سحب وتعديل جمال حتمل
شاعر مصري, ولد عقب النكسة بشهور, وأصدر ثلاث مجموعات شعرية خلال عشرة أعوام, تتميز عناوينها بطابع مختلف عن المألوف, يلفت النظر بشدة, فالمجموعة الأولي أطلق عليها' بلا مقابل أسقط خلف حذائي', والثانية ترفق بقرائه فأسماها' رجل طيب يكلم نفسه' أما الثالثة فقد عاد ليصدمنا بعنوانها' ضرورة الكلب في المسرحية' وتأتي المجموعة الأخيرة بعنوان يحتاج إلي حرف جر بسيط, كي يتسق مع نظام الجملة العربية, وهو' والأيدي عطلة رسمية' إذ يحتاج إلي' في' بين طرفي الجملة. لكن الشاعر يعمد إلي هذا الكسر المقصود كي ينبه القارئ إلي اختلافه وغرابته, ثم يقدم لديوانه بمدخلين يدعوان إلي التأمل, أحدهما فقرة يفترض أنها من العهد القديم لسليمان بن داود الملك, ولكني لم أعثر عليها في نشيد الإنشاد, وهي تقول' ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما, لم أمنع قلبي من كل فرح, لأن قلبي فرح بكل تعبي, وهذا كان نصيبي من كل تعبي' والمدخل الثاني يتمثل في إهداء الديوان إلي طه حسين, دون إشارة إلي أية علاقة به. ولهذه المداخل المتعددة, من عنوان منقوص, واستشهاد مرصود, وإهداء مبهم, دلالات مضمرة تستحق التأمل والتأويل, لكننا لا نود أن نقف عندها بمعزل عن النصوص ذاتها, فهي التي تغرس لها سياق القول, و تعزل قبلها لحن التقديم, و تشــتبك معها في تفاعل المعني حضورا وغيابا, إذ إن هذا اللون من الشعر يربطـك بما قيل و ما لم يقل علي حد ســواء. و لنقرأ مقطــوعته الأولي, و هي بعنوان يحتاج بدوره إلي توضـيح' حكاية حاسرة الرأس' يقول فيها:
'كان بناء بيوت/ يملأ الفراغ حجارة/ ويزينها بالنوافذ
يقيم في كل بيت سلما/ يؤدي إلي السطح/ وبالتالي إلي السماء
وحين ينتهي البناء/ يأتي بشر يملأون الفراغ
وغالبا ما كان يمر أمام بيوته/ يتسمع الضحكات ويعبر راضيا
..
يسمونه صانع بيوت/ ويسمي نفسه
خالق حيوات في غرف لها سلالم/ تؤدي إلي السماء
وذات مساء/ صعد إلي الجبال فلم يشاهد فراغا
كانت بيوته تهمس فيما بينها/ عن وباء لم يسمع به الناس بعد
فعاد إلي بيته حزينا ولم يتكلم.
قالت زوجته/ إنه كان يهذي/ ويحكي
عن بنايات تكبر أسرع من أصحابها
ثم تأمره أن يصلي راكعا للأبواب والنوافذ.
وفيما بعد/ سمع الجيران عويلا
فهرعوا في سراويل النوم إلي بيته..
في الصباح شيدوا مقبرة كبيرة/ وزينوها بالنوافذ'.
ومن الواضح أن الشاعر قد استغني عن الإيقاع الغنائي واستبدل به الإيقاع السردي في قصيدته النثرية المكثفة, وإذا كان قد سماها' حكاية حاسرة الرأس' فلعله قد قصد بها كناية متعددة الدلالات, قد نفهم منها الكشف والوضوح, أو الضراعة والابتهال, أو مجرد الصورة التشكيلية الجميلة, أو غير ذلك مما يتراءي لهوي القراء ومزاجهم في لحظة القراءة, فليس هناك معني قانوني لا يجوز تجاوزه في لعبة التخييل والتأويل. وما يصح في العنوان يصدق علي الحكاية ذاتها, فهي مقصوصة من قماش الرمز, تتحدث عن صانع بيوت يحرص علي تزيينها بالنوافذ, يري نفسه خالق حيوات تفضي إلي السماء دائما. وعندما يجد الوباء قد أخذ يفتك بسكانه يهرع إلي بيته, يهذي ويحكي حتي ينتهي به الأمر إلي مقبرة.. ذات نوافذ أيضا.
الحكاية تقدم أمثولة محكمة تتسع لألوان عديدة من الفهم والتأويل, فقد تكون تمثيلا للإنسان, صانع الحضارة وعمارة الكون أمام جبروت النهاية, حيث تتطاول بناياته شامخة أكبر من أصحابها وينتهي أمره إلي القبر, غير أنها بحركاتها السردية وتفاصيلها الحوارية تقدم نموذجا لافتا للتكوين القصصي الوجيز في دقته وبلاغته. وقد تكون أمثولة للفنان المبدع, الذي تصنع يداه عوالم مبسوطة علي الأرض ومشرعة نحو السماء, لكن البشر فيها سرعان ما يجتاحهم الوباء وتاركين له الحزن والهذيان والنهاية المحتومة. وقد تشير إلي غير ذلك مما تبتكره مخيلة القراء, وتلونه أفهامهم, لكنها في جميع الحالات تظل مفعمة بروح الشعر والشجن العميق, دون أن تكون بحاجة إلي نقرات الدفوف في إيقاع الغناء المتداول.
في محبة الأشياء:
يمتزج شعر جرجس شكري بعرق فلسفي ضارب في أصلابه, يتوق لمطارحة الوجود المطلق والرؤي الكلية الميتافيزيقية, لكنه في الآن ذاته يمسك بعناصر الحياة اليومية, مجتهدا في ترميزها, وتكثيف معناها, ليصل علي عكس ما تعود عليه الشعراء, من التجسيد إلي التجريد. ومع أن تكويناته تبدو مكتملة ومكتفية بذاتها, وقابلة للفهم الواضح علي المستوي المباشر, فإن معالجاته لأحوال الأشياء, واستنطاقه للأدوات المادية في الحياة, مثل الأطباق والمطارق والسكاكين, سرعان ما يكشف عن ثقوب نري من خلالها دلالات أبعد ورؤي أعمق مغلفة بضباب الشعر الشفيف. وهو عندما يخص الأشياء بمحبته يختار منها ما يبدو أن وظيفته تتعارض مع مفهوم المحبة, فينطق السكاكين بدفاع مشهود عن مهمتها في الذبح, في سخرية طريفة يشي بها العنوان اللاذع' النشيد القومي' قائلا:
'نحن السكاكين/ لنا شفرات تصرخ/ ومقابضنا ميتة
نعرف أننا نذبح ونمزق/ ولا تخدعنا محبة القصاب
نبتسم للذبيحة وهي تتألم/ فلا تكرهونا
نحن السكاكين الكافرة/ بكل محبة
خلقنا هكذا دون قلوب.
وضعوا مشاعرنا في نصل حاد
وأوصانا الحداد الخالق/ أن نذبح وبقوة
حتي لا نموت.
..
فلا تكرهونا حين نذبحكم/ نحن لا نعرف الألم
وأيضا لا نبكي/ فقط نذبح
فيرتفع النصل الحاد عاليا/ دون خوف.'
ومهما كان الكلام في ظاهره عن الأشياء, لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التفكير في الأشخاص, وربما كان المناخ الذي تنجح المقطوعة في تصويره أقرب لأفلام العنف في السينما التجريبية, وهي تعتمد علي تشكيل متخيل كلي, قادر علي تمثيل ما في الحياة المعاصرة من الرعب المدهش والعنف الدموي الرهيب. والمفارقة هنا أن السكاكين تصبح أناسا وهي تنشد معزوفتها الباردة, بمقدار ما يصبح الناس آلات حادة صماء للذبح بقوة ودون شعور كما نراهم في الواقع الملموس, فتبادل الأدوار بين الأشياء والأشخاص, واستمرار الحديث عن المحبة, يجعل الآلة أجدر بالتعاطف من البشر, ويعطي للأشياء درجة من النبل تتفوق بها علي الإنسان المتوحش, مما يفرغ الطاقة الكامنة في عملية التجسيد العيني من دلالتها التمثيلية, لتصبح معادلا مجازيا للشعور الباهظ بوطأة التشوه الأخلاقي للبشر. وربما نلمح في العنوان التهكمي' النشيد القومي' إشارة خاطفة لعقلية الجماعات المعاصرة عندما نرتكب أشنع انتهاكات لحقوق الإنسان وهي تحتمي بمفاهيم الوطنية والقومية والعدالة والحرية وغير ذلك من الدعاوي المثيرة للسخرية. علي أن النص يورط القارئ في التلبس بهذا الموقف عندما يقرأونه بضمير المتكلمين, فيصبحون بدورهم آلات منشدة, تدور في دوامة العنف الطاغية التي تجعل من كل واحد فينا ذابحا أو مذبوحا دون أن يكون له من الأمر شيء, ودون أن يستطيع الفكاك من الشفرات المسنونة, والكره المفروض الذي يتغني بالمحبة.
الأيدي في عطلة:
أما كيف تصبح' الأيدي في عطلة رسمية' كما يرد في عنوان الديوان, فإن القصيدة الأخيرة المكونة من سبعة مقاطع تتكفل بتمثيل ذلك, وحسبنا أن نتأمل المقطع الأول وهو يسرد حركة الزمن فيها لندرك رؤية الشاعر, إذ كان المجال لا يسمح بتأمل بقية مقاطعها التي لا تخرج عن النمط ذاته وهو يقول:
'شاهدت بعضهم يشيخ/ وذهبت مع آخرين إلي المقبرة
بكيت/ ومنحتهم خالص أحزاني.
أيضا شاخت الشوارع/ وتلاشت بعض البيوت
سترتي التي أحبها/ ذهبت في نهاية مأساوية
إلي المطبخ.
تصدعت جدران معدتي/ من القلق
وتشققت قدماي/ من الجري وراء المحبة
..
وما زلت/ أسكر في نفس الحانة
أنا ويدي اليمني/ التي تحمل الكأس
إلي فمي في كل مساء/ منذ عشرين عاما
وتنتظر أن أشيخ'
لابد أن نلاحظ الأثر القوي للغة الكتاب المقدس في أبنية الجملة الشعرية في المجموعة كلها وطبيعة التخيل وأنماط التصوير فيها, إضافة إلي تلك الحكمة الصافية التي تتقطر في ثنايا العبارات, فكأنه يقتبس منه وهو يقول' تشققت قدماي من الجري وراء المحبة, وما زلت أسكر في نفس الحانة' وكأنه ينهل من المنبع ذاته وهو يجسد في صور حسية عذبة مذاق الفكر الذي يبلغ درجة عالية من الوجد الصوفي والتجريد الكوني في آن واحد, وبينما يحكي مشاهد سردية قد تبدو مبتذلة في تمثيلاتها الخشنة, عندما يتحدث عن سترته المحبوبة التي انتهي مصيرها إلي المطبخ أو عن معدته التي تصدعت من القلق, نجده ينفذ من ذلك إلي إضاءة الروح بقبس من حكمة الوجود عندما تتجلي في تضاعيف الكلام المنثور المكتنز بعطر الشعر الحقيقي.
صلاح فضل - الأهرام
للتبليغ عن أي رابط غير فعال, الرجاء إرسال رسالة إلى:
abuabdo101@gmail.com