يتبادر الى ذهن القارئ حين يرى في العنوان الفرعي لأحد الكتب المنشورة كلمة “سيرة”، أن الكاتب رجل مسن سطرته سنين العمر سكة لحكايات وأحداث كثيرة تستحق أن تروى، لكن أن يكون الرواي في العقد الثالث من عمره، كما هي الحال مع ماهر شرف الدين في كتابه الجديد “أبي البعثي”، الصادر عن دار الجديد 2005، هذا يعني أن للخطاب منتهى الصراخ، غير النابع لزوماً من استثنائية الكاتب. بل من قسوة بيئة الرواية حصراً “قدر أن تكون سورياً”.
عالم الطفل، ثم اليافع ماهر شرف الدين ابن المسؤول البعثي هو متن القصة. من أقصى الجنوب السوري في محافظة السويداء، حيث الخرافة نشيد أبدي في الجبل، الى أقصى الشمال في الجزيرة السورية، حيث تتمنى أن تكون حياتك خرافة لمدى جنون الحقيقة. يروي الكاتب باختصار جغرافياه المنزلية، ومن خلالها سيرة سورية في عهد البعث. حيث باتت السورية طقساً أكثر مما هي هوية. ثقافة فارة لا وطن يحمي. الوالد البعثي ذو السلطة المطلقة بفضل يده القوية الكاسرة، الأولاد الذي لا حول لهم مع قدر خلقوا له غير الحلم، الأم المجبولة بأمومتها زوجة البعثي التي تفتخر به. صورة طبق الأصل عن “الوطن” السوري. يقول شرف الدين: “يد أبي كانت السبب كنا نرى العالم من خلف هذه اليد الضخمة التي تضربنا بلا هوادة. يد أبي التي حجبت العالم عنا أصبحت حدود عالمنا الصغير والبأس. كنت كلما نام أبي بعد الظهر اختلس النظر لأرى يده فوق اللحاف. أختلس النظر اليها وأعرف أنها لا تنام. وكان إذا صدر منا صوت أثناء نومه، يصيح بنا جميعاً فنأتي مطأطين رؤوسنا الى مستوى يده، ولا نرفع وجوهنا حتى يفرغ من ضربنا، أو يمل. كانت الكدمات الزرقاء بصمات يده على وجوهنا”. وفي مكان آخر يقول: “كان أبي يقوم بالتفتيش اليومي في كتبي، كي يتأكد أني لم أعد أرسم أو أكتب الشعر”. ومن بوابة هذا العالم يفضح شرف الدين خواء كل الخطبات الدينية والسلطوية والسياسية، فالوالد العضو في الحزب الثوري الحاكم يسرق الكهرباء من الدولة و… و… و…. إلخ.
بعدما أنتج القمع والكبت وعياً مجتمعياً وثقافياً يستطيع الالتفاف على كل أنماط الصدام مع السلطة بمعناها المجرد، ويحول مقاومتها الى فعل متلطٍ وراء مهمات لا تبغي غير الزيف حقيقة. يصبح قول كل شيء وحده الذي لا يساوي قول أي شيء. حيثما فعل محمد شكري في روايته “الخبز الحافي” في فضح طهورية جيل الستينات والسبعينات بالكامل. يفعل شرف الدين بهتك سيرة الجيلين الأخيرين من السوريين في ظل حزب البعث. هنا بعدما أصبحت حوادثنا اليومية أقرب للنص منها الى الوقائع في ظل المعاشرة اليومية للشاعرية السياسية والاجتماعية وعلى المستويات كافة. فلغة الحياة اليومية البزيئة المحشوة بالمحرمات النصية مثلاً، حسب شرف الدين، وحدها قد تنفد من شبكة لغة اللامعنى السائدة. القول بسوريا المليئة بالطوائف المتناقضة المتعاركة حيناً، والمتماهية مع ذاتها المتصالحة أحياناً، وحده الذي يتباين مع النشيد القومي العربي السلطوي ذي الرائحة الواحدة. فمحرمون نحن من كل شيء ولم لا، شبقون نحلم كل يوم بمضاجعة الشحاذة وهذه هي الحقيقة، نكره طوائف غيرنا… هذه تربيتنا، عنيفون نقتل الحيوانات ونأمل إذابة أعداءنا بالأسيد… هذا واقعنا، لا نملك حلماً سوى الموت بسلام… هذا ما وصلنا له. ومن يقول غير ذلك لا يقول كل شيء.
لست وحدي
من طرف خفي، قبل نهاية النص، يروي الكاتب قصة السورية ناديا شيخي التي في الظاهر تعكاس الراوي مئة وثمانين درجة. فهي أنثى وهو ذكر، هي كردية وهو عربي، هي من الشمال وهو من الجنوب وهي… إلخ. لكن ناديا شيخي الفتاة المغتصبة من أبيها، والتي عاشت شحادة مع أمها، ثم شغالة من بيت الى آخر في بيروت. تشبه رغم كل اختلافها الظاهري الكاتب. ومراد القول هنا. كلنا في الهم شرق.
لا ينجو الكاتب، كأي سوري، من تلك القبضة التي ظلت تلاحقه طوال العمر إلا بموتها، لا موتها جسداً ودماً بقدر موتها ذاكرة ووعياً لهذا العالم. قبضة الأب ماتت فقط حين تحداها. مثلما ماتت الطائفية ومات العنف والجوع حين عرفهم وكتبهم. يقول الكاتب “محدقاً في يده التي رفعها لضرب أمي. سأكسرها لك. كنت أظن أنه سيصرعني بضربة واحدة. وأغمضت عيني في انتظار وصول يده. لحظة تمر. واليد لا تصل، لحظة ثانية، واليد بعيدة، ثالثة… أفتح عيني: تمثال رجل أسمر عيناه مليئتان بالنمل، له شاربان ليسا كثين جداً، لكن لمعانهما الفولازي مخيف. يده الكبيرة في الهواء تستعد للانقضاض على امرأة حمت وجهها بيديها، وبطنها بأن طوت رجليها. شعر صدره وأبطيه واضح لأنه كان في ثيابه الداخلية. عيناه موجهتان صوبي ولا تلمعان. إذاً، يده مصوبة نحو أمي، وعيناه نحوي: هكذا أنهزم أبي”.
في استدراكه الأخير يحاول الكاتب في شبه رد اعتبار للأب الذي بات اليوم مثالياً. ونصف فتح للحكايا المغلقة التي لا تليق بأدب يحلم يقول الكاتب: “مخجل أن أقول إني انتظرت حتى السطر الأخير كي أفكر في مصير أبي. كي أفكر بشكل الذبحة القلبية التي قد تصيبه عندما سيقرأ هذا الكتاب الملعون. لكن إذا قدر له إن ينجو، وأتمنى ذلك، سأركع أمام قدميه النحيلتين صاغراً كما يليق بابن أو مجرم، وسأقبل يده… اليد نفسها”.
عن جريدة “المستقبل”، 3 كانون الثاني 2006
رستم محمود (موقع قصيدة النثر)
إذا أردت مشاركة هذا الكتاب فشكرا لك, ولكن رجاء لاتزيل علامتنا المميزة
مع الشكر مقدما