المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت 1999 | سحب وتعديل جمال حتمل | 120 صفحة | PDF | 7.86kb
http://www.4shared.com/office/ODIHQ18uce/__-__.html
or
http://www.mediafire.com/view/pl9ordcon2duc61/غسان_زقطان_-_استدراج_الجبل.pdf
مجموعة الشاعر الفلسطيني غسان زقطان الأخيرة "استدراج الجبل"* هي استمرار وتتويج في الوقت ذاته لتجربة شعرية ذات نكهة خاصة في الشعر الفلسطيني. هذه التجربة قوامها الصدق والترجيع والدفء. وهي تبعاً لذلك تبحث عن الشعر خارج الخطابة والشعار والحماسة التطريبية وتجنح إلى فتح الأبواب بين الماضي والحاضر وبين الأماكن المفقودة والأماكن الموجودة عبر لغة البوح الأليف والتسارر الندي المشبع بغنائية الفطرة وإيقاعات التذكر والنسيان. لكن زقطان لم يصل إلى ما وصل إليه بشكل مباغت أو بضربة واحدة بل جاء ذلك نتيجة دربة وجهد بالغين وثمرة اشتغال يناهز العقدين على اللغة والصورة والمفهوم الشعري. ذلك أن بدايات الشاعر كانت كغيرها جزءاً من القول الشعري الشائع الذي كان يتوسل الموضوعات نفسها التي سادت في فترة السبعينات والتي كانت تتكئ في شكل أساسي على النضال والمقاومة وفقدان الأرض والبيت وعلى الشهادة والحنين ورثاء الماضي.
لكن غسان زقطان سرعان ما أدرك بحدسه وقوة موهبته أن هذه العناصر على أهميتها لا تستطيع وحدها أن تنقذ الشعر أو تصنعه بل انها تكاد تتحول إلى مشاع مشترك بين الشعراء وإلى عبء حقيقي على الكتابة بدل أن تكون جناح اللغة وفضاءها الواسع. لم يكن على الشاعر أن يغيّر موضوعاته ومرتكزاته الوجدانيـة بالطبع وهـو الــذي يعيش آلام الغربة والحنين والمنفى ويحمل على كاهله ليس مسرح طفولته المقتول فحسب بل صرخات الأسلاف وماضي الجماعة وقصاصات الأحلام المخنوقة في المهد. لم تكن المشكلة إذاً في الموضوع أو الأفكار ولا في طبيعة المعاناة التي لا يستطيع الشعراء تبديلها كالثياب او اقتراضها من الخارج او افتعالها في شكل قسري بل كانت تتمثل في التعاطي مع تلك الموضوعات وهذه المعاناة بوصفها شعاراً للتحريض ومنبراً للخطابة واجتراراً لما تم قوله من قبل. لهذا السبب راح زقطـان وبخاصـة في مجموعته "بطولة الأشياء" ينزع عن القصيدة قشورها الخارجية ولواحقها الزائدة وعناصرها الطربية التزيينية وصولاً إلى المعنى والنواة والجوهر. لم يكن عليه بالطبع أن يغادر موضوعاته أو أن يخجل منها ولا أن يغادر الغنائيـة التي وسمـت قصائده منذ البداية بل إن ما فعله هو الإقتراب من الشعري عبر جزئيات الحياة المنثورة في التفاصيل، حيث البطولة هذه المرة ليست للمعجز والخارق ونصف الإلهي بل هي لليومي والبسيط والمألوف الذي يصنعه البشر العاديون.
مجموعة "استدراج الجبل" هي في الكثير من زواياها استمرار لشاعرية زقطان التي تجمع بين الذكاء والفطرة، بين الرغبة في الإحتفاظ بتلقائية الأشياء وانبجاسها العفوي وبين النمنمة والتطريز الغنائيين. والمجموعة تنجح في ذلك الجمع إلى حد بعيد. وإذا كان المكتوب، كما يقال في التعبير الشائع، يُقرأ من عنوانه فإن عنوان المجموعة اللافت يعكس في حد ذاته مقدرة الشاعر على المخاتلة اللغوية وعلى التغرير بالموجودات والظواهر. فإسناد الإستدراج إلى الجبل هو أمر شديد الغرابة والإدهاش من جهة كما أنه من جهة اخرى يختزل حاجة الفلسطيني إلى التغرير بالحاضر المأسوي من أجل إنعاش ذاكرته وردّه بالتالي إلى جذوره الأم وتاريخه الأول. ثمة لعبة إستعارية هنا تنجح في الإستفزاز والإثارة بمقدار ما تنجح في المزاوجة بين الطرافة والمرارة، بين الطفولة التي تنصب الأفخاخ للجبال كما للعصافير وبين الكهولة التي تنوء بجبل أثقالها الكسيح. لا تعود الأماكن عند زقطان قميصاً نتزين به أو شعاراً نرفعه في وجه المرحلة بل هي قدر مصيري ومغالبة مضنية مع النسيان وانبثاق دائم للوجوه التي نخالها قد تلاشت: "كلما قلت أمضي / تنادي عليّ الوجوه التي كدت أنسى / وتأتي البيوت التي كنت فيها / وأحنيت رأسي على طوبها / أو ممراتها / ونوديت من مائها / حيث تحبو إلى أبد الآبدين الغرف".
يحفل شعر غسان زقطان بمجمله بما نستطيع تسميته: لعنة السلالة. ثمة اتصال رحمي بمياه الماضي التي تعوم فوقها طفولة الشاعر كالقشة الهالكة، واتصال مماثل بأرواح الأهل والأجـداد الذيـن تنعقد أرواحهم بعضها حول بعض كسلسلة ثابتة. دائماً هنالك الأب والأم والأخوة والأعمام والأخوال والأصدقاء القدامى والعجائز الطاعنون في السن والموتى الذين يخرجون من باب الواقع ليرجعوا من شباك اللغة وكواها المحفوفة بالشجن. هؤلاء الذين كان الشاعر في مجموعاته السابقة يسميهم بالإسم يتحولون في المجموعة الجديدة إلى موتى وأطياف وأصوات مبهمة. لكنهم أحياء في الوقت نفسه إلى الحد الذي يجعلهم يطلّون برؤوسهم عبر الكثير من القصائد والمقطوعات. كأنهـم ليسوا ماضي الشاعر فحسب بل هم جزء لا يتجزأ من حاضره ويومياته ورؤاه. هكذا نلمح ظلالهم وأطياف عودتهم في غير قصيدة من المجموعة، مثل: "الرسائل لم تنفتح بعد / والميتون يعودون من فرجة الباب / كي يسرقوا المزهرية / والشرشـف البرتقالـي / والأغطية". أو قـول الشاعـر في مكان آخر: "والنوم ظل الموت / أول أرضه البيضاء / والموتى معي / يتنزهون أمام بيتي / عزّلاً ومسالمين". وقوله في مكان ثالث: "ليدخل الموتى عراة في المنام / شيء سيشبه أن نعيد إلى التأمل / غرفة الماضي وروح المزهرية".
العلاقة مع الموت في هذه النماذج وغيرها ليست علاقة مع المنقضي والزائل ولا مع الكابوسي والمخيف بل هي علاقة مع المستتر الأليف ومع الجذر الذي يواصل حضوره في الفروع. فالموت هو غرفة الماضي التي تتجمع في مزهريتها روح الأسلاف. والموتى يعودون أحياناً ليسرقوا المزهرية لا نكاية بالأحفاد أو كرهاً لهم بل لكي لا تقع في براثن الأعداء ولكي لا يتم تهريبها هي الأخرى كما حدث لكل الأشياء المماثلة. هكذا يتحصن غسان زقطان بموتاه كما بأحيائه وسائر أشيائه وكائناته من أجل حماية دفاعاته الأخيرة ومن أجل أن لا تسقط حصون روحه تحت سنابك النسيان.
وما قصيدته "ترنيمة الإبنة" سوى تعويذة لغوية في وجه الإضمحلال وانقطاع السلالة. فالإبنة في القصيدة هي الثمرة الضرورية لشجرة الماضي وهي الصوت الذي ينبغي أن يجدد حبال الحنجرة المهترئة وهي الذاكرة التي ينبغي أن تعصم الشاعر من النسيان، بما يذكر من بعض وجوهه بترانيم الشاعرة التشيلية غبرييلا ميسترال لابنتها التي لم تولد.
والحقيقة ان قصائد المجموعة برمّتها شبيهة بالترانيـم التي تهدهد الأسرة المكسورة للطفولـة. فهي في قصرها وبعدها عن الحشو والإضافات والإطالة الفضفاضة تتحول إلى نوع من الصرخات المكتومة التي تتموج في هواء الماضي أو إلى تشييع من على قمة الأربعين، حيث يقف الشاعر، لذلك العالم الذي يحتله الأموات وتسبح فيه كائنات الفتنة المنقضية. إنها قصائد موشاة، مدروسة الإيقاعات والقوافي ومنتقاة المفردات والتعابير من دون أن تفارق شحنتها العاطفية المغمسة بالوجد والمرارة العارمين. إضافة إلى الصور المضخّمة بالروائح والأصوات والمرئيات وتبادل الحواس حيث "للذهاب رائحة" وحيث "الصوت يلمس الأشياء" وحيث "الدروب لها صوتها" و"الخيول التي تعبّر الأفق منقوشة في الهلال". والمجموعة برمّتها استعادة باللغة والصورة لعالم تكاد خسارته تكتمل لولا مخيلات الشعراء.
شوقي بزيع-الحياة
عذرا للعلامة المائية البارزة, اضطررنا لذلك بسبب سرقة كتبنا.
للتبليغ عن أي رابط غير فعال, الرجاء إرسال رسالة إلى:
abuabdo101@gmail.com