بقدر ما أنتجت الرمزية من التباسات، فإنها أنتجت في المقابل نظامًا للعلامات خفضَ من سطوع الواقعية وغباء المحاربين باسمها. وفي الديوان الضخم (464 صفحة) «مقهى صغير لأرامل ماركس» للشاعر أشرف يوسف الصادر بالتعاون بين داري العين وشرقيات، يبدو أمر الرمزية أكثر تعقيدًا مما تصوره مالارميه صاحب أبرز بياناتها. فيوسف الذي استفاد تقريبًا من المذاهب الشعرية كافة في ديوانه يبدو على وعي تام بمرجعية تلك الهلوسات التي سارت شعرية الديوان تحت وطأتها، فتشكلت على هيئة زمن دائري قوامه اللغة الهشة والمناخات الغرائبية، لكن هذا الزمن الدائري الذي يبدأ منه الألم ولا ينتهي لا يسعى لعلاج مرضاه، بل يستقصي طاقات لوعتهم وبقايا ظلالهم التي تركوها في أماكن غارقة في عتمتها السحرية.
وتبدو رسالة الشاعر هنا بين أعلى التعبيرات الكاشفة للكثير من زيف لحظته. فالعصر الذي بدا متصالحًا مع قضاياه الكلية بدا في الديوان كواحد من عشرات الحقائق العارية. وقد شكلت شعرية الديوان أكبر افتضاح ممكن للمأزق الإنساني عبر تلك التمثيلات التي استغرقها ضمير المؤنث الذي غلب على معظم قصائد الديوان. وربما كانت درجات السخرية المتفاوتة من الأيديولوجيا واحدة من أبرز تلك التعبيرات. فالمقهى الصغير ذو الملامح الاعتيادية، الذي حمل الديوان اسمه، تجوهر حول صورة مفارقة عندما ربطه الشاعر بأنه مقهى «لأرامل ماركس» على ما تحمله التسمية من انتهاك لعصر كامل من الحروب العقائدية، ومع ذلك لم تتجاوز تعبيرات تلك الحروب كونها أحد تمثيلات انهيار اليقين. المقهى هنا لم يعد ملائمًا للاعتراف بالحب ص382، كما أنه يمثل «ذلك الركن المعتم» الذي يبدو الذهاب إليه قدرًا مقدورًا ص 232، وفي موضع أكثر جلاءً يقول أشرف يوسف: «كيف أقتل اشتياقي الحار/ لصوته في مقهى صغير يدعى أرامل ماركس/ ولست مهتمة على الإطلاق بهذا الماركس ولا بأرامله» وسيتبدى ذلك أيضًا في قصيدته «امرأة يهودية» التي يتعامل فيها بخفة مماثلة مع ليون تروتسكي ص 199.
أو
