في روايته الجديدة "نعناع الجناين" الصادرة مؤخرا عن دار الهلال يبني خيري شلبي روايته بناءً مراوغا، فإننا في زخم الحكايات والشخصيات الكثيرة التي يصعب في بعض الأحيان الإمساك بشجرة علاقاتها، ما أن نمسك بحكاية ونشرع في بناء حبكتها حتى نفاجأ بأن الحكي قد راوغنا وسار في مسار آخر، وما أن نشرع في القبض على بنية الحكاية حتى نفاجأ بأن لدينا بناءين وحكايتين، ثم يتخذ البناء شكل الضفيرة ذات الفرعين، ثم يلتحم الفرعان مرة أخرى. وكل ما نلتقيه من مراوغة ليس إلا حيلة من حيل الدهاء، دهاء إخفاء البنية الذي يبرع فيه خيري شلبي، فهو يبدأ الرواية من لحظة في زمن حاضر الراوي حفيد الجد "حسن عقل" فيما بعد قيام ثورة يوليو وإلغاء الألقاب، بل وزوال هيبة اللقب، حين صار كل عابر سبيل حاملا للقب فهو إما بك وإما باشا، أو على الأقل أفنديا محترما. وذلك بعد وفاة الجد الكبير لعائلة "العقالوة" الشيخ حسن عقل، الذي حلم ذات ليلة بأنه يُرضِع الأطفال قرآنا، فوهب نفسه لتعليم أطفال القرية القراءة والكتابة والقرآن، حتى صار له كُتَّاب ليس ككل الكتاتيب، فلم يكن الشيخ حسن عقل ممن يضربون بالعصا ولا ممن يُعلِّقون الكسالى في الفلكة، ولا ممن يرهبون الأطفال فيحفظون القرآن خوفا ورعبا، حتى صار كتَّابه " واحة للرحموت في صحراء كتاتيب الرهبوت ".
وتمضي الرواية بعد هذه البداية في لوحات متجاورة ومشاهد متتابعة لأهل القرية وخاصة عائلة العقالوة، أبناء الشيخ حسن عقل، وعائلة العماروة أبناء عمرو شيخ الخفر، ومشاهد متتابعة لأركان القرية، داير الناحية، قصر الأمير، الباحة، السوق، المصرف..إلخ.
أبو السعود أفندي ابن حسن عقل هو بطل السرد في هذه المشاهد واللوحات بلا منازع، بشخصيته الفريدة الحميمة الرائعة، أبو السعود أفندي الذي يُؤرَّخ لبلدته بثلاثة أحداث أهمها رحلته إلى دسوق لتفصيل أول بدلة تدخل القرية، وإنشاؤه مدرسة محمد فريد الإلزامية، أبو السعود أفندي الذي لا يتحرج من "حمادة الخرايجي" قريبه الذي يعمل بصرف مخلفات المراحيض، ولا يتحرج من "فرهود" فيبادره دوما بـ "يا أبا نسب" والذي يتحرَّج فحسب من مهرجان الهزأ الذي تشارك فيه مجموعة من النسوة ممن ينتمين إلى العائلة. أبو السعود أفندي الذي أفنى عمره في تعليم أهل القرية القراءة والكتابة، حتى صار يُكاتب الحكومة بشأن فصول محو الأمية التي يشرف عليها ، حتى صار لقب الأفندي لقبا مستحقا.
(حاتم حافظ)
No comments:
Post a Comment