تيسير السبول يواصل احتجاجه بعد 34 عاما علي انتحاره
محمد عبيدالله
تيسير
السبول الشاعر والروائي والإعلامي الشاب المولود في الخامس عشر من شهر
كانون الثاني عام 1939، في بلدة الطفيلة جنوب العاصمة الأردنية عمان، ما
زال حاضرا رغم مرور أربعة وثلاثين عاما علي غيابه، بعدما أطلق النار علي
نفسه يوم الخامس عشر من تشرين الثاني عام 1973، متبعا طريق المبدعين
المنتحرين أو الغائبين في شبابهم، من مثل فلاديمير ماياكوفسكي الشاعر
الروسي الذي انتحر في سن السابعة والثلاثين، وتوقف سبول عند شعره وانتحاره،
وكتب متسائلا في سياق تحليل قصيدة (غيمة في بنطال) التي سبقت انتحار
صاحبها بخمسة عشر عاما لقد حمل ماياكوفسكي مشاعر الناس جميعا في قلبه،
وعصرها في صوته الشعري العظيم.. ولكننا سنلتقي به بعد خمسة عشر عاما من
القصيدة، يطلق النار علي نفسه مخلفا وصية قصيرة بضع كلمات حزينة عن: زورق
الحب الذي تحطم علي صخور الحياة اليومية، ورجاء لأمه ألا تبكي وللناس ألا
يتقولوا عليه. ما هي الخطوط التي نسجت فاجعة نهايته؟ هل تعاظم لديه الشعور
بأن الكون أصم كما أعلن في ختام قصيدته؟ أم فاجعة حب كما قيل؟ يظل الجواب
معلقا في سجف المجهول .
ولا
ينتظر سبول طويلا ففي سن الرابعة والثلاثين وبعيد حرب تشرين 1973 يختار
نهايته الفاجعة التي تحولت إلي حدث ثقافي عربي يستحق المراجعة المتكررة،
فما الذي يدفع أديبا موهوبا وشابا متفتحا نحو الانتحار؟؟ ليس في حياة تيسير
المباشرة دافع قوي للانتحار، ولذلك ذهبت الآراء نحو التفسير الأشمل بوصف
انتحاره صيحة احتجاج يخسر فيها المرء أعز ما يملك من حياته ودمه.. لقد
انتحر محتجا علي تكرار الهزائم وقسوتها بعدما اختلط لديه الموضوعي بالذاتي
والعام بالخاص وصار هو أو بطله عربي ذاتا تخبئ أحزان الجماعة وإخفاقاتها
المتتابعة.
أحزان صحراوية:
ترك
سبول ديوانا شعريا وحيدا عنوانه: أحزان صحراوية كتبت قصائده في الفترة من
نهاية الخمسينيات وحتي عام 1967، وهو ديوان حميم في مذهبه العاطفي
الرومانسي، وفي إيقاعاته العالية التي يتداخل فيها إيقاع التقفية مع
الإيقاعات الداخلية المتأتية من حساسية خاصة للغة والموسيقي. معظم قصائد
الديوان تذهب نحو النزعة الغنائية العاطفية، فترثي الحب الخائب أو تعرض
لصور من الغياب والفراق والبكاء علي الراحلين وما أشبه ذلك من تفصيلات
الموضوع العاطفي:
دمعتان
طفتا فوق دخان
وعلي رأس لساني
صبّتا طعم الألق
عندها أحسست قلبي
كنسيج من حرير يحترق
وهو
شعر لا نتبين الجديد فيه بالقياس إلي ما وصلت إليه القصيدة العربية
الجديدة في عقد الستينات الذي يمثل تفجّر الحداثة واتساع آفاقها وتفاعلها
مع الثقافة العالمية، أما تيسير فلا شك أنه يحسب ضمن الحداثيين علي المستوي
الثقافي والفكري، ولكن وعيه الحداثي لم يتح له ينعكس انعكاسا ساطعا علي
شعره، فبدا أقرب إلي اتباع رواد الحداثة، وخصوصا السياب في غنائيته
وأحزانه، وصلاح عبد الصبور في بساطته ولغته اليومية. ومع كل ذلك فموهبة
تيسير سبول موهبة منطلقة، وطاقته الشعرية طاقة غامرة متدفقة تنبئ عما هو
مختزن في روحه من وعود الشعر والكتابة مما لم يتحقق بسبب النهاية الفاجعة
التي اختارها. ولا شك أن قصيدته (مرحبا) تظل حتي اليوم قصيدة دافئة مؤثرة
في بساطتها وحرارتها وتدفق موسيقاها:
رغم أن الحب مات
رغم أن الذكريات
لم تعد شيئا ثمينا
ما الذي نخسر إن نحن التقينا
ابتسمنا وانحنينا
وهمسنا مرحبا
ومضينا
ليس يدري ما الذي نضمره
في خافقينا
مرحبا كاذبة نسكت فيها الناس
حتي لا يقال
آه يا عيني علي الأحباب
عشاق الخيال
.........................
وبشكل
مجمل يسير شعره وفق هذا النظام الغنائي المتدفق الغامر، ولكنه في خلاصته
لا يمثل الريادة الأهم في تجربة تيسير سبول. وعلي المستوي المحلي تبدو
تجارب: عبد الرحيم عمر وأمين شنار وحتي حكمت العتيلي وسليم دبابنة متقدمة
بعض الشيء علي منجز سبول الشعري. ولكن ينبغي أن نتذكر أن معظم قصائد هذا
الديوان مكتوبة وهو في سن العشرينات قبل إنجاز روايته الأهم: أنت منذ
اليوم، فهي قصائد شاب متفتح متعدد المواهب، ولا شك أنها تكشف عن خبرة
جمالية وثقافة مميزة بالقياس إلي عمره وإلي الحقبة التي كتبت فيها.
أنت منذ اليوم:
)أنت
منذ اليوم) هو عنوان الرواية القصيرة التي كتبها سبول في النصف الثاني من
عام 1967 وبدايات 1968، فهي تأتي علي ذكر حزيران وتحاكم الهزيمة وتعرض
لمقدماتها عرضا نقديا تحليليا يمتد من عام 1948، عندما كان عربي/ بطل
الرواية طفلا في القرية، واستمع إلي أحاديث شقيقه العائد من الجبهة عن نفاد
الرصاص وعن أوامر الانسحاب. ثم يتتبع عبر لقطاته الدالة مظاهر فساد الواقع
وخرابه علي مدي السنوات التالية التي أوصلت الأمة إلي هزيمة عام 1967.
ويتوقف عند صور من خراب الحياة الثقافية والأدبية، ومشاهد من خراب السياسة
الرسمية والحياة الحزبية والعنف الذي يتكشّف في ممارسات الحزبيين
والسياسيين ورجال المباحث الذي عرفهم عربي في غير عاصمة عربية. وتتسع
الرواية علي كثافتها لوجوه من تعرية الواقع في عواصم ومدن بلاد الشام ويشير
فيها إلي تأرجح تلك المدن بين وجوه الانقلابات والقمع وخراب الواقع
المجتمعي علي مستوي الأسر ومستوي التكوينات الأعقد. كما صور سبول معاينة
بطله المأساوي عربي للجسر المهدم علي نهر الأردن ووصف جثة الجندي المرمية
قرب الجسر التي تشير إلي رائحة الهزيمة، ولكنها لا تخلّ ببسالة الشهداء
وتضحياتهم.
حظيت
هذه الرواية القصيرة بقراءات شتي فهي أثر لكاتب منتحر ولا بد أن لانتحاره
معني، أي أن الانتحار أضفي علي الرواية وصاحبها فعل السحر، وحتي اليوم نحن
عاجزون عن تجريدها من كاتبها ومن سيرته، ولذلك فإن القراءات في معظمها
قراءات متعاطفة ابتداء ولا يمكنها أن تكون خلاف ذلك، خصوصا وأن الرواية
نفسها رواية شديدة التميز واضحة التجديد قياسا إلي نهاية الستينات. وهي من
أوائل الروايات التي تمردت علي الواقع عبر نقده وتعريته، مثلما تمردت علي
تقاليد النوع الروائي فكسرت انتظام الزمن وخرجت علي العناصر التقليدية
لتميل إلي نمط شفيف من الكثافة والاختزال، بحيث تغني اللقطة والصورة عن
الحكاية الممتدة، أو عن السرد التفصيلي المتتابع.
وهكذا
انفتحت الرواية علي أنماط من التقنيات المتداخلة الجريئة: من استخدام
الكوابيس والأحلام إلي تفتيت المكان والزمان، وتوظيف المفارقة والسخرية
والتناقض، واستخدام التقنية السينمائية عبر فعالية القطع والحذف والتجوال
بحرية بين الصور والمشاهد. إضافة إلي محاولة استيحاء التاريخ وتوظيف مواقف
تراثية تضيء رؤية الكاتب وكتابته، ولا يغيب عنها لمحات من الخصوصية المحلية
التي تتمظهر في عدد من الأمثال والأقوال الشائعة أو في تعبيرات محددة تعيد
الرواية استعمالها مع الوعي بدورها في السياق الروائي. كذلك تمتاز الرواية
علي قصرها بانشغال الكاتب بلغته الروائية التي تميزت بتعدد طبقاتها
ومستوياتها: من اللغة السردية إلي لغة الشعر، وحتي اللغة الإعلامية التي
تتضح عندما تتعرض الرواية للإذاعات ووسائل الإعلام، وكذلك تغدو الرواية
معرضا للغات طوائف وطبقات من البشر: من المثقفين والسياسيين والعسكر ورجال
المباحث والطلبة والحزبيين والعشاق وبنات الليل.... وهو في كل موقف يسعي
إلي تناسب اللغة مع سياقها وكأنه ينظر إلي ما نعرفه اليوم باسم تعدد اللغات
والأصوات.
ومن
اللافت أيضا استخدامه المبكر لتقنية: (الميتا سرد)، في الموقف الذي تحدث
فيه عربي مع بعض أصدقائه عن الشيء الغامض الذي يكتبه. كما اعتمد أيضا علي
تنويع الراوي بين الراوي المتكلم (عربي يروي عن نفسه) بما يقترب من حدود
السيرة الذاتية، وبين الراوي العليم أو كلي المعرفة الذي يروي بضمير
الغائب، وقد مزج بين الطريقتين في مواقف ومشاهد متقاربة متداخلة علي نحو
تجريبي لا تخطئه القراءة الواعية. ورغم كل هذا الكم من التنويع في التقنيات
ظلت الرواية محتفظة بلمسات من العفوية والتدفق، ولم تبد مصنوعة أو مركبة
لأداء تلك التقنيات الهامة، ولعل القارئ الذي لا تعنيه لعبة السرد في
مستواها التقني يتوقف عند تلك العفوية وذلك التدفق، بما يمنحانه للرواية من
يسر القراءة وكثافتها الانفعالية علي نحو تأثيري يشبه تأثير الشعر لا
السرد.
لفتت
(أنت منذ اليوم) رغم أنها نوفيلا قصيرة وليست رواية بالمعني التجنيسي عند
الدارسين والنقاد والقراء علي اختلاف طبقاتهم، فهي عندما تقرأ قراءة عامة
تبدو رواية مؤثرة ممتعة رغم بنائها المفكك، لأن هذا البناء جاء قصديا
واعيا، وليس نتاج غياب الأدوات السردية أو الجهل بقوانين الرواية، كما وفرت
للنقاد والمتخصصين فرصة معاينة صور شتي من التقنيات السردية واختبار
قيمتها ومدي ما يمكن أن تقدمه للرواية العربية الجديدة. وقد ذهب كثير من
النقاد أنها في طليعة روايات الحداثة، وذهب بعضهم إلي ما هو أبعد، أي إلي
أنها رواية ما بعد حداثية، بالنظر إلي فكرة التفكيك والتفتيت المهيمنين علي
منطوقها دون هوادة.
وفي
كل الأحوال يظل تيسير سبول وتظل روايته وشعره وسائر كتاباته وأحاديثه
الإذاعية مادة ثقافية مميزة تشير إلي أديب مبدع مر مثل نيزك وخلّف كل هذا
الضجي
إذا كان الرابط لايعمل لسبب ما, فالرجاء البحث في مجلد الكتب المحملة حتى اليوم:
or
No comments:
Post a Comment