تتجسد أهمية رواية الكاتب السوداني أبو ماجد عليش «سوداني في القاهرة» التي تقدم واقعا مختلفا محتشدا متشابكا يعكس المتغيرات التي لحقت بالمجتمع المصري والسوداني منذ الستينيات من خلال رحلة الراوي وشقيقته العانس من الخرطوم للقاهرة بحثا عن علاج يعيد لها النظر ويساعد كليهما علي مغالبة ندوب روح والهروب من مطاردة ساحتها أزمنة وأماكن علي أرض الواقع وتهويمات وكوابيس تطارد الراوي في صحوته ومنامه…وعبر الصوت السردي يعايش القارئ عالما روائيا يمتزج فيه الواقع اليومي بالخيالات والهلاوس والذكريات في زمن مستمر، لا هو ماض بعينه ولا حاضر بذاته، ولا يخص الراوي أو يقتصر علي أسماء وأماكن بذاتها ..فتاريخ وحاضر الراوي الذي لم يحدد له الكاتب اسما أو مهنة في صفحات العمل المائة والتسعين، فكانت بطاقة هويته إصابة بالحول ونظارة نظر سميكة وجروح وندوب ماض وخيالات وهلاوس وتقارير يرسلها لجهة مجهولة -ربما له هو شخصيا- وعذابات محاكمة سرية لأب ادخله معركة الوجود أو الفناء بدون إمداد بزاد واستعداد ثم انسحب عائدا لذاته، ومأساة الشقيقة التي لا تنفصم عن حالة القهر التي تعاني منها نساء هذا الجزء من العالم ولا عن المتغيرات التي لحقت بموطنها فتركت بصمة علي حياة وروح أهله- نساءً كن أم رجالا-، قابلة للتكرار والاستمرار أينما توافرت الظروف وتشابهت البيئة الحاضنة لها..
وعبر نفس الصوت السردي يقدم الكاتب كرنفالية حافلة بالمفارقات وعبثية الاحداث تعكس المتغيرات التي ألمت بالبشر في مصر والسودان بسبب متغيرات سياسية اجتماعية وتقلبات ثقافية صبغت لون الحياة وتلاعبت بمصائر الشخصية المحورية في العمل وشقيقته وبالشخصيات الثانوية التي تسهم في تحريك الحدث وإدارته بدهاء بالغ . فعبر هلاوس وتداعيات ذكريات الراوي الملبوس بإحساس المطارد ،وسطور تبدو منزوعة من تقاريره تتكشف مساحات محدودة من مأساة الشقيقة ومآسي النساء اللاتي قابلهن ليحصل علي متعة مُحرمة أو بزعم كتابة تقارير حول تطور الرغبات الطبيعية في موطنه(!!). فعبر صفحات تقاريره يكشف الراوي سيرتهن وسرائرهن بصورة تبدو عارضة وعفوية..و مع تصاعد الحدث وتتابع الصور العقلية وسطور التقارير تتشابك العلاقات والمواقف لتجسد توترات وعيوب ورداءة الواقع الذي ترسف بأغلاله شخصيات الرواية.