شرف الدين ماجدولين
باحث واكاديمي من المغرب
تمثل الصلات المفترضة بين الذوات الانسانية انشغالا مركزيا في حقل الجمالية السردية; فالجوهر الحقيقي للشخصيات الروائية والقصصية والسينمائية يكمن في قدرتها على ترجمة وعي »خاص« بالآخرين, وتهيئة مجال رحب لممارسة التأويل الذاتي لـ»الكيانات« الغريبة, وتقديم حقل مثالي لمجاوزة الضرورة في استجلاب مهارات البيان, ومقومات الايهام, ومكونات التمويه والتلاعب التصويري. لا جرم, إذن, أن يطغى »سوء الفهم«, ومن ثم التوفيق بين الأضداد, على العلاقات بين الذاتي والغيري; بحيث تضحى أهداف السلب والإثارة, والمزج بين قيم العجائبي والطقوسي والغريب غير العقلاني, والغرائزي, المختلف في سمات تجليه, سمة مهيمنة على رصيد هائل من الأدبيات المنتجة بصدد »الأجنبي«. الأمر الذي جعل ماهية الآخر بما هو قيمة ذهنية »محايدة«, ووجود إنساني »مستقل« عن العواطف والأساطير والقيم الرمزية المضافة, شيئا مفقودا, أو هامشيا, يكتسحه الغموض والالتباس الصوريين.
وفي مرحلة شديدة التعقيد من السيطرة المباشرة للغرب على البلدان الثالثية, جرى تشييد نمط من الإنشاء الأدبي يستهدف تكريس »علاقة نوعية« مع »الأهالي« (المحليين), تتميز بعدم توازنها, ولا عقلانيتها السافرة: إن الغير يتم انتاجه (أو اختلاقه) لضرورات البرهنة على عدالة النمط التحكمي الغربي, لتبرير العنف الموضوعي الممارس بقوة, ولتمجيد المثال الإنساني لحضارة الإمبراطورية, وربما لهذا السبب الأخير سيظهر للوجود- في مراحل متلاحقة- ما يمكن أن نسميه »متخيلا نقيضا« يسعى لبث تأثيره الجمالي المضاد لدى أوسع شريحة من المتلقين الغربيين, وتدريجيا ستصير أسماء كتاب كـ»سيزير« و»يلسون هاريس«, و»وول سوينكا«, و»آسيا جبار«, و»عبدالكبير الخطيبي«, و»أهداف سويف«, علامة على وعي أدبي مختلف, ينهض في مواجهة تراث الجماليات المونولوجية الغربية, ورؤية تصحيحية تنبعث من داخل لغة الآخر ذاتها. وعليه فإن الصوت الاستعلائي النافذ عبر حوارية وهمية, غير مكتملة القيمة, والهجانة السالبة للآخر, ستشكل الهدف النقدي المركزي لنصوص ما بعد الكولونيالية (المنتجة للمتخيل النقيض); في أفق تفكيك الوعي الزائف الذي شيدته كلاسيكيات السرد الغربي- لعقود طويلة- عن شخصيات الأجنبي: العربي أو الهندي أو الزنجي أو المسلم... سواء كانت تلك السرود انجليزية تنهل من تراث الفخامة الفيكتورية كما عند »جين أوستن« و»ثاكري« و»جورج أورويل« , أو فرنسية تنفذ الى المزاج العصري من باب الأدب الطليعي كما كانت كتابات »كامو«.
في مجموعة قصصية بعنوان »زينة الحياة« للروائية المصرية »أهداف سويف«, صدرت ترجمتها العربية منذ ثلاث سنوات(1), نعثر على حالة شديدة الخصوصية مما يمكن أن نطلق علية المتخيل النقيض, يتأسس على إنتاج غيرية مضادة للقوالب التصويرية الاستعمارية, في الآن ذاته الذي يشكل خطابا سرديا نقيضا للنزعة الذكورية أحادية الصوت. الغيرية هنا- إذن- ذات مستويين: ثقافي (عرقي), واجتماعي (جنسي); تتموضع فيهما الذات القصصية في مواجهة هيمنة مزدوجة, لكن الصورة الممثلة في النهاية لا تكاد تفارق نطاق المحلية; حيث تقدم تمثيلا إنسانيا أكثر عمقا في كشف تناقضات الوعي والسلوك الشرقيين, وأنفذ أثرا في تعرية اختلالات الرؤية الملازمة لهما.
تشكل »زينة الحياة«, من هذا المنطلق, استمرارا لمشروع »أهداف سويف« السردي, المنشغل ببيان اختلال النظرة التسطيحية للغرباء عن »الذات« الشرقية, ومحاولة لترسيخ وعي متوازن عن تلك الذات وعوالمها وتفاصيل تجاربها الحياتية الخاصة. والمجموعة القصصية في هذا السياق بالذات امتداد للأعمال الروائية والقصصية الأولى للكاتبة, خصوصا نصوص: »عائشة« (1983) و؛في عين الشمس« (1992), و»زمار الرمل« (1996), الموجهة بالأساس إلى المتلقي الغربي (الانجليزي تحديدا). حيث راوح القصد التصويري دوما قاعدة كشف الوهم التخييلي الغربي, واستبدال علاقات الغيرية المختلة بوشائج إنسانية أكثر صدقا في رصد التجارب الفردية, وأشد عناية بخصوصيات السياق الثقافي الحاضن لها.
تأسيسا على ذلك, لا يمكن للصور القصصية التي أنتجتها »أهداف سويف« إلا أن تكون آلية جمالية راجحة في تمثيل سوء الفهم, سواء في مستوى خارجي (بين المركز الحضاري وهوامشه المقموعة), أو في مستوى داخلي (محلي) بين ثنائيات أثبتت باستمرار رسوخها وتأصلها في بنية العلاقات الاجتماعية الشرقية (بين الذكر والأنثى مثلا, أو بين الفتى والشيخ...). والظاهر أن »الغيرية« بهذا المعنى تصير مدعوة إلى إيجاد صيغ منفتحة على التفصيلات المعقدة لنسيج الوعي الفردي والجماعي بالنحو الكفيل بتخطي الصور الشائعة للآخر المقولب سياسيا وثقافيا, إلى آخر »قريب« يقتسم مع الذات فضاء الألفة ذاته. ولا يعزب عن النظر في هذا المستوى أن »الغريب« و»المختلف« سيتحول إلى كيان اجتماعي يشارك الذات مسؤولية التعقيد وانعدام الفهم, واللذين يفضيان إلى التحريف الخطابي, والزيغ البلاغي.
هكذا على امتداد النصوص الثمانية في المجموعة القصصية, وهي: »زينة الحياة«, »ميلودي«, »شي ميلو«, »تحت التمرين«, »السخان«, »المولد«, »عودة«, و»أذكرك«; يظل الحضور الأنثوي (الطاغي) مرتكزا دراميا جوهريا في حبك الأحداث, ونسج السمات, وانتخاب الصور الممثلة للاغتراب, والضياع, والنفي المحلي. وفي المقابل ينقلب الحضور الذكوري الراجح (في تقاطبات القوة) إلى رمزية للضعف والغياب, ويتحول عنفه الموضوعي إلى سمة ؛عجز« وعدم فاعلية في السياق, ووظيفة هامشية مستوعبة لردود الأفعال المركزية. بتعبير آخر يتحول من وضع »الفوق« الى »التحت«, ويظل الحاجز اللاشعوري المفترض بين الذات والآخر (الذكر والأنثى) على الحال نفسه, بما يفضي لترسخ »القطيعة« وتأصل الفجوة الذهنية والعاطفية بينهما.
في نص »زينة الحياة« تتخذ العلاقة الغيرية, المبنية على »سوء الفهم«, صيغة الثنائي »الجنسي«, الذي تدعمه الخلفية العرقية والثقافية بين الزوجين المختلطين. بينما في نص »السخان« يجد التصادم القسري مبرراته داخل بنية الأسرة الواحدة, بين وعيين تفصل بينهما فجوة ذهنية غائرة, تكتنز صورها بعشرات التفاصيل عن الأحاسيس والاستيهامات والمرجعيات المتناقضة التي قد تبتدئ في مستوى أولي (قاعدي) بالسلوك الغريزي, ولا تنتهي بتباينات الألوان والمفردات والممارسات العقدية. ولعل مقارنة بين بعض الصور القصصية المنتقاة من النصين ومن غيرهما, قمينة ببيان طبيعة التكامل السردي في حبك مكونات »انعدام الفهم« في المجموعة القصصية.
تقول الساردة في أحد مقاطع قصة »زينة الحياة«:
؛فكرت في كتابة قصة عن هذين الأسبوعين, عن رحلتي الأولى إلى إفريقيا, عن محمد السنوسي وهو يحدثني بأدب جم عن مكانة النساء. كان مهذبا لأنني امرأة أجنبية, أوروبية, جئت في مهمة عمل, فيمكن أن أعامل كـ»رجل فخري« فكرت في كتابة قصة عن الطريق الطويل المستقيم في السفر إلى مايدجوري, والتوقف عند استراحات من الأكواخ لمضغ اللحم الذي كنت كثيرا ما أبتلعه صحيحا. والسنوسي يحدثني عن اللحم في أوروبا وكيف يذوب في الفم مثل الأرز باللبن فلا قوام له. أكتب قصة الأسد الذي لمحته بين الأعشاب الطويلة فطلبت من السائق أن يتوقف وقفزت من السيارة وصوبت آلة التصوير والتقطت صورة له وهو رابض«.(2)
تستدعي هذه الصورة بقوة نموذجا انسانيا مشهورا في الرواية الاستعمارية البريطانية, هو شخصية المثقف المحلي المبهور بكل ما يتصل بأوروبا, دونما تمييز, سواء كان هذا الشيء قصيدة لـ»بول فاليري« أو قبعة نسائية فاخرة.. الكل ينبعث من الخلفية الأسطورية ذاتها التي تجسر الهوة بين الوظيفة القمعية للأجنبي وإيحاءاته الرمزية المصطنعة. تذكرنا صورة أحمد السنوسي- هنا- بشكل أكثر تحديدا بشخصية الطبيب الطيب »الدكتور فيراسوامي« في رواية »أيام بورمية« لجورج أورويل; لكن الجديد في الصورة الحالية أنها تونع في أرضية تخييلية مخالفية جذريا في مبرراتها ووظائفها ومقاصدها الجمالية, ذلك أن الهدف لم يعد مجرد الحفاظ على حد أدنى من المصداقية الصورية للسرد, برسم نموذج محلي لمثقف شديد التهذيب وسهل الإخضاع لمرامي الأطروحة, بل على العكس من ذلك تماما, ما تقوم به الساردة في الصورة المنتقاة, إذ القاعدة التمثيلية تتشكل انطلاقا من متخيل نقيض, ضدي, يسعى إلى تصحيح صورة الآخر المقولبة, وإبدالها بصيغة نسبية مفتوحة على الشكوك, وقابلة تقييم مخالف (غير كولونيالي). فأحمد السنوسي بالرغم من كونه إفريقيا, مهذبا, مبهورا بالنساء الأجنبيات, مغرما بتعداد فضائل الحياة في الغرب, فهو بالأساس رجل, ذكر, لا ينتمي إلى مستعمرة ملحقة بالإمبراطورية, وعلى هذا الأساس فهو يمثل كيانا فرديا مستقلا, يمتلك وعيا متناميا إلى مفارقة الحدود المسكوكة لشخصية الهجين, الغريزي, المغرق في البدائية. إنه كيان مأهول بالإحاسيس الفطرية, الشفافة, غير المرائية, التي تعكس النهم الأزلي للذات للتواصل مع الآخر (الأنثى), وامتلاكه, ومن ثم استبطان مغايرته الملغزة. وربما لجبلته تلك, بعنفها, ومباشرتها, ومفارقتها لمقتضيات التواصل, تنهال طبقة جديدة من الجليد على مجريات الصلة مع مقابلة الأنثوي النقيض, وتتعطل طاقات الإيحاء والتلقي بين الذات ومقابلها, لتنبعث من رماد الفضاء الموحش (إفريقيا) شرارة الغربة والغرابة, جاعلة الرمز الأنثوي يفارق كل ما يؤثث المحيط حوله, فتتخايل الى الذهن صورة »التنائي« الوجداني حادة, بليغة, موغلة في التغريب الرمزي: تتراجع فيها الأنثى الى رتبة المتابعة الحيادية, و»التقاط الصور« للآخر/ الذكر ذو الحضور الخامل والبطولة المثلومة, كما الأسد الإفريقي الرابض.
وغير بعيد عن رهانات الخطاب القصصي في إرجاع نسق الغيرية إلى مستوى الأصل الجنسي الطبيعي, نجد الساردة تلتجئ إلى إكساب تلك العلاقة مغزى محليا بالغ التعقيد يتغلغل فيه البناء التخييلي داخل زوايا معتمة من الأحاسيس والسلوكات الأسرية, بحيث يكاد يتحول التعرف القصصي عليها إلى نموذج للكشف الخيالي, ولعل أوضح مثال على هذا الضرب من الصور القصصية تلك المضمنة في نص »السخان«, التي يستكنه فيها التكوين السردي السلوك التسلطي غير المبرر للبطل »صلاح« تجاه الآخر/ الأنثى »فاتن« (أخته الصغيرة), وكيف يتحول التحفز الغزيزي لقمع الرغبة الجسدية, إلى لعبة تتهاوى أقنعتها الواحدة تلو الأخرى في فضاء الاستيهام الجنسي, فتنقلب لوعة امتلاك الجسد (أي جسد) إلى وازع لتدميره, وتعميق الفجوة النفسية مع كيانه:
؛لماذا تخرج (فاتن) دائما من الحمام حافية القدمين? هل هو اختبار? هل يختبره ربه? عادت من حجرتها بشعرها ملفوفا ببشكير وعبرت الصالة إلى حجرته.. سار إليها (صلاح) ببطء ثم وضع يده على رقبتها العارية. ابتسمت له, وشعر بساقيه ترتعدان. نظر إلى المكتب أمامها فرأى عليه مجلة مصورة...: »ما هذا«.
- هذا ? هذا فرنسي, مدموزيل سناء قالت إن أحسن طريقة لتعلم اللغة هي قراءة المجلات والقصص..
- أهذا ما نرسلك للمدرسة لتتعلميه? لتتعلمي قلة الأدب?...
- صلاح أنت لم تفهم.
هوت صفعة على خدها الأيمن. دار رأسها وانزلق عنه البشكير فانساب شعرها المبتل حول رقبتها«.(3)
تشخص الصورة القصصية لحظة الأوج من مسار التقاطب المتوتر لثنائية الرغبة/ الاستبعاد, القائمة بين البطل »صلاح« - المحاصر بالأفكار الطهرانية والاستيهامات الجنسية- وبين الأنثى المحرمة »فاتن«, المنطلقة بشفافيتها الجسدية, وشفوفها المعنوي. مما يجعل مشهد التصادم صاعقا, فضائحيا, ومجللا بالمفارقات; لا وجود لسنن تواصلي ثابت ومفهوم, إنما تسير الدوال الحوارية في سياقات متنائية, متنابذة, تنابذ الفطرة الإنسانية الرافدة لها بجدلية اللذة والألم, الحب والعنف, السكينة والصخب.
ومرة أخرى يتكشف للقارئ مظهر مخالف لنسق »الغيرية«, يصدر عن متخيل مناقض للصيغ المقولبة عن الذات والأجنبي. إن العلاقة هنا أكثر أصالة, من حيث قدرتها على تمثيل الخفي من سمات المغايرة الطبعية والسلوكية بين الكيانات الإنسانية في قاعدتها الدنيا: الذكر والأنثى داخل العائلة الواحدة; ففي هذا النطاق الضيق, الحصري, تتخايل الظلال الأولى للصراع الوجودي حول المبادئ والنوازع والمنافع, وبين المفاهيم والأفكار والأجساد; حيث تبرز للوجود شهوة السيطرة والاحتواء والغلبة, وهكذا تكتسب العبارة الحوارية الصادرة عن البطلة (»أنت لم تفهم« ) عمقها الصوري من تصاديها مع تراث التزييف والاصطناع التخييلين, الناشئة بصدد كل أنواع الغرباء والأجانب (الجنسيين والقوميين والعرقيين والعقديين). كما تتحول لحظة التماس الجسدي الملتبس بينهما إلى كناية كبرى عن الجدل الأزلي, بين الشهوة والإثم في عوالم الجسد والجغرافيا والأساطير: ثمة تشوف دائم إلى تملك الأجساد, والفضاءات, والأساطير القومية والدينية; لوعة يتم التعبير عنها بعنف وتطرف, بما يجعل الحلول العقلانية مستحيلة, إما التملك أو الخراب, معنى غامض وهارب هروب الفارق الزمني/ النفسي بين تحسس البطل لرقبة فاتن, وصفعه لها.
كل شيء في الصورة يحيل على التناقض الكياني والعاطفي, والمفارقة بين النوازع والمحصلات, بدءا بالتوجس الحائر تجاه فعل الاستحمام وانتهاء بالايذاء الجسدي. حيث إن الصورة تتجلى مثقلة بالإيحاء الرمزي لأسطورة آدم/ حواء: فتثبيت الفاعلين المركزيين (صلاح/ فاتن) على قاعدة التجاذب الجسدي الملتبس, وابراز التقابل بينهما عبر مستويات الكلام الحواري المفعم درامية, والموقف المخترق بالأحاسيس المتناقضة, والحركة الموقعة في المحيط المتوتر. ثم التأليف بين تلك المكونات التخييلية البليغة بصيغ المصاحبة الطباقية. كل ذلك يجعل الصورة اللغوية تنفذ إلى أعماق الرصيد الدلالي لأسطورة الغواية, ويكسبها قيما نوعية جديدة تثري آفاق المقابلة الصورية.
هكذا يمارس البطل (صلاح) وظيفته المركزية المنسجمة مع دلالته الوجودية والجسدية, والأمر ذاته بالنسبة لمقابله الدرامي (فاتن); والقصد هو تمثيل الصلة المعقدة بين ثنائيات: القدرة/ السحر, الكفاية العقلية/ الغواية, التعالي الذاتي/ السقوط الغريزي, التحكم/ الخضوع... التي تنغمر في ارتدادها الرمزي, المتفاعل في السياق, بظلال الإثم الأصلي (السقوط الآدمي). بما سينعكس في الصور القصصية اللاحقة في أكثر من مستوى.
في نص ؛المولد« نعثر على تنويع مختلف للاغتراب الجسدي والوجداني, تجسده أنثى مختلفة, متمردة, تتعرض لتجارب قاسية في تعاملها مع النماذج الذكورية. تبتدئ كما العادة بسوء الفهم وإهدار سياقات التخاطب, وتنتهي بموقف الاغتصاب الجسدي الصادم. وفي مقطع من القصة يتم تشخيص الموقف الاغترابي, عبر تركيب مجازي يولف بين الإحساس الذاتي للشخصية بالحصار, وبين التشظي الكياني وتشوه المحيط الخارجي:
؛نظرت عائشة الى الشريط المتبقي, الأشجار القليلة يعلوها الغبار, والعشب خفيف, مصفر اللون. المكان مغطى بحجارة الأسمنت وقضبان الحديد من جميع الأطوال, وأكوام الرمال. ليس هناك أحد, ظهر المكان وكأنه مشروع هدم أكثر منه مشروع بناء. تساءلت عن الضفادع التي كانوا يسمعونها في الليل, وصراصير الغيط أين ذهبت هل ارتحلت الى السدس المتبقي من الحديقة? كيف قسمت الأرض بينها, وهل تستطيع التعايش بسلام في هذه البقعة الصغيرة المتبقية? ربما لم يحدث, وتغلب القوي على الضعيف, وبقي في الأرض اليوم نوع جديد من الضفاضع الخارقة«.(4)
واضح أن ثمة دوما مقابلة ما, تشكل تقليدا في الصور المتواترة داخل النصوص القصصية المنتخبة, قاعدتها استبطان التنويعات المحتملة للغيرية, من منطلق تخييلي مختلف (نقيض). وقد شكلت دوما بناء متعدي الوظائف, متصادي المباني, مؤتلف المغزى الإنساني. فانفصام العلاقة بين الذوات المتغايرة جسدا وعاطفة وفكرا, يستمر في إنفاذ احتمالاته الصورية, عبر استثمار مكونات أسلوبية مضافة, تتخطى مكونات الشخصية القطب (الذكر والأنثى, الأهلي والأجنبي) وما يلتصق بها من امتدادات موضوعية, إلى السياق السردي الرحب الذي تندغم فيه صور الذات والآخر برمزية الفضاء المتآكل, وخفوت الفعل الحياتي, وكثافة الفراغ, والغياب الإنساني, وبمفردات ومجازات الوصف التفصيلي للكائنات الرمزية المتلاشية: الضفادع. والحاصل أن ما شرع في تخييله, بصوفه علامات حسية وذهنية ذات كنه بشري, سيتفاقم في السياق الصوري ليجتاح امتدادات الفضاء الحاضن للحقيقة الإنسانية المتنازع عليها (بين الذات والغير) بشفافية حادة, وبعذوبة جارحة.
تلك كانت أبرز ملامح النموذج التخييلي الذي عملت ؛أهداف سويف« على تشكيله, بصدد أوهام الهوية, وآفاق الغيرية; مثال راهن في سرديته على بلاغة أقل ايجازا, وأعمق استكناها لمنطق الاختلاف: بين الكيانات الإنسانية والفعاليات الوجودية للأفراد, والجماعات. ولعل ذلك الرهان الذي يبدو مرتكزا على منظور ثالث, حيادي, بين الصور البشرية والتجارب الحياتية, والمواقف والأفكار, أن يمثل العلة التي تجلت على أساسها نصوص »زينة الحياة« على نحو وما تجلت عليه من اتقان, في استلهام سمات جمالية جديدة, تسعف في تكوين صيغ بارعة لعلاقات التقابل والتقاطب, وإبداع صور غيرية تشيد »متخيلا نقيضا« لتراث الآخر الكلونيالي الذي ساد لمدة غير يسيرة من الزمن