتفلت أحيانا ليبتكر صورا محتملة تعطي قصته مذاقا فنيا شهيا, مثلما يحكي عند خروجه من العاصمة بسيارته في طريقه إلي بلدة الكوة واعتراض خيال يرفع بندقيته في وجهه ليسلبه قبل أن يبادر حارسه فيقفز عليه بسرعة السهم ليحميه من هذا المعتدي, فيتساءل الملك في نفسه: مالذي ستفعله صحف العالم وتخبره ؟ ماذا سيقول والدي واخوتي حين يصلهم الخبر, فكرت بسخرية أن قضائي في هذه الارض الققاحلة علي يد بدوي قاطع للطريق لن يكون سوي قدر أعمي أصاب ملكا تائها في مملكته وعندما يلج في خواطره تتراءي له صور طريفة, فهو يعتبر ثورة الشريف حسين ووالده مجرد حدث منزلي عائلي لم يعرف بأمرها سوي أبنائه وعدد من أولاد عمومته كان الإعلان عن الثورة عبارة عن طلقة بندقية أطلقها والدي من شرفة داره في مكة فكانت بمثابة الاشارة التي سمعها رجاله المتجمعون تحت شرفته فانطلقوا للاستيلاء علي المواقع التركية والأتراك علي الطلقات بالقنابل التي أصاب بعضها حجرته قبل أن يستسلم حاميهم في مكة.. لم تخف قنابل الأتراك الشريف حسين فقد كانت شجاعته هي فضيلته الكبري, ولا أدري إذا كان عناده يعادل شجاعته, لكن الفضائل مهما كانت نبيلة لم تكن كافية للفوز في الحرب. هذه الملاحظات السياسية الثاقبة ذات الطبيعة الفلسفية والاخلاقية هي التي تعطي للرواية وزنا يتجاوز التاريخ ليتساءل عن مغزاه وحكمته التي يمكن استخلاصها من أحداثه.
لكن علي كثرة المشاهد المثيرة للتأمل واللحظات الفارقة المدهشة سنجد أكبر مظهر لإيثار المؤلف الدبلوماسي كظم خياله الذي يتمثل في خلو الرواية تقربيا من العطر الأنثوي, فقد جعل حياة الملك المطارد خالية من هذا الحضور, فليس في قصره ولا حاشيته ولا في صحبته أية امرأة مهما كان دورها, ومع أن ذلك قد يكون مبررا في بلاط مؤقت في مطلع القرن الماضي في الشام فإنه يصيب الرواية بالجفاف والكدر ويحرمها من أهم ملمح إنساني لحياة البشر, فيما عدا هذه السطور التي انتقيتها من الرواية المطولة لأبرهن علي إمكانية أن يخترق الخيال سقف التاريخ المدون لا نجد في الرواية ما يبث فيها عبق الحياة ونكهة اغراءاتها ويزيد من أدبيتها وإنسانيتها وهي مشبعة بدخان التاريخ, فالفن لابد أن يقيم جدليته علي قوانين الوجود, وإن كان كاتبنا قد آثر أن يستخلص من التاريخ حكمته وهو ينطق فيصل بهذه الكلمات لعلني محكوم بأن أنقل شعبي من زمن إلي آخر, زمن تصنعه العقائد والأفكار والمصالح, لاحساب فيه لكلمات الشرف والشجاعة والحب.
صلاح فضل - الأهرام
ومع أن القاهرة ليس عندها أوسمة كبري تمنحها فمازال بوسعها أن تشرف من يلتمسون الدفء في حضنها الحضاري بشهادة مواطنة إبداعية, مهما اغبرت اجوائها قليلا بزوابع الخماسين الديموقراطية وتوهم بعض الناس استقالتها من هذا الدور الريادي للنهضة العربية وأطلق بعض من أبنائها ذقونهم وألسنتهم بحرب الأدب والفن والثقافة الطليعية عن جهل وسوء تقدير. وقد تراوح إنتاج الدكتور خالد زيادة بين الدراسات الحضارية المعمقة من جانب والمغامرات السردية المطولة من جانب آخر, وحكاية فيصل تجربة مثيرة في التمثيل الجمالي لتاريخ العروبة القريب في مطلع القرن العشرين, وكيف انبثق حلمها من رحم الخلاص من تركة الرجل العثماني المريض وبطش القوي الاستعمارية المتربصة وكيف دانت في بدايتها للوصاية الانجليزية فتمخضت عن ولادة الكيان الصهيوني إلي جوار بعض الملكيات المتواطئة في سوريا والعراق وشرق الأردن قبل أن تأتي الموجة الناصرية لتنتزع قمر العروبة من مدار الاستعمار وتضعه في الفلك الطبيعي الذي مازال يبحث عن مساره العملي حتي اليوم.
ولأن الكاتب يؤثر صيغة الراوي المتكلم, وهذا أمر عسير في الروايات التاريخية- فإنه يجعل فيصل يتحدث عن نفسه علي غير المعهود مازجا بين التاريخ وتخييل الذات وعلم النفس والتوثيق في سبيكة أدبية متقنة تحاول النفاذ إلي جوهر المشاعر ومعني الاحداث, يحكي فيصل لنفسه مبررا كتابته: أردت حيث عزمت علي تسجيل هذه الأوراق منذ خروجي من دمشق أن أكتشف نفسي, أنا الذي لا اعرف نفسي إلا في نظرات الاخرين وآرائهم, يقولون إنني كريم حتي الجنون, وبسيط مثل بدوي في الصحراء, يقولون إنني داهية صموت, واذا بدأت بالكلام لا أتوقف, يقولون إنني صبور وحكيم وضعيف متردد, وأنني ملهم وأملك سحرا أمارسه علي الناس فأخضعهم لإرادتي. لا أعرف أنني أقدر أن أكون هؤلاء جميعا. لم أكن أفكر بالكرم حين أنفق المال. ولا بالصبر حتي تجبرين الوقائع علي الانتظار وكظم يأسي... أما حين يدعي إلي التنصيب ملكا علي العراق برعاية الانجليز فإنه لا يجد غضاضة في ذلك مستغلا تنافسهم مع الفرنسيين الذين قهروه وأحبطوا مشروعه الأول ويكتب عن نفسه قائلا: لا اعرف رواية علي بطلها أن ينشيء من العدم مملكتين, لقد ظننت أنني بلغت نهايتي يوم ودعت ملكي وتشردت في القطارات, ليست سوي أقدار, لقد صرت رمز العروبة التي اقترنت باسمي. لم تكن العروبة سوي فكرة فصنعت منها جيشا وثورة ومملكة, كونتها علي شاكلتي فحملت خصالي وصارت تشبهني في هياجي وصمتي وترددي.
ما ينقص من أدبية الرواية التاريخية عموما هو قصور مدي الخيال المبدع فيها كلما لامست الواقع ففقدت توهجها مهما حاولت بث الحياة فيه.وقد ألجم خالد زيادة خياله حتي لا يشتط فيحرمه من لذة التوثيق المولع به مع أنه كان يتفلت أحيانا ليبتكر صورا محتملة تعطي قصته مذاقا فنيا شهيا, مثلما يحكي عند خروجه من العاصمة بسيارته في طريقه إلي بلدة الكوة واعتراض خيال يرفع بندقيته في وجهه ليسلبه قبل أن يبادر حارسه فيقفز عليه بسرعة السهم ليحميه من هذا المعتدي, فيتساءل الملك في نفسه: مالذي ستفعله صحف العالم وتخبره ؟ ماذا سيقول والدي واخوتي حين يصلهم الخبر, فكرت بسخرية أن قضائي في هذه الارض الققاحلة علي يد بدوي قاطع للطريق لن يكون سوي قدر أعمي أصاب ملكا تائها في مملكته وعندما يلج في خواطره تتراءي له صور طريفة, فهو يعتبر ثورة الشريف حسين ووالده مجرد حدث منزلي عائلي لم يعرف بأمرها سوي أبنائه وعدد من أولاد عمومته كان الإعلان عن الثورة عبارة عن طلقة بندقية أطلقها والدي من شرفة داره في مكة فكانت بمثابة الاشارة التي سمعها رجاله المتجمعون تحت شرفته فانطلقوا للاستيلاء علي المواقع التركية والأتراك علي الطلقات بالقنابل التي أصاب بعضها حجرته قبل أن يستسلم حاميهم في مكة.. لم تخف قنابل الأتراك الشريف حسين فقد كانت شجاعته هي فضيلته الكبري, ولا أدري إذا كان عناده يعادل شجاعته, لكن الفضائل مهما كانت نبيلة لم تكن كافية للفوز في الحرب. هذه الملاحظات السياسية الثاقبة ذات الطبيعة الفلسفية والاخلاقية هي التي تعطي للرواية وزنا يتجاوز التاريخ ليتساءل عن مغزاه وحكمته التي يمكن استخلاصها من أحداثه.
لكن علي كثرة المشاهد المثيرة للتأمل واللحظات الفارقة المدهشة سنجد أكبر مظهر لإيثار المؤلف الدبلوماسي كظم خياله الذي يتمثل في خلو الرواية تقربيا من العطر الأنثوي, فقد جعل حياة الملك المطارد خالية من هذا الحضور, فليس في قصره ولا حاشيته ولا في صحبته أية امرأة مهما كان دورها, ومع أن ذلك قد يكون مبررا في بلاط مؤقت في مطلع القرن الماضي في الشام فإنه يصيب الرواية بالجفاف والكدر ويحرمها من أهم ملمح إنساني لحياة البشر, فيما عدا هذه السطور التي انتقيتها من الرواية المطولة لأبرهن علي إمكانية أن يخترق الخيال سقف التاريخ المدون لا نجد في الرواية ما يبث فيها عبق الحياة ونكهة اغراءاتها ويزيد من أدبيتها وإنسانيتها وهي مشبعة بدخان التاريخ, فالفن لابد أن يقيم جدليته علي قوانين الوجود, وإن كان كاتبنا قد آثر أن يستخلص من التاريخ حكمته وهو ينطق فيصل بهذه الكلمات لعلني محكوم بأن أنقل شعبي من زمن إلي آخر, زمن تصنعه العقائد والأفكار والمصالح, لاحساب فيه لكلمات الشرف والشجاعة والحب.
صلاح فضل - الأهرام
إذا أردت مشاركة هذا الكتاب فشكرا لك, ولكن رجاء لاتزيل علامتنا المميزة
مع الشكر مقدما
No comments:
Post a Comment