الشاعر السوري فرج بيرقدار: عدد السياط التي تلقيتها يكاد يعادل عدد الكلمات التي كتبتها!
القدس العربي
القدس العربي
طه عدنان
ولد الشاعر السوري فرج بيرقدار، الحائز مؤخرا علي جائزة الكلمة الحرّة الهولندية، عام 1951. وفي بداية السبعينات بدأت ميوله الأدبية واليسارية تتضح ليصدر في منتصفها كراسا أدبيا رفقة نخبة من المبدعين الشباب كان من بينهم الراحل جميل حتمل ووائل السواح وبشير البكر ورياض صالح الحسين وغسان عزت وموفق سليمان. هذا الكراس الأدبي كلف بيرقدار ثلاثة أشهر من السجن عام 1978. وبعدها بأقل من سنة نشر ديوانه الشعري الأول وما أنت وحدك عام 1979 والثاني جلسرخي سنة 1983 قبل أن يتفرّغ للعمل السياسي الذي سيكلفه السجن عدة مرات قبل أن يقضي في المرة الأخيرة قرابة أربعة عشر عاماً. ومن داخل السجن هرّب أصدقاؤه ديوان حمامة مطلقة الجناحين الذي طبع سنة 1997 وترجم إلي العديد من لغات العالم. وبعد معانقته للحرية في أواخر سنة 2000 علي إثر حملة دولية لإطلاق سراحه عاد إلي الشعر بديوانه الرابع تقاسيم آسيوية وأيضا من خلال مشاركته في العديد من اللقاءات والمهرجانات الشعرية بالعالم العربي وخاصة بأوروبا.
وعلي هامش مشاركته في أمسية شعرية احتضنتها فعاليات أنتويرب عاصمة دولية للكتاب وشارك فيها فرج بيرقدار إلي جانب شعراء من أوروبا وأمريكا اللاتينية كان لنا معه هذا اللقاء.
ولد الشاعر السوري فرج بيرقدار، الحائز مؤخرا علي جائزة الكلمة الحرّة الهولندية، عام 1951. وفي بداية السبعينات بدأت ميوله الأدبية واليسارية تتضح ليصدر في منتصفها كراسا أدبيا رفقة نخبة من المبدعين الشباب كان من بينهم الراحل جميل حتمل ووائل السواح وبشير البكر ورياض صالح الحسين وغسان عزت وموفق سليمان. هذا الكراس الأدبي كلف بيرقدار ثلاثة أشهر من السجن عام 1978. وبعدها بأقل من سنة نشر ديوانه الشعري الأول وما أنت وحدك عام 1979 والثاني جلسرخي سنة 1983 قبل أن يتفرّغ للعمل السياسي الذي سيكلفه السجن عدة مرات قبل أن يقضي في المرة الأخيرة قرابة أربعة عشر عاماً. ومن داخل السجن هرّب أصدقاؤه ديوان حمامة مطلقة الجناحين الذي طبع سنة 1997 وترجم إلي العديد من لغات العالم. وبعد معانقته للحرية في أواخر سنة 2000 علي إثر حملة دولية لإطلاق سراحه عاد إلي الشعر بديوانه الرابع تقاسيم آسيوية وأيضا من خلال مشاركته في العديد من اللقاءات والمهرجانات الشعرية بالعالم العربي وخاصة بأوروبا.
وعلي هامش مشاركته في أمسية شعرية احتضنتها فعاليات أنتويرب عاصمة دولية للكتاب وشارك فيها فرج بيرقدار إلي جانب شعراء من أوروبا وأمريكا اللاتينية كان لنا معه هذا اللقاء.
حزت مؤخراً علي جائزة الكلمة الحرة الهولندية، وهي ليست أول جائزة تنالها. إذ حزت قبل ذلك علي جائزة هلمان/هامت 1998 وجائزة نادي القلم العالمي 1999. لكنها أول جائزة تحوزها وأنت تتنفس هواء الحرية. فكيف كان إحساسك؟
المفارقات في حياتي، علي الأقل خلال عشرين السنة الأخيرة، متلاحقة كالأمواج، بيد أن هذه الجائزة شكلت الموجة الأكبر. ولكن بعد أن هدأت دوامة الخبر قليلاً، شعرت أن أوركسترا كبيرة تعزف موسيقاها من حولي، ثم ما لبثت أن اختلطت أصداؤها في الأعماق بكثير من الذكريات الدامعة حيناً والدامية أحياناً.
لقد (باركتني) بلادي بسياط لا يحصي عددها إلا الله. عدد السياط التي تلقيتها يكاد يعادل عدد الكلمات التي كتبتها.
وقد مضي الآن حوالي أربعة أعوام علي إطلاق سراحي، ولم يتح لي أن أقيم أمسية شعرية واحدة في أية مؤسسة ثقافية سورية. وأنا لا أقول ذلك علي سبيل الشكوي. بل من أجل إظهار لعنة المفارقة ما بين عقابات الداخل ومكافآت الخارج!!
ولو كنت الكاتب الوحيد أو السجين السياسي الوحيد في سورية لهان الأمر كثيراً. لكنَّ الحالْ.. أقفالٌ تنهرها أقفال.
لقد مرَّ في ذاكرتي، وأنا أتسلم الجائزة، أطياف مئات السجناء، وبشكل خاص الدكتور عبدالعزيز الخير الذي (كرَّمته) محكمة أمن الدولة العليا باثنين وعشرين عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية، وعماد شيحة الذي مضت علي اعتقاله الآن ثلاثون عاماً، أي حوالي ضعف عمره قبل الاعتقال.
قد نخمن، بصعوبة طبعاً، ما خسرته طوال قرابة عقد ونصف من الاعتقال. لكن ما الذي ربحته كشاعر وكإنسان؟
كشاعر.. تحرَّرتُ من كل القيود التي اقترح الشعرُ عليَّ أن أتحرر منها كتابةً وتفكيراً، ولأن الحرية المكانية والجسدية لم تكن ممكنة، فقد أسَّستُ لحرية داخلية، هي أوسع بكثير من السجون التي كنت في داخلها. أما كإنسان.. فقد ربحتُ من الخسارات ما يجعل المرء قادراً علي رؤية جوانب المأساة حتي لدي جلاده. بالطبع لست مسيحاً لأمتلك تلك الغفرانية الفائضة، فجوانب المأساة لدي آلاف السجناء الذين مروا بي أو مررت بهم، تجعلني أكثر إيماناً بضرورة البحث عن عدالة ما، تنصف الضحية من جلادها، وتنصف الجلاد ممن جرَّده من إنسانيته وجعله جلادا.
الزمن عنصر ضاغط بطبعه. لكنه يصير أكثر فظاظة أثناء مدة اعتقال طويلة كتلك التي كابدتها، فكيف صارعت وطأته؟ وهل أفادك الشعر في تحمل هذه الوطأة؟
إذا صح أن نعتبر السجن مكاناً مضادَّاً، فإن زمنه زمن مضادٌّ أيضاً. أما الشعر.. فهو بالنسبة إلي المعني الأقصي للحرية. ولهذا ربما كان سهلاً علي في أحيان كثيرة، عندما أضيق ذرعاً بالزمن الحجري، الصلب والهش في آن معاً، الذي يمثله السجن، أن أزدلف إلي عالم الشعر بأزمنته وآفاقه العصية علي الأسر والتدجين.
كان الشعر يأخذني إلي ذكريات قديمة وقادمة من جهة، وإلي ما يشبه النسيان من جهة ثانية. لقد تعلمتُ النسيان بصورة من الصعب تحقيقها خارج السجن.
لاشمس هنا/ ولهذا أجدني عارياً/ من الظلال./ ولا امرأة أيضاً/ ولهذا أجدني عارياً/ من نفسي./
من خلال هذا المقطع يحضر السجن عندك كشكل من أشكال القهر الذكوري بما يعنيه من حرمان من عنصر الأنوثة الذي يشكل رحم الحياة فما رأيك؟
حين كتب الشاعر برايتن برايتنباخ من جنوب أفريقيا عن تجربته في السجن. قال بما معناه: إن المرأة هي كل ما يبحث عنه السجين ومالا يمكن أن يجده أبداً.
أعتقد أن السجناء، بوصفهم يعيشون في جزيرة من الرجال، هم الأقدر علي فهم ما يقوله برايتن. ومع ذلك فإن حضور المرأة بالنسبة إلي، وأنا داخل السجن، كان يأخذ أبعاداً أوسع بكثير مما يخطر في ذهن الرجل كذَكَر.
في السجن تصبح المرأة أيقونة، تصبح موسيقا، تصبح أحياناً رحمة وحيدة وأخيرة.
قد لايريد السجين من المرأة إلا صوتها أو ظلالها أو معناها. المرأة في السجن هي الحرية والحرية هي المرأة.
الشعر رديف للانفلات فيما العمل السياسي، والحزبي منه بشكل خاص، مرادف للانضباط. فكيف تعايش الشاعر والسياسي داخلك أو بالأحري كيف تضادّا؟
لقد دفعتني الضرورات والإحساس بالواجب الأخلاقي والإنساني أمام نفسي ورفاقي وبلدي إلي التفرغ من أجل العمل الحزبي، رغم يقيني بأني خُلقتُ للشعر لا للعمل الحزبي أو التنظيمي. السياسة شيء مختلف، وليس بوسع أحد أن يثبت أنه بريء من السياسة.
في ظروف سورية أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، كان علي أن أختار ما يمليه علي ضميري، وهكذا توقفتُ، طوال سنوات تفرغي الحزبي، توقفاً تاماً عن كتابة الشعر. كان واضحاً لي أنه لا يمكن السير باتجاهين مختلفين في وقت واحد. ولهذا لم أعد إلي الشعر، أو بالأحري لم يعد الشعر إليَّ إلا بعد اعتقالي.
أنت شاعر دونما اعتراف من اتحاد الكتاب العرب. ألا تشعر بعد كل هذا الشعر وذاك الأنين ببعض الأسف لعدم الاعتراف بك كشاعر من قبل اتحاد كتاب بلادك؟
أعتقد أن اتحاد الكتاب العرب يعترف بي كشاعر، وهذا واضح من تقارير لجنة القراءة التي رفضتْ نشر مجموعة شعرية قدمتُها إلي الاتحاد في العام الماضي. تقارير اللجنة تمتدحني كشاعر، ولكنها تشير إلي أن براعتي اللغوية والفنية والبلاغية..إلخ، موظفة لشن هجوم كاسح علي القيادة السياسية في سورية، وتسيء إلي الانتماء القومي والديني أيضاً .
المسألة أن الاتحاد لا يرحِّب بانضمام أمثالي إلي عضويته، وأنا أيضاً لا أري ما يشرِّفني في الانتساب إليه في وضعه الراهن. علي أني لا أمانع في تقديم مخطوطاتي إليه، فإما أن ينشرها فتصل بيسر إلي القارئ السوري، وإما أن يرفضها ويفصح عن فضيحة كونه مؤسسة سلطوية بكل ما تنطوي عليه معاني السلطة في سورية من استبداد أعتقد أنه فات أوانه. صحيح أنه كان استبداداً مدججاً بالنياشين والأقنعة فيما مضي، إلا أنه الآن يثير الرثاء إلي حدّ يدفع حتي خصومه، يميناً ويساراً، للبحث عن حلول لمأزقه الذي يفخخ سورية بأكملها شعباً وسلطة، وحاضراً ومستقبلاً.
بعد زهاء عقد ونصف من الغياب، كيف وجدتَ عالم الألفية الجديدة؟ ألم تعش صدمة حداثة من نوع ما في عالم معولم طغت فيه التكنولوجيا علي المشاعر وعلي الشعر أيضاً؟
أعتقد أن أربعة عشر عاماً من الانفصال عن العالم في هذا الزمن، هي بالمعني النسبي، أطول من مئات السنين التي نامها أهل الكهف.
عند اعتقالي لم يكن في سورية انترنيت أو موبايل أو قنوات فضائية.. وحتي الفاكس لم أكن أعرفه. وقد كانت حادثة طريفة ومعبرة عندما اتصل بي هاتفياً أحد أعضاء اللجنة العالمية لمناهضة القمع في فرنسا، ليبلغني أن ثمة مؤتمراً صحفياً، بصدد الإفراج عني، ستعقده اللجنة بعد أربعة أيام في باريس، وطلب مني إذا لم يكن لدي مانع، أن أرسل بضع كلمات لقراءتها في المؤتمر. أجبته أن أربعة أيام لا تكفي لوصول الرسالة من سورية إلي باريس، فقال: يمكنك إرسالها عبر الفاكس، فسألته ماذا يعني الفاكس وكيف؟! كان عليه أن يشرح لي قبل أن أتدبّر الأمر.
في الحقيقة بقيت سنتين بعد الإفراج عني حتي استطعت أن أكسر الحاجز النفسي مع الموبايل.. ومنذ شهور قليلة استطعت كسره مع الانترنيت، هذا الزاجل السحري العجيب. ومع ذلك فإن صدمتي الأكبر كانت مع الحرية نفسها. صدمة السماء الزرقاء بكامل اتساعها، وبدون تلك البراقع من الأسلاك الشائكة التي كانت تغطي الباحات في سجني تدمر وصيدنايا العسكريين.
كنا كسجناء نحلم أن نحتفل بالألفية الثالثة خارج السجن، ولكن أحلام معظمنا للأسف أخذت هيئة الكوابيس.
ومع ذلك فإن السلطة شكلت لنا نوعاً من العزاء. لم نكن وحدنا خارج التاريخ.. السلطة أيضاً كانت خارجه، ولكني أشعر الآن بمرارة ذلك العزاء، فالسلطة ما زالت خارج التاريخ، وربما هي تتعزي الآن بأنها قادرة علي منع الجميع من دخوله!
يتحدث الكثير من النقاد عن الجسد في الإبداع. وأحياناً يفعلون بكلام غير واضح تماماً. فكيف تفهم الجسد الآن بعدم تحمَّلك كثيراً طوال وصلات تعذيب لا تُحتمل؟ هل أحببته أم كرهته؟
في مقطع من قصيدتي أنقاض قلت:
لا أعرف أيهما أكثر استبسالاً/ الروح أم الجسد؟/ كلاهما كان يصهل/ وأشهد أنهما لم يخذلاني/ حتي عندما العالم كله/ كان يعوي من الألم./
أجل.. كان جسدي وفياً لي إلي حد كنت أشعر معه بالذنب والخجل وضرورة الاعتذار. لا بل إني بكيت عليه في داخلي مرات ومرات. لقد تحمَّلت أجسادنا ما لا طاقة للخيول به. كانت أجسادنا هي أطلالنا التي نقف عليها، وخيولنا التي تشتكي إلينا عندما تمزِّق أعناقها الحمحمة والوهوهات، ثم لا تقبل التخلي أو الانسحاب. لكأنها كانت تقول: إما أن ننجو معاً أو نهلك معاً.
صديقي الأول الآن هو جسدي، وعلي أن أحميه وأرممه بأقصي ما أستطيع.
دخلت إلي السجن محفوفاً بديوانين من الشعر. لكن تهريب حمامة مطلقة الجناحين من داخل السجن ونشره، لتتم ترجمته إلي العديد من لغات العالم، ساهم كثيراً بالتعريف بك كشاعر وكسجين. أفلا تشعر بوطأة هذا الديوان؟ أو ربما ألا تشعر بوطأة قصائد السجين علي روح الشاعر؟
جزء كبير من قصائد هذه المجموعة كتبته في سنوات الجمر التدمرية، أعني في سجن تدمر الصحراوي، حيث كانت الظروف أشبه بصحراء تشهق رملاً ولا تزفر حتي سراباً. أحب هذه القصائد كما أحب جسدي، ولكني عندما أدعي للمشاركة في مهرجان أو أمسية ما، لا أفضِّل أن أقرأ منها. قصائد جارحة ولا تزال قادرة علي فصد الروح والذاكرة، وأنا بحاجة إلي شيء من النقاهة.. وإلي شيء من التأمل والبحث في أعماقي عن لغة مختلفة ومناخات مختلفة، وأشعر أني لم أصل إلي ما أريد علي نحو أرضي عنه.
بهذا المعني بتُّ أتضايق من الحواجز التي أقامتها قصائد السجن في البداية من أجل حمايتي وتوازني، ولكني أشعر الآن بأنها حواجز للمنع والحصار.
في الواقع ليست جميع القصائد علي هذا القدر من اللعنة، فقد نجحت أن أكتب خلال سنوات سجني في صيدنايا قصائد من نوع آخر أستغرب الآن كيف كان بإمكاني كتابتها داخل السجن. وأنا أراهن علي هذه القصائد، أو علي إمكانية أن أستلَّ منها ما أستطيع العبور عليه إلي ضفاف جديدة لاتعادي ولا تؤاخي الماضي.
سأتوقف معك قليلاً عند ترجمة عبداللطيف اللعبي التي أفلحت في نقل تجربتك الشعرية والسجنية إلي لغة موليير بشفافية لا تضاهي. إلام ترد ذلك؟ إلي حساسية اللعبي الشاعر أم إلي تجربة السجين السابق؟
عبداللطيف اللعبي شاعر كبير وتكفيه شاعريته ليكتب أو ليترجم علي أرهف ما تكون عليه الكتابة أو الترجمة، ولكني أعتقد أيضاً أنه ما كان لغير اللعبي، الذي خبر المحنة والتجربة، أن يتمكن من ترجمة الروح التي تنطوي عليها مناخات وهواجس قصائدي مثلما فعل، وكما سمعت من بعض أصدقائي من الشعراء الفرنسيين.
في لقاء مع الشاعرين ميشيل دوغي وفرانسوا دومينيك قالا لي مازحين: ترجمة اللعبي تؤكد أنك شاعر مهم، إلا إذا كانت ترجمته غير أمينة.
ما يربطني الآن بعبداللطيف اللعبي أبعد بكثير من الشعر والترجمة. أشعر أنه يؤمني في صلوات مفتوحة المحاريب علي الحب والشعر والضمير والآخر الرهيف العالي.
الآن وقد نفذت بشعرك من مملكة تدمر المدمِّرة، هل ارتضيت المنفي ملاذاً أم انها استراحة محارب؟
المنافي شبيهة بالسجون. إنها الوجه الآخر من الميدالية. وإذا لم يكن من خيار آخر غير السجن أو المنفي، فأنا من النوع الذي يمكن أن يتحمَّل قلبه السجن أكثر من المنفي. ولكن لماذا لا نأمل بطيّ الملفين معاً؟! أعني بإرغام السلطة علي طيهما أو بإقناعها إذا كان من سبيل إلي الإقناع.
بالنسبة إلي لم أتعرض حتي الآن لأي مضايقات تذكر مع أجهزة الأمن، ولهذا لا أجد أي دافع للتفكير في المنفي.
أنا الآن في هولندا ضيف علي مؤسسة شعراء من كل الأمم لمدة عام، وقبلها كنت ضيفاً علي مؤسسة هاينريش بول في ألمانيا، وبالطبع سأعود إلي سورية عند انتهاء مدة الدعوة، وإن كانت حالة الطوارئ لا تعطي ضماناً لأحد. فالسجون والاستدعاءات والمضايقات ومصادرة الحريات ما زالت قائمة في سورية، وإن كان القمع يأخذ الآن شكلاً مخففاً أو مرشَّداً!!
المفارقات في حياتي، علي الأقل خلال عشرين السنة الأخيرة، متلاحقة كالأمواج، بيد أن هذه الجائزة شكلت الموجة الأكبر. ولكن بعد أن هدأت دوامة الخبر قليلاً، شعرت أن أوركسترا كبيرة تعزف موسيقاها من حولي، ثم ما لبثت أن اختلطت أصداؤها في الأعماق بكثير من الذكريات الدامعة حيناً والدامية أحياناً.
لقد (باركتني) بلادي بسياط لا يحصي عددها إلا الله. عدد السياط التي تلقيتها يكاد يعادل عدد الكلمات التي كتبتها.
وقد مضي الآن حوالي أربعة أعوام علي إطلاق سراحي، ولم يتح لي أن أقيم أمسية شعرية واحدة في أية مؤسسة ثقافية سورية. وأنا لا أقول ذلك علي سبيل الشكوي. بل من أجل إظهار لعنة المفارقة ما بين عقابات الداخل ومكافآت الخارج!!
ولو كنت الكاتب الوحيد أو السجين السياسي الوحيد في سورية لهان الأمر كثيراً. لكنَّ الحالْ.. أقفالٌ تنهرها أقفال.
لقد مرَّ في ذاكرتي، وأنا أتسلم الجائزة، أطياف مئات السجناء، وبشكل خاص الدكتور عبدالعزيز الخير الذي (كرَّمته) محكمة أمن الدولة العليا باثنين وعشرين عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية، وعماد شيحة الذي مضت علي اعتقاله الآن ثلاثون عاماً، أي حوالي ضعف عمره قبل الاعتقال.
قد نخمن، بصعوبة طبعاً، ما خسرته طوال قرابة عقد ونصف من الاعتقال. لكن ما الذي ربحته كشاعر وكإنسان؟
كشاعر.. تحرَّرتُ من كل القيود التي اقترح الشعرُ عليَّ أن أتحرر منها كتابةً وتفكيراً، ولأن الحرية المكانية والجسدية لم تكن ممكنة، فقد أسَّستُ لحرية داخلية، هي أوسع بكثير من السجون التي كنت في داخلها. أما كإنسان.. فقد ربحتُ من الخسارات ما يجعل المرء قادراً علي رؤية جوانب المأساة حتي لدي جلاده. بالطبع لست مسيحاً لأمتلك تلك الغفرانية الفائضة، فجوانب المأساة لدي آلاف السجناء الذين مروا بي أو مررت بهم، تجعلني أكثر إيماناً بضرورة البحث عن عدالة ما، تنصف الضحية من جلادها، وتنصف الجلاد ممن جرَّده من إنسانيته وجعله جلادا.
الزمن عنصر ضاغط بطبعه. لكنه يصير أكثر فظاظة أثناء مدة اعتقال طويلة كتلك التي كابدتها، فكيف صارعت وطأته؟ وهل أفادك الشعر في تحمل هذه الوطأة؟
إذا صح أن نعتبر السجن مكاناً مضادَّاً، فإن زمنه زمن مضادٌّ أيضاً. أما الشعر.. فهو بالنسبة إلي المعني الأقصي للحرية. ولهذا ربما كان سهلاً علي في أحيان كثيرة، عندما أضيق ذرعاً بالزمن الحجري، الصلب والهش في آن معاً، الذي يمثله السجن، أن أزدلف إلي عالم الشعر بأزمنته وآفاقه العصية علي الأسر والتدجين.
كان الشعر يأخذني إلي ذكريات قديمة وقادمة من جهة، وإلي ما يشبه النسيان من جهة ثانية. لقد تعلمتُ النسيان بصورة من الصعب تحقيقها خارج السجن.
لاشمس هنا/ ولهذا أجدني عارياً/ من الظلال./ ولا امرأة أيضاً/ ولهذا أجدني عارياً/ من نفسي./
من خلال هذا المقطع يحضر السجن عندك كشكل من أشكال القهر الذكوري بما يعنيه من حرمان من عنصر الأنوثة الذي يشكل رحم الحياة فما رأيك؟
حين كتب الشاعر برايتن برايتنباخ من جنوب أفريقيا عن تجربته في السجن. قال بما معناه: إن المرأة هي كل ما يبحث عنه السجين ومالا يمكن أن يجده أبداً.
أعتقد أن السجناء، بوصفهم يعيشون في جزيرة من الرجال، هم الأقدر علي فهم ما يقوله برايتن. ومع ذلك فإن حضور المرأة بالنسبة إلي، وأنا داخل السجن، كان يأخذ أبعاداً أوسع بكثير مما يخطر في ذهن الرجل كذَكَر.
في السجن تصبح المرأة أيقونة، تصبح موسيقا، تصبح أحياناً رحمة وحيدة وأخيرة.
قد لايريد السجين من المرأة إلا صوتها أو ظلالها أو معناها. المرأة في السجن هي الحرية والحرية هي المرأة.
الشعر رديف للانفلات فيما العمل السياسي، والحزبي منه بشكل خاص، مرادف للانضباط. فكيف تعايش الشاعر والسياسي داخلك أو بالأحري كيف تضادّا؟
لقد دفعتني الضرورات والإحساس بالواجب الأخلاقي والإنساني أمام نفسي ورفاقي وبلدي إلي التفرغ من أجل العمل الحزبي، رغم يقيني بأني خُلقتُ للشعر لا للعمل الحزبي أو التنظيمي. السياسة شيء مختلف، وليس بوسع أحد أن يثبت أنه بريء من السياسة.
في ظروف سورية أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، كان علي أن أختار ما يمليه علي ضميري، وهكذا توقفتُ، طوال سنوات تفرغي الحزبي، توقفاً تاماً عن كتابة الشعر. كان واضحاً لي أنه لا يمكن السير باتجاهين مختلفين في وقت واحد. ولهذا لم أعد إلي الشعر، أو بالأحري لم يعد الشعر إليَّ إلا بعد اعتقالي.
أنت شاعر دونما اعتراف من اتحاد الكتاب العرب. ألا تشعر بعد كل هذا الشعر وذاك الأنين ببعض الأسف لعدم الاعتراف بك كشاعر من قبل اتحاد كتاب بلادك؟
أعتقد أن اتحاد الكتاب العرب يعترف بي كشاعر، وهذا واضح من تقارير لجنة القراءة التي رفضتْ نشر مجموعة شعرية قدمتُها إلي الاتحاد في العام الماضي. تقارير اللجنة تمتدحني كشاعر، ولكنها تشير إلي أن براعتي اللغوية والفنية والبلاغية..إلخ، موظفة لشن هجوم كاسح علي القيادة السياسية في سورية، وتسيء إلي الانتماء القومي والديني أيضاً .
المسألة أن الاتحاد لا يرحِّب بانضمام أمثالي إلي عضويته، وأنا أيضاً لا أري ما يشرِّفني في الانتساب إليه في وضعه الراهن. علي أني لا أمانع في تقديم مخطوطاتي إليه، فإما أن ينشرها فتصل بيسر إلي القارئ السوري، وإما أن يرفضها ويفصح عن فضيحة كونه مؤسسة سلطوية بكل ما تنطوي عليه معاني السلطة في سورية من استبداد أعتقد أنه فات أوانه. صحيح أنه كان استبداداً مدججاً بالنياشين والأقنعة فيما مضي، إلا أنه الآن يثير الرثاء إلي حدّ يدفع حتي خصومه، يميناً ويساراً، للبحث عن حلول لمأزقه الذي يفخخ سورية بأكملها شعباً وسلطة، وحاضراً ومستقبلاً.
بعد زهاء عقد ونصف من الغياب، كيف وجدتَ عالم الألفية الجديدة؟ ألم تعش صدمة حداثة من نوع ما في عالم معولم طغت فيه التكنولوجيا علي المشاعر وعلي الشعر أيضاً؟
أعتقد أن أربعة عشر عاماً من الانفصال عن العالم في هذا الزمن، هي بالمعني النسبي، أطول من مئات السنين التي نامها أهل الكهف.
عند اعتقالي لم يكن في سورية انترنيت أو موبايل أو قنوات فضائية.. وحتي الفاكس لم أكن أعرفه. وقد كانت حادثة طريفة ومعبرة عندما اتصل بي هاتفياً أحد أعضاء اللجنة العالمية لمناهضة القمع في فرنسا، ليبلغني أن ثمة مؤتمراً صحفياً، بصدد الإفراج عني، ستعقده اللجنة بعد أربعة أيام في باريس، وطلب مني إذا لم يكن لدي مانع، أن أرسل بضع كلمات لقراءتها في المؤتمر. أجبته أن أربعة أيام لا تكفي لوصول الرسالة من سورية إلي باريس، فقال: يمكنك إرسالها عبر الفاكس، فسألته ماذا يعني الفاكس وكيف؟! كان عليه أن يشرح لي قبل أن أتدبّر الأمر.
في الحقيقة بقيت سنتين بعد الإفراج عني حتي استطعت أن أكسر الحاجز النفسي مع الموبايل.. ومنذ شهور قليلة استطعت كسره مع الانترنيت، هذا الزاجل السحري العجيب. ومع ذلك فإن صدمتي الأكبر كانت مع الحرية نفسها. صدمة السماء الزرقاء بكامل اتساعها، وبدون تلك البراقع من الأسلاك الشائكة التي كانت تغطي الباحات في سجني تدمر وصيدنايا العسكريين.
كنا كسجناء نحلم أن نحتفل بالألفية الثالثة خارج السجن، ولكن أحلام معظمنا للأسف أخذت هيئة الكوابيس.
ومع ذلك فإن السلطة شكلت لنا نوعاً من العزاء. لم نكن وحدنا خارج التاريخ.. السلطة أيضاً كانت خارجه، ولكني أشعر الآن بمرارة ذلك العزاء، فالسلطة ما زالت خارج التاريخ، وربما هي تتعزي الآن بأنها قادرة علي منع الجميع من دخوله!
يتحدث الكثير من النقاد عن الجسد في الإبداع. وأحياناً يفعلون بكلام غير واضح تماماً. فكيف تفهم الجسد الآن بعدم تحمَّلك كثيراً طوال وصلات تعذيب لا تُحتمل؟ هل أحببته أم كرهته؟
في مقطع من قصيدتي أنقاض قلت:
لا أعرف أيهما أكثر استبسالاً/ الروح أم الجسد؟/ كلاهما كان يصهل/ وأشهد أنهما لم يخذلاني/ حتي عندما العالم كله/ كان يعوي من الألم./
أجل.. كان جسدي وفياً لي إلي حد كنت أشعر معه بالذنب والخجل وضرورة الاعتذار. لا بل إني بكيت عليه في داخلي مرات ومرات. لقد تحمَّلت أجسادنا ما لا طاقة للخيول به. كانت أجسادنا هي أطلالنا التي نقف عليها، وخيولنا التي تشتكي إلينا عندما تمزِّق أعناقها الحمحمة والوهوهات، ثم لا تقبل التخلي أو الانسحاب. لكأنها كانت تقول: إما أن ننجو معاً أو نهلك معاً.
صديقي الأول الآن هو جسدي، وعلي أن أحميه وأرممه بأقصي ما أستطيع.
دخلت إلي السجن محفوفاً بديوانين من الشعر. لكن تهريب حمامة مطلقة الجناحين من داخل السجن ونشره، لتتم ترجمته إلي العديد من لغات العالم، ساهم كثيراً بالتعريف بك كشاعر وكسجين. أفلا تشعر بوطأة هذا الديوان؟ أو ربما ألا تشعر بوطأة قصائد السجين علي روح الشاعر؟
جزء كبير من قصائد هذه المجموعة كتبته في سنوات الجمر التدمرية، أعني في سجن تدمر الصحراوي، حيث كانت الظروف أشبه بصحراء تشهق رملاً ولا تزفر حتي سراباً. أحب هذه القصائد كما أحب جسدي، ولكني عندما أدعي للمشاركة في مهرجان أو أمسية ما، لا أفضِّل أن أقرأ منها. قصائد جارحة ولا تزال قادرة علي فصد الروح والذاكرة، وأنا بحاجة إلي شيء من النقاهة.. وإلي شيء من التأمل والبحث في أعماقي عن لغة مختلفة ومناخات مختلفة، وأشعر أني لم أصل إلي ما أريد علي نحو أرضي عنه.
بهذا المعني بتُّ أتضايق من الحواجز التي أقامتها قصائد السجن في البداية من أجل حمايتي وتوازني، ولكني أشعر الآن بأنها حواجز للمنع والحصار.
في الواقع ليست جميع القصائد علي هذا القدر من اللعنة، فقد نجحت أن أكتب خلال سنوات سجني في صيدنايا قصائد من نوع آخر أستغرب الآن كيف كان بإمكاني كتابتها داخل السجن. وأنا أراهن علي هذه القصائد، أو علي إمكانية أن أستلَّ منها ما أستطيع العبور عليه إلي ضفاف جديدة لاتعادي ولا تؤاخي الماضي.
سأتوقف معك قليلاً عند ترجمة عبداللطيف اللعبي التي أفلحت في نقل تجربتك الشعرية والسجنية إلي لغة موليير بشفافية لا تضاهي. إلام ترد ذلك؟ إلي حساسية اللعبي الشاعر أم إلي تجربة السجين السابق؟
عبداللطيف اللعبي شاعر كبير وتكفيه شاعريته ليكتب أو ليترجم علي أرهف ما تكون عليه الكتابة أو الترجمة، ولكني أعتقد أيضاً أنه ما كان لغير اللعبي، الذي خبر المحنة والتجربة، أن يتمكن من ترجمة الروح التي تنطوي عليها مناخات وهواجس قصائدي مثلما فعل، وكما سمعت من بعض أصدقائي من الشعراء الفرنسيين.
في لقاء مع الشاعرين ميشيل دوغي وفرانسوا دومينيك قالا لي مازحين: ترجمة اللعبي تؤكد أنك شاعر مهم، إلا إذا كانت ترجمته غير أمينة.
ما يربطني الآن بعبداللطيف اللعبي أبعد بكثير من الشعر والترجمة. أشعر أنه يؤمني في صلوات مفتوحة المحاريب علي الحب والشعر والضمير والآخر الرهيف العالي.
الآن وقد نفذت بشعرك من مملكة تدمر المدمِّرة، هل ارتضيت المنفي ملاذاً أم انها استراحة محارب؟
المنافي شبيهة بالسجون. إنها الوجه الآخر من الميدالية. وإذا لم يكن من خيار آخر غير السجن أو المنفي، فأنا من النوع الذي يمكن أن يتحمَّل قلبه السجن أكثر من المنفي. ولكن لماذا لا نأمل بطيّ الملفين معاً؟! أعني بإرغام السلطة علي طيهما أو بإقناعها إذا كان من سبيل إلي الإقناع.
بالنسبة إلي لم أتعرض حتي الآن لأي مضايقات تذكر مع أجهزة الأمن، ولهذا لا أجد أي دافع للتفكير في المنفي.
أنا الآن في هولندا ضيف علي مؤسسة شعراء من كل الأمم لمدة عام، وقبلها كنت ضيفاً علي مؤسسة هاينريش بول في ألمانيا، وبالطبع سأعود إلي سورية عند انتهاء مدة الدعوة، وإن كانت حالة الطوارئ لا تعطي ضماناً لأحد. فالسجون والاستدعاءات والمضايقات ومصادرة الحريات ما زالت قائمة في سورية، وإن كان القمع يأخذ الآن شكلاً مخففاً أو مرشَّداً!!
إذا أردت مشاركة هذا الكتاب فشكرا لك, ولكن رجاء لاتزيل علامتنا المميزة
مع الشكر مقدما
No comments:
Post a Comment