يظل الشعر يترك بصماته الواضحة والجلية على النثر الذي يجري على أسلات أقلام الشعراء، فهؤلاء الذين يتحدثون شعراً، ويكتبون شعراً، ويفيضون شعراً ويحفظون، لا يستطيعون نزع جلودهم أو معاطفهم وهم يكتبون نثراً، فحسب الشيخ جعفر صاحب كتاب (كران البور) بغداد/1993 الشعري الفخم والمجاميع الشعرية الرصينة (نخلة الله) دار الآداب - بيروت 1969 و(الطائر الخشبي) بغداد/1972 و (زيارة السيدة السومرية) بغداد 1974، و (عبر الحائط في المرآة) بغداد 1977 و(اعمدة سمرقند) دار الآداب بيروت/ 1989 وغيرها من الاشعار المترجمة وخاصة لأنا أخماتوفا، والذي أستمتعنا بكتاباته الشعرية والنثرية، الذي كان ينشرها في مجلة (عمان) الأنيقة الرصينة التي تصدر عن أمانة عمان الكبرى العاصمة الأردنية، ما غادر الشعر وموسيقاه ولغته العالية الرشيقة وهو يقدم للقراء هذا البوح السيري الشعري الباذح والجميل، من خلال كتابه (رماد الدرويش) الذي يسرد من خلاله، حسب الشيخ جعفر صوراً ضاجة بالنشوة واللذائذ والمتعة، أيام ذهب للدراسة في موسكو، بداية سنوات الستين من القرن العشرين، أيام الشباب الضاج بالرغبات والمكتنز بالشهوات، وهو ينتقل من مجتمع منغلق محافظ في العراق، الى مجتمع يكاد يكون منفلتاً في أرتشاف لذائذ الحياة، المقبول منها وغير المقبول، معرجاً على ذكر أسماء بعض زملائه في معهد غوركي بموسكو، ذاكراً الأسم الأول مثل جيلي، وأراه الشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن، أو غازي، وماهو الا الروائي والقاص العراقي المبدع الراحل غازي العبادي،فضلاً على شقيقه الدكتور صاحب جعفر أبو جناح، أو ماهود، وأظنه الفنان المبدع الدكتور ماهود أحمد. أو محمد، الذي هو كما أخمن محمد صالح العولقي، الذي أصبح وزيراً لخارجية اليمن الدمقراطية الشعبية، وقد سقطت به الطائرة يوم الثلاثاء الاول من مايس/ 1973 وثلاثة وعشرين من الدبلوماسيين اليمنيين، الذين كانوا سيحضرون مؤتمراً لسفراء اليمن في الخارج، فوق حضرموت، وكان من ضمنهم سفير اليمن في بغداد. وكذلك غائب الذي هو من دون شك الروائي العراقي المغترب والمتوفى في موسكو والمدفون في أحدى مقابرها: غائب طعمة فرمان.
لقد تأخر الشاعر حسب الشيخ جعفر طويلاً عن نشرها، ولعله كان متردداً لما قد يثير من حفائظ البعض، ولما فيها من أدب مكشوف وحسية عالية، وأراه أحسن صنعاً إذ أنتشلها من وهدة النسيان والخمود، ويا حبذا لو أعاد نشر هذه الفصول البهيجة الممتعة، لأن الطبعة الاولى والوحيدة من هذا السِفْر الِسَيري النفيس، الصادرة عام 1986، عن أحد المطابع الأهلية، قد جاءت فيها أخطاء فضلاً على صفحات بيض غير مطبوعة.
إذ يقول في مقدمة الكتاب الموسومة بـ(تواطئة حلم) (ثم إنني لا أدري أ أنشر هذا أم أتركه هاجعاً في غبار أوراقي، مثلما ظل مهملاً أكثر من عشر سنين من قبل؟؟).
ما أثار أنتباهي، أن غالبية الفتيات اللواتي تعرف عليهن، كان لامهاتهن دور في أدامة هذه العلاقة، فضلاً على أنهن كن بدون أزواج، تُرى هل كن مطلقات، أم أكلت الحرب الثانية أزواجهن؟ لا بل أن أم صديقته الاثيرة وحبيبة القلب (لينا) التي كانت تتمنع بعض الشي في تقديم جسدها على طبق الشهوات الجامحة المتقدة في جسديهما، والتي كانت تحاول كبح جماح الجسد اللائب، أقول إن أمها التي كانت تسمع الحوار الدائر بين الأثنين، بين الرغبة والتمنع، أراها تثور في وجه أبنتها المتحفظة، مشجعةً إياها على تلبية رغائب هذا الشاب ذي الوجه البتهوفني الضاجة، صارخة فيها :
(– فيم هذا التدلل كله؟ أنك تزعجينني. أذهبي من هنا.
وفتح بابي قليلاً. كانت أمها تهتف بي :
- أقفل الباب في وجهها. لا تدعها تدخل). ص159
وكأنما ثأراً من توبيخ إمها..
(تسللتْ تحت الاغطية في حذر، وتمددت متعمدة إلا تلامسني. كنا تحت غطاء واحد، وكانت حارة وجميلة جداً، وهي تعلم أنها الليلة لي. منذ أزعجتها أمها وطردتها وهي تعلم أنها لي. فأقتربت منها. ورحت ألامس وجهها بشفتي. كنت أُلامسها وأقبلها في هدوء وتعبد. فألقت عنها ثوبها بعيداً. أية لدونة فائقة لا أنتهاء لها؟ تلك الليلة كنت معها في أهنأ لذة على الارض). ص161
وأذا كان الروائي فؤاد التكرلي، يوغل في الوصف، والحرث في المعنى، مقدماً للقارئ مشاهد سينمائية من مواقف اللذة والأشتهاء في روايته المدوية (المسرات والاوجاع) فأن الشاعر حسب الشيخ جعفر، كان يأمر قلمه بالتوقف قبل الجوْس خَلَلَ المشاهد الحميمة، ولعله أذعن لأمر زميله الشاعر أبي نؤاس، الذي أوعز لنفسه المنتشية أن تقف قبل تصوير مواطن الأسرار، فلما وصلتْ الى موطن الأسرار قلتُ لها قفي.
في الكتاب الجميل هذا (رماد الدرويش) فضلاً على مشاهد الرغبات، صور جميلة ضاحكة عن ذلك الشاعر أحمد القفقاسي.. (كانت الثلوج تُدَوِّم راقصة متلوية. والزوبعة الثلجية تنتحب ملتاعة عند النافذة. وأنا في غرفتي أقرأ لوبادي فيجا (أو) كالديرون وأتجرع الشاي الحار. ونافذتي تُقْرَع بالحاح. فأظُنها الريح. وأني لأُصغي، فأسمع دقاً جلياً واضحاًُ. لقد أعتاد الناس أن تُطْرَق أبواُبهم عليهم، فأيُ شيطان يدق نافذتي في الطابق الخامس ليزورني في منتصف الليل الثلجي العاصف؟ فأترك كتابي لأفتح الكوة وأتطلع. في الزوبعة الثلجية المتلاطمة... أرى أحدهم عند نافذتي، متعلقاً بسلم الأطفاء، حاملاً معه ملف أوراق ضخماً وهو يهتف بي لأن أفتح النافذة. هذا هو أحمد القفقاسي يحل عليَّ ضيفاً من النافذة في منتصف الليل!!
لا وقت للأيضاح. فتحت النافذة، وتناولت ملفه أولاً. ثم أعنتهُ ليهبط في غرفتي مع الرياح والثلوج. وأسرعت أوصد النافذة.
- ماذا جرى يا أحمد؟
- المناوِبَة اللعينة.
- تغامر برأسك هكذا، متسلقاً هذه الطوابق الخمسة كلها في الزوبعة الثلجية الرهيبة؟
- وما العمل؟ والمناوبة تترصدني عند المدخل؟
الأمر واضح الأن. لم يكن أحمد من القاطنين في المنزل. كان صحفياً من القفقاس يحاول كتابة رواية. كلما جاء موسكو حَلَّ ضيفاً على أصدقاء من طلبة المعهد الجنوبيين. وأحمد يتردد علينا حتى أخذنا نعدّه واحداً منا. وضاقت المناوبات ذرعاً بتردده علينا. غالباً ما كان يجيئ مخموراً بعد منتصف الليل فيزعجهن بطرقاته. كن يزجرنه حيناً ويحذرنه حيناً آخر.. ثم منعنه من الدخول. فلم يجد من سبيل غير سُلَّم الاطفاء ليتسلل حذراً الى أصدقائه. كنت أنظر الى ملفه وأضحك: كان هذا عمله الروائي يدور به على الناشرين. تناول أحمد ملفه، وأنسل، متلفتاً، الى غرفة زميل له) ص58. ص59
قلت أن الشاعر حسب الشيخ جعفر ما أستطاع خلع إهاب الشاعر وطيلسانه وهو يكتب نثراً، وهو يكتب كتابه هذا (رماد الدرويش) نثراً يقترب من الشعر عذوبةً و رقة، وليس كل من كتب الشعر كان شعره عذباً رقيقاً، فهناك من يصفع أسماعَنا وأنظارنا بما يشبه الحجر الصوان، لكن أقصد لغة الشاعر الشاعر، التي حباها الله لحسب الشيخ جعفر، فقدم لنا هذه السمفونية اللغوية الرائعة وأني لمحتار أن أختار نصاً أقدمه للقارئ، فهي من الكثرة أن تجعلك تقف خجلاً إزاء النصوص المختارة، وكل نص يطل عليك برأسه عارضاً بضاعته الراقية لكني إزاء تزاحم النصوص أرى أختيار هذه المدونة الراقية (ثم تقول مصيخةً سمعها- أيروقك صفير الزوبعة الثلجية؟ إنها تئن وتنتحب وتقهقه... إنها تنوح وتضحك. أتسمعها؟
- ما أجملَ أن أسمعها وأنتِ بين ذراعي!
- إنها تبكي للحزانى المتوحدين... لمن ينام وحيداً في هذه الليلة. وتضحك للأحبة المتعانقين.. للأحبة في أسرتهم الدافئة الضاحكة (...) ويخالها المتجمد في العراء فراشاً مريحاً. فأذا أغمض عينيه مرة، وكف عن الحركة... لن يفيق بعدها. أتسمع خيلها الصاهلة، المندفعة في جنون؟
- كنت أسمعها صفيراً ناحلاً فوق السطوح. وتدق عليَّ النافذة، فأتذكر لوسي جراي: طفلة وردز ورث الضائعة في سهوب العاصفة الثلجية. خرجت بقنديلها لتضيء الطريق لأمها العائدة من المدينة. فََضَلَتْ دربها تائهةً وحيدة. وظل الوالدان يناديان في كل مكان. وفي الصباح وجدا آثارها منتهية عند الجسر الخشبي المتهدم.
- هذه أغنية كئيبة. أكنتَ وحيداً تلك الليلة؟
- كنتُ وحيداً وحدة المنار المنطفئ في ليلة البحر العاصفة.
- وأين كنت أنا عنك؟ لو كنت أعلم لطرقت بابكم على المناوِبةِ، وأيقظتها لتقودني إليك. لكنك لن تكون وحيداً بعد الأن) ص221.
ولوسي جراي طفلة الشاعر الرومانسي وردز ورث تعيد لذاكرتي ومسامعي كلمات أغنية (شادي) الجميلة المؤثرة، التي تشدو بها فيروز بصوتها الفيروزي الكنسِيْ المتبتل كأنه يدعوك الى صلاة للرب خالق الأكوان صلاة لروح هذا الشادي الذي أكلته الحرب الأهلية اللبنانية، أو جمده صقيع جبال لبنان في تلك الليلة الشاتية شديدة البرد.
في (رماد الدرويش) كتاب حسب الشيخ جعفر الذي ينحو فيه منحى السيرة الذاتية، ذكر لكثير من النسوة والفتيات اللائي مرّ بهن حسب أو مررن به: سونيا، تونيا، تمارا، نينا، تتيانا، ميرا، كاتيا، أو نظيرة تلك المرأة الاوزبكية الشابة، ذات الملامح الروسية والعينين الخضراوين والشعر الاسود. في وجهها سمرة خفيفة، وقوامها الريان يملأ الذراعين والتي كانت تحرجه بنظرات متأججة. لكن كانت (لينا) هي الملكة التي تربعت على عرش قلبه وحبه ورغباته، التي كانت تأمل الزواج به، لا بل كانت تعد نفسها زوجة له، وهي تسلمه جسدها، بعد تلك الليلة التي عنفتها أمُها لانها تمنعت عليه. وإذ يسأله عارف الساعدي في برنامجه الممتع (سيرة مبدع) الذي يقدمه من قناة الحرة/ العراق، وأمتعنا بساعتين جميلتين في ضيافة حسب الشيخ جعفر، عن من بقي في الذاكرة منهن، وهل إلتقى إحداهن فيما بعد؟ يقول، إنه سافر الى موسكو أكثر من مرة، والتقى بأكثر من واحدة، وفي المقدمة منهن (لينا) التي إلتقاها وأستعادا أيامهما الماضية الغاربة، كان ذلك قبل عقد الثمانينات، لكن تطاول الأيام وكرّها كانا سبباً في تغير الحال، فالشاب الفتي الذي كانه، تحول الى رماد، وليس رماداً فقط، بل رماد درويشي، يظل يحيا على وقع الذكريات الغاربة الهاربة.
الحوار المتمدن-العدد: 5769 - 2018 / 1 / 26 - 00:57
شكيب كاظم
إذا أردت مشاركة هذا الكتاب فشكرا لك, ولكن رجاء لاتزيل علامتنا المميزة
مع الشكر مقدما
No comments:
Post a Comment