الشاعر السوري تناول القمع كإحدى المعضلات التي يعيشها المجتمع العربي والسوري بالتحديد من خلال شخصيات أبطاله القصصيين في أكثر من مجموعة.
يروي الشاعر والكاتب شوقي بغدادي حكاية تعرّفه على الراحل حتمل في زاوية كتبها عن رحيل صديقه، فيقول : “قبل ما يقارب العشرين عاماً أطلعني أحدهم على قصة قصيرة يطلب رأيي فيها، وأذكر أنها سحرتني على الفور، وأنني سألت بعد فراغي من قراءتها: “من هو جميل حتمل هذا؟ إنني لم أسمع به من قبل!..”، فقالوا لي وقتها إنه شاب في السابعة عشرة من عمره، فأبديت استغرابي وحين تعرفت إليه أدهشني أكثر بمنظره الوديع، ولهجته الخافتة في الحديث، وحيائه الذي يشبه حياء الأطفال، لكن نظرته المتفحصة المصحوبة بابتسامة حقيقة نبهتني منذ تلك اللحظة إلى أن رجلاً ناضجاً يكمن وراء هذا الإهاب الخجول الوديع، وفهمت لماذا أسماه بعضهم آنذاك” الطفل المعجزة!”.
وحين صدرت مجموعته القصصية الأولى المسماة “الطفلة ذات القبعة البيضاء”، احتفلنا بها جميعاً لأنها كانت تستحق الاحتفال حتماً. في هذه المجموعة عبر الراحل حتمل عن روح ثورة في بداياتها كما تنتمي إلى الشعب السوري بعد فشل مظاهرة من مظاهرات الزمن الغابر في قصة “يوم ليس عادياً تماماً في حياة مواطن ليس عادياً تماماً”، اشتروا عرقاً وحمصاً ومخللاً وقضامة وبزراً وتجمعوا حول طاولة متسخة. رفع ذو الشعر المجعد الكأس، وانتفض صارخاً: كأس الثورة. فشربوا كأس الثورة بحماس مرعب. ووقف آخر وهمس : كأس المعتقلين. شربوا كأس المعتقلين بحزن بالغ. صرخت فتاة: كأس المظاهرة القادمة التي لن تتوقف. فشربوها دون توقف. وتمتم أحدهم بكلمات أغنية للشيخ إمام، فعلت أصواتهم جميعاً بها.
وحين صدرت مجموعته القصصية الأولى المسماة “الطفلة ذات القبعة البيضاء”، احتفلنا بها جميعاً لأنها كانت تستحق الاحتفال حتماً. في هذه المجموعة عبر الراحل حتمل عن روح ثورة في بداياتها كما تنتمي إلى الشعب السوري بعد فشل مظاهرة من مظاهرات الزمن الغابر في قصة “يوم ليس عادياً تماماً في حياة مواطن ليس عادياً تماماً”، اشتروا عرقاً وحمصاً ومخللاً وقضامة وبزراً وتجمعوا حول طاولة متسخة. رفع ذو الشعر المجعد الكأس، وانتفض صارخاً: كأس الثورة. فشربوا كأس الثورة بحماس مرعب. ووقف آخر وهمس : كأس المعتقلين. شربوا كأس المعتقلين بحزن بالغ. صرخت فتاة: كأس المظاهرة القادمة التي لن تتوقف. فشربوها دون توقف. وتمتم أحدهم بكلمات أغنية للشيخ إمام، فعلت أصواتهم جميعاً بها.
بشائر حوران
ولو قدر للقاص والأديب والصحفي الراحل جميل حتمل الحياة حتى يوم 18 من آذار من العام 2011، لكان من أوائل المنضمين لثورة أبناء حوران التي أصبحت ثورة الشعب السوري رغم كل ما يعتريها الآن من عيوب وتحولات، فحتمل كان قد اعتقل في العام 1982، بسبب انتمائه لحزب العمل، الذي دفع العديد من مناضليه حياتهم في مواجهة السلطة الديكتاتورية منذ أواسط سبعينات القرن الفائت، وأطلق سراحه من المعتقل بعد عدة أشهر بسبب إصابته القلبية التي أضنته منذ طفولته. وسافر إلى باريس في العام 1982، لإجراء عملية صمام قلب، وسافر ثانية إليها في العام 1985، وأرغم على البقاء فيها حتى وفاته في تشرين الأول من العام 1994، وعمل مراسلاً ثقافياً لأكثر من صحيفة عربية منها “الوطن الكويتية” وغيرها. وهو من مواليد دمشق في العام 1956، والده الفنان التشكيلي الشهير الفريد حتمل من قرية خبب الحورانية، ودرس الأدب العربي في جامعة دمشق وتخرج منها، ويعد من أهم الأسماء في جيل السبعينات في القصة القصيرة السورية، له العديد من المجموعات القصصية “الطفلة ذات القبعة البيضاء ـ1981”، و”انفعالات”، و”حين لا بلاد”، و” قصص المرضى، قصص الجنون”، و”سأقول لهم” صدرت بعد وفاته ضمن الأعمال القصصية الكاملة، عن كتابته القصصية قال الروائي الراحل عبدالرحمن منيف: “في مجموعاته كلها، منذ القصة الأولى، وحتى القصة الأخيرة، يقدم لنا الراحل حتمل منظوراً روائياً، أو يحمّل القصة القصيرة مهمة تجعلها اقرب إلى رواية-السيرة الذاتية، إذ تعكس تجربته، وتتابع عالماً داخلياً يكاد يكون واحداً أو متشابهاً”.
ولو قدر للقاص والأديب والصحفي الراحل جميل حتمل الحياة حتى يوم 18 من آذار من العام 2011، لكان من أوائل المنضمين لثورة أبناء حوران التي أصبحت ثورة الشعب السوري رغم كل ما يعتريها الآن من عيوب وتحولات، فحتمل كان قد اعتقل في العام 1982، بسبب انتمائه لحزب العمل، الذي دفع العديد من مناضليه حياتهم في مواجهة السلطة الديكتاتورية منذ أواسط سبعينات القرن الفائت، وأطلق سراحه من المعتقل بعد عدة أشهر بسبب إصابته القلبية التي أضنته منذ طفولته. وسافر إلى باريس في العام 1982، لإجراء عملية صمام قلب، وسافر ثانية إليها في العام 1985، وأرغم على البقاء فيها حتى وفاته في تشرين الأول من العام 1994، وعمل مراسلاً ثقافياً لأكثر من صحيفة عربية منها “الوطن الكويتية” وغيرها. وهو من مواليد دمشق في العام 1956، والده الفنان التشكيلي الشهير الفريد حتمل من قرية خبب الحورانية، ودرس الأدب العربي في جامعة دمشق وتخرج منها، ويعد من أهم الأسماء في جيل السبعينات في القصة القصيرة السورية، له العديد من المجموعات القصصية “الطفلة ذات القبعة البيضاء ـ1981”، و”انفعالات”، و”حين لا بلاد”، و” قصص المرضى، قصص الجنون”، و”سأقول لهم” صدرت بعد وفاته ضمن الأعمال القصصية الكاملة، عن كتابته القصصية قال الروائي الراحل عبدالرحمن منيف: “في مجموعاته كلها، منذ القصة الأولى، وحتى القصة الأخيرة، يقدم لنا الراحل حتمل منظوراً روائياً، أو يحمّل القصة القصيرة مهمة تجعلها اقرب إلى رواية-السيرة الذاتية، إذ تعكس تجربته، وتتابع عالماً داخلياً يكاد يكون واحداً أو متشابهاً”.
حزن الجيل
حملت المجموعات القصصية بالحزن الذي يعتمر قلب الراحل حتمل وحياته، ففي قصة” انفعالات -3- درج الأيام المنفردة” نجده يكتب “.. مكسور وممزق بحاجة إلى رعاية وحنان أم”، ويضيف ” أنا الرجل – الطفل الرجل المنهك، المكسور كزجاج، المبعثر كزجاج، أنا الرجل المليء بالأحزان والخطايا والطموحات، الرجل الذي لا يسمعه أحد، أو الذي لا يعرف كيف يوصل صوته”. ويعبر عن هذا الحزن في قصة “السير بخطوات بطيئة” عندما تقابل الشخصية في القصة حبيبتها “حالة التعب والحزن لم تهرب منه، ولذا لم يتجه إليها كعادته قبل أن تصل إليه”، ويصف ملامح شخصية البطل التي تطبعه بالحزن “.. ثمة مخلوق اسمه الحزن مازال يرافقه، يرافقه ويحرمه من أبسط الحقوق: الحب.. حتى الحب هذا الطائر الرائع حولوه إلى هم يقيدنا”.
حملت المجموعات القصصية بالحزن الذي يعتمر قلب الراحل حتمل وحياته، ففي قصة” انفعالات -3- درج الأيام المنفردة” نجده يكتب “.. مكسور وممزق بحاجة إلى رعاية وحنان أم”، ويضيف ” أنا الرجل – الطفل الرجل المنهك، المكسور كزجاج، المبعثر كزجاج، أنا الرجل المليء بالأحزان والخطايا والطموحات، الرجل الذي لا يسمعه أحد، أو الذي لا يعرف كيف يوصل صوته”. ويعبر عن هذا الحزن في قصة “السير بخطوات بطيئة” عندما تقابل الشخصية في القصة حبيبتها “حالة التعب والحزن لم تهرب منه، ولذا لم يتجه إليها كعادته قبل أن تصل إليه”، ويصف ملامح شخصية البطل التي تطبعه بالحزن “.. ثمة مخلوق اسمه الحزن مازال يرافقه، يرافقه ويحرمه من أبسط الحقوق: الحب.. حتى الحب هذا الطائر الرائع حولوه إلى هم يقيدنا”.
المعتقل والعدوانية
تناول حتمل القمع كإحدى المعضلات التي يعيشها المجتمع العربي، والمجتمع السوري بالتحديد من خلال شخصيات أبطاله القصصيين في أكثر من مجموعة بدأ ذلك من مجموعته الأولى في أكثر من قصة منها “الشرطي” الذي أدخل السجن بتهمة الرشوة بنصف دينار، لذلك وضعوه في زنزانة، وعندما حاول استغلال وضعه الصحي كتب طبيب السجن إنه “متمارض”، وكانت ردت فعل سامي صراخاً يزداد ويعلو”_ العقيد ابن كلب.. سأقتله، وعندما عاد سامي إلى الزنزانة، لم يجد دفاتره، بحث عنها مهووساً تحت الفراش، بين الأحذية، وطمأنه الحارس:_ الدفاتر عند السيد العقيد يود أن يرى ما تكتب فيها”.
وفي مجموعة “حين لا بلاد”، نجد قصة يتذكر بطلها كيف كان المفتاح الذي يدور في قفل الباب الخارجي المؤدي للردهة، ردهة السجن، يقتل الصمت.. ثمة خطوات قادمة، وربما سيفتح أحدهم كوة الزنزانة.
وتشتد عدائية المكان في قصة “تلك الشمس” عندما يتحول السجين إلى سجين أشغال شاقة فقط لمجرد رؤية الشمس “هم يحتاجون إلى عمال لبناء حمامات داخل.. المهاجع، وغرف جديدة فوق، يعني على الأرض، عمال نقل البلوك والأحجار والرمل والحصى”.. وتكتمل عدائية المكان على لسان أحد الشخصيات عندما يجبر الإنسان على قدره خارج إرادته.. “يلعن أبا هذه الحالة التي تجعلنا نتمنى أن نخرج قليلاً ولو لإكمال بناء سجون”. وتتمكن العدائية فتترك بصمتها على الشخصية.. فها هو بطل قصة “اعتذار” يحمل معه العدائية من المكان “الزنزانة” إلى الناس “كان مساء فتحوا باب الزنزانة وسمحوا لي أن أمضي .. بدا لي الأمر أشبه بحلم”، فلم يستطيع بطل القصة احتضان ولده الصغير، فتأثيرات المكان والزمان تتداخل لتحول الشخصية نحو العدائية للإنسان حتى المقربين منه أيضاً.
تناول حتمل القمع كإحدى المعضلات التي يعيشها المجتمع العربي، والمجتمع السوري بالتحديد من خلال شخصيات أبطاله القصصيين في أكثر من مجموعة بدأ ذلك من مجموعته الأولى في أكثر من قصة منها “الشرطي” الذي أدخل السجن بتهمة الرشوة بنصف دينار، لذلك وضعوه في زنزانة، وعندما حاول استغلال وضعه الصحي كتب طبيب السجن إنه “متمارض”، وكانت ردت فعل سامي صراخاً يزداد ويعلو”_ العقيد ابن كلب.. سأقتله، وعندما عاد سامي إلى الزنزانة، لم يجد دفاتره، بحث عنها مهووساً تحت الفراش، بين الأحذية، وطمأنه الحارس:_ الدفاتر عند السيد العقيد يود أن يرى ما تكتب فيها”.
وفي مجموعة “حين لا بلاد”، نجد قصة يتذكر بطلها كيف كان المفتاح الذي يدور في قفل الباب الخارجي المؤدي للردهة، ردهة السجن، يقتل الصمت.. ثمة خطوات قادمة، وربما سيفتح أحدهم كوة الزنزانة.
وتشتد عدائية المكان في قصة “تلك الشمس” عندما يتحول السجين إلى سجين أشغال شاقة فقط لمجرد رؤية الشمس “هم يحتاجون إلى عمال لبناء حمامات داخل.. المهاجع، وغرف جديدة فوق، يعني على الأرض، عمال نقل البلوك والأحجار والرمل والحصى”.. وتكتمل عدائية المكان على لسان أحد الشخصيات عندما يجبر الإنسان على قدره خارج إرادته.. “يلعن أبا هذه الحالة التي تجعلنا نتمنى أن نخرج قليلاً ولو لإكمال بناء سجون”. وتتمكن العدائية فتترك بصمتها على الشخصية.. فها هو بطل قصة “اعتذار” يحمل معه العدائية من المكان “الزنزانة” إلى الناس “كان مساء فتحوا باب الزنزانة وسمحوا لي أن أمضي .. بدا لي الأمر أشبه بحلم”، فلم يستطيع بطل القصة احتضان ولده الصغير، فتأثيرات المكان والزمان تتداخل لتحول الشخصية نحو العدائية للإنسان حتى المقربين منه أيضاً.
الهاجس السياسي
تصدى حتمل وجيله للأحلام الكبيرة التي عجز مع جيله عن تحقيقها، ومع عنفوان الحلم الذي كان هذا الجيل مهجوساً بالعمل السياسي، وبالمواجهة لتحقيق هذه الأحلام، واستطاع حتمل التعبير عن هذا الجيل من خلال وجوده في الحالة السياسية التي انتمى إليها، ومن خلال نقل معاناة هذا الجيل عبر الإبداع القصصي الذي انتمى إلى ما يعرف اصطلاحياً بالكتابة الجديدة، وجاءت مجموعته الأولى معبرة عن انفلات إلى داخل الذات من زاوية الحرية الواسعة بينما المجموعة الثانية كانت بين عالم هذه الذات الذي سيبدو لمتابع من الخارج أنه مغلق. إلا أنه شديد الغنى بين العالم ذاته المستمد من عالم ذاك الجيل الموجود في المجموعة الأولى والموشّى برغبة الحياة الكبيرة ورغبة حب الحرية، الموشّى بالأحلام المكسورة بثقل القمع والاستلاب والقتل والنفي والتشرد أو إجهاضاً لقصص الحياة المشتهاة الناعمة الصغيرة، وخير تعبير عن انكسار الأحلام والحياة نجد في قصة “أبو صالح ” في مجموعته الثانية إذ يقول: “أول ما فعلته في السجن هنا، وبعد خروجي من الزنازين، أنني حاولت أن أمتلك قلماً وورقاً، وهي مغامرة ولكنني فعلتها.. لو تعرف كيف أخبئ القلم والأوراق. وها أنا أكتب الآن. النهج هادي تماماً، الجميع نيام، أنا نعس. هل تصدق أن إمكانية الكتابة غير قائمة بالنسبة لي إلا بعد أن ينام الجميع،(…)، بل لأنني أجلس لأتذكر بهدوء، أو أشرد كما يحلو لي، وأعيش ذلك المزيج المتداخل، من الأحلام والتفكير والأحاسيس كما أرغب، لا أقدر على ذلك كما يحلو لي _ إلا بعد أن ينام الجميع…”.
ويتجسد الهاجس السياسي في قصص المرضى قصص الجنون في قصة “الكلاش” عبر متابعة حتمل موقفه من خيار”غزة، أريحا” في المفاوضات “الإسرائيلية” الفلسطينية عندما يبحث عن الإذاعة العربية المحاذية للإذاعة “الإسرائيلية” لمعرفة الأخبار والمنولوج الداخلي الذي يحثه للبحث عن هذه الإذاعة، وماذا سيسمع من أخبار سياسية صباح ذلك اليوم، فماذا سأسمع؟ أعن “غزة – أريحا” أو موت مستوطنين، يرد عليه بطعن عربي، أو جهود السيد مبارك لإسراع إدخال بلدنا في عملية السلام.. أو زيارة “آلان جوبيه” لسوريا ولبنان (صحيح ما الذي يمكن أن يفعله في بلدين، خلال 24 ساعة فقط؟!)، ويعمق الهاجس السياسي حتمل من خلال زاوية كتبها في جريدة آخر خبر الأردنية في عددها (14) بتاريخ26 ،27-10-1994، وعنوانها “انتساب إلى (النظام العالمي القديم)” يقول فيها: “لست مؤمناً بما يروج له عن (نهاية التاريخ) بل ما زلت كرجال (النظام القديم) أو كرجال الكهوف حتى، مؤمناً بحتمية هذا التاريخ، ولو حلماً.. ما زلت قادراً على أن أصرخ بولدي غاضباً، حين يقول لي بأنهم لم يعلموه في المدارس من احتل فلسطين والجولان؟”.
تصدى حتمل وجيله للأحلام الكبيرة التي عجز مع جيله عن تحقيقها، ومع عنفوان الحلم الذي كان هذا الجيل مهجوساً بالعمل السياسي، وبالمواجهة لتحقيق هذه الأحلام، واستطاع حتمل التعبير عن هذا الجيل من خلال وجوده في الحالة السياسية التي انتمى إليها، ومن خلال نقل معاناة هذا الجيل عبر الإبداع القصصي الذي انتمى إلى ما يعرف اصطلاحياً بالكتابة الجديدة، وجاءت مجموعته الأولى معبرة عن انفلات إلى داخل الذات من زاوية الحرية الواسعة بينما المجموعة الثانية كانت بين عالم هذه الذات الذي سيبدو لمتابع من الخارج أنه مغلق. إلا أنه شديد الغنى بين العالم ذاته المستمد من عالم ذاك الجيل الموجود في المجموعة الأولى والموشّى برغبة الحياة الكبيرة ورغبة حب الحرية، الموشّى بالأحلام المكسورة بثقل القمع والاستلاب والقتل والنفي والتشرد أو إجهاضاً لقصص الحياة المشتهاة الناعمة الصغيرة، وخير تعبير عن انكسار الأحلام والحياة نجد في قصة “أبو صالح ” في مجموعته الثانية إذ يقول: “أول ما فعلته في السجن هنا، وبعد خروجي من الزنازين، أنني حاولت أن أمتلك قلماً وورقاً، وهي مغامرة ولكنني فعلتها.. لو تعرف كيف أخبئ القلم والأوراق. وها أنا أكتب الآن. النهج هادي تماماً، الجميع نيام، أنا نعس. هل تصدق أن إمكانية الكتابة غير قائمة بالنسبة لي إلا بعد أن ينام الجميع،(…)، بل لأنني أجلس لأتذكر بهدوء، أو أشرد كما يحلو لي، وأعيش ذلك المزيج المتداخل، من الأحلام والتفكير والأحاسيس كما أرغب، لا أقدر على ذلك كما يحلو لي _ إلا بعد أن ينام الجميع…”.
ويتجسد الهاجس السياسي في قصص المرضى قصص الجنون في قصة “الكلاش” عبر متابعة حتمل موقفه من خيار”غزة، أريحا” في المفاوضات “الإسرائيلية” الفلسطينية عندما يبحث عن الإذاعة العربية المحاذية للإذاعة “الإسرائيلية” لمعرفة الأخبار والمنولوج الداخلي الذي يحثه للبحث عن هذه الإذاعة، وماذا سيسمع من أخبار سياسية صباح ذلك اليوم، فماذا سأسمع؟ أعن “غزة – أريحا” أو موت مستوطنين، يرد عليه بطعن عربي، أو جهود السيد مبارك لإسراع إدخال بلدنا في عملية السلام.. أو زيارة “آلان جوبيه” لسوريا ولبنان (صحيح ما الذي يمكن أن يفعله في بلدين، خلال 24 ساعة فقط؟!)، ويعمق الهاجس السياسي حتمل من خلال زاوية كتبها في جريدة آخر خبر الأردنية في عددها (14) بتاريخ26 ،27-10-1994، وعنوانها “انتساب إلى (النظام العالمي القديم)” يقول فيها: “لست مؤمناً بما يروج له عن (نهاية التاريخ) بل ما زلت كرجال (النظام القديم) أو كرجال الكهوف حتى، مؤمناً بحتمية هذا التاريخ، ولو حلماً.. ما زلت قادراً على أن أصرخ بولدي غاضباً، حين يقول لي بأنهم لم يعلموه في المدارس من احتل فلسطين والجولان؟”.
المنفى
يصف المخرج السوري محمد ملص غربة جميل حتمل بالقول:” لم يبق لك، كما لم يبق لنا، إلا أن تترنم – كما كنت تفعل في المنفى البعيد _ بقداسك الممتلئ صمتاً ووحدة.. لتصوغ في الموت كما في الحياة قصصك، حيث لا بلاد، وحيث لا هواء”.
في حوار معه لمجلة الحرية الفلسطينية يقول حتمل: “الكتابة الحقيقية هي كتابة الوطن أساساً. كنت، إذن، أمام مشكلة ليست سهلة الحل، على الأقل مبدئياً. وفي النتيجة، وصلت إلى ما يمكن اعتباره حلاً ما، قد لا أستطيع أن أقوله في كلمات. ولكن يبدو لي أنني ما زلت أكتب عن الوطن وما زلت في هذا الوطن الآن، وإن جئت إلى قصص باريس، فسأجد أنني أتحدث عن رجل يعيش على هامش المدينة. رجل غير مندغم في هذه المدينة الصاخبة. رجل مدينته هناك وناسه هناك، ومن يحب هناك ومن ينتمي إليهم هناك”.
وتظهر هذه الغربة كبيرة بحجمها في مجموعته القصصية “حين لا بلاد”، لكن حتمل يعرض في قصة “سأقول له” من مجموعة “سأقول لهم” غربة من خلال شخصية ابنه الصغير الفريد الذي يدرس في مدرسة ابتدائية في سوريا، والأب في باريس ولا يلتقي الأب سوى في الصيف عبر زيارة الطفل لأبيه ويسرد الفريد “لذا سأقول لك، كم أتمنى أن ترجع.. وعندما ستذهب معي إلى المدرسة، وسأخبر التلاميذ أنك لم تكن مع أمي، لأنك كنت مسافراً، لا كما يهمسون ويغيظونني”. ويتعمق إحساس الطفل بمزيد من الأسئلة إلى الأب “لو ترجع يا أبي، سأترجاهم وأقول لهم: أرجوكم هو أبي، وأريد أن يعيش هنا.. مراراً حكيت لي كيف تفكر بي. وأنا أود أن أقول لك إنني أيضاً أفكر بك جداً. دائماً يا أبي أفكر بك وأشتاقك. هل سترجع يا أبي حقاً؟ هل سترجع.. أنا سأقول لهم..”.
إذ كان هذا هو إحساس الطفل بمدى حبه لأبيه البعيد، فلنرى ما هي أحاسيس جميل حتمل في غربته إذ يقول: “تعبت يا لله وأريد أن أعود إلى مدينتي، وإلى بيتي القديم. تعبت من المترو والأنفاق والوحدة وبرد الشتاء الداهم، وحريق القلب الآخذ بالانطفاء. تعبت وأريد كل مساء أن أهمس لأبني بمساء الخير. تعبت من الصقيع من سياط الوحشة من برودة الرغبات.. تعبت، فأعدني بالله، ولو جثة أعدني”.
صالة الاستقبال أم الشحن
وهكذا حقق الله رغبة جميل حتمل الأخيرة بالعودة إلى دمشق جثة حيث استقبل جثمان حتمل كوكبة كبيرة من المثقفين والأدباء والفنانين كان في مقدمتهم شوقي بغدادي الذي سأل إبراهيم صموئيل في المطار: “هل وصلت طائرة جميل؟” فقال: “بلى في موعدها المحدد تماماً”. وقال الشاعر حسان عزت: “يجب أن تذهب إلى قسم الشحن وليس إلى صالة الاستقبال”. واقترب الأب الياس زحلاوي، مسلماً بلطفه المعهود مستفسراً، والمخرج السينمائي الجريء أسامة محمد يحاول إرشادنا إلى المكان، كما في أيامنا الآن، حيث لم تعد جثامين السوريين تحصى، فالأسماك تفترسها، والحرب الدائرة على الأرض السورية تفتك بالمئات، بل بالألوف ومئات الألوف، والغربة أصبحت متعدد وطويلة، لذلك يردد السوريون جميعاً مع جميل حتمل تعبنا بالله تعبنا؟!
وهكذا حقق الله رغبة جميل حتمل الأخيرة بالعودة إلى دمشق جثة حيث استقبل جثمان حتمل كوكبة كبيرة من المثقفين والأدباء والفنانين كان في مقدمتهم شوقي بغدادي الذي سأل إبراهيم صموئيل في المطار: “هل وصلت طائرة جميل؟” فقال: “بلى في موعدها المحدد تماماً”. وقال الشاعر حسان عزت: “يجب أن تذهب إلى قسم الشحن وليس إلى صالة الاستقبال”. واقترب الأب الياس زحلاوي، مسلماً بلطفه المعهود مستفسراً، والمخرج السينمائي الجريء أسامة محمد يحاول إرشادنا إلى المكان، كما في أيامنا الآن، حيث لم تعد جثامين السوريين تحصى، فالأسماك تفترسها، والحرب الدائرة على الأرض السورية تفتك بالمئات، بل بالألوف ومئات الألوف، والغربة أصبحت متعدد وطويلة، لذلك يردد السوريون جميعاً مع جميل حتمل تعبنا بالله تعبنا؟!
العرب-بسام سفر [نشر في 2014\09\13]
No comments:
Post a Comment