المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت 1994 | سحب وتعديل جمال حتمل | 235 صفحة | PDF | 12.6 MB
http://www.4shared.com/office/96km8WJnba/__-__.html
or
http://www.mediafire.com/view/wo9t2oa1vjt0d2v/الحبيب_السالمي_-_متاهة_الرمل.pdf
شغلت العلاقة بين العرب و أوربّا أو بين المشرق و الغرب اهتمام كثير من الدارسين و المبدعين ، ومنذ الطهطاوي و تخليص الابريز في تلخيص باريس و الأعمال تتوالى مادحة جوانب أو قادحة في أخرى، متأملة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والفكري وتغذّي هذا التفكير دوافع متنوعة كلّها تسعى إلى تحديد هذه العلاقة .
ولو عدنا إلى الشعر لوجدنا قائمة الشعراء الذين تحدثوا عن العواصم الأوروبية تضمّ عديد الأسماء و الذين تحدّثوا عن باريس بصفة خاصة مثل الميداني بن صالح ( الليل و الطريق ) علي عارف (أبعاد) وأدونيس و نزار قباني ...إلخ
و الفنّ الروائي لم يتخلّلف عن الشعر بل لعله من أبرز الأشكال الأدبية التي اهتمّت بالموضوع فظهرت أعمال عديدة شغلت الدارسين زمنا طويلا من ذلك :
توفيق الحكيم : عصفور من الشرق
الطيب صالح : موسم الهجرة إلى الشمال
سهيل ادريس : الحي اللاتيني
و في هذا الباب صدرت رواية الحبيب السالمي " متاهة الرمل " (صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر -بيروت 1994) مساهمة في إثراء هذا التيّار من خلال قصّة طالب في كلية الآداب يذهب إلى فرنسا ذات صيف للبحث عن عمّه الذي انقطعت أخباره منذ مدّة .
و " متاهة الرمل " على درجة كبيرة من الأهمية تمكن القارئ من مجالات بحث متنوعة و من بين هذه المواضيع نجد " المكان " يحتل حيزا هامّا و ثريّا بالدلالات يلتقي مع مشاغل النقّاد في الدراسات الحديثة .
والمكان يكتسب أهمية في النقد الحديث لأنه لم يعد وعاء ومجرّد إطار تدور فيه الأحداث بل صار فاعلا في الأحداث ومحدّدا لأمور كثيرة تعتبر أساسيا في الرواية . وفي رواية الحبيب السالمي تعدّدت الأمكنة والفضاآت و لعبت دورا أساسيا ويمكن اعتبارها أهم عنصر إذ لو لم تكن هذه الحركة في المكان ما كان للرواية أن توجد، والمتاهة حسب التعريف اللغوي يمكن أن تكون نفسية و لكنها متصلة بالمكان أكثر وفي أغلب الأحيان يكون جديدا وغريبا عن الشخصية التائهة .
كان المكان واضحا و بكلّ دقّة و كان وظيفيا لو تغّير لتغيرت أشياء كثيرة في الرواية و هذه الفضاءات عديدة متنوعة بعضها جغرافي له مكان محدد في الخارطة و بعض الفضاءات الأخرى قصصية يمكن أن توجد في هذا المكان أو ذاك ، و لكننا سنعرض إلى المكان حسب تقسيمات لها صلة بالشخصيات فيحركتها المادية أو النفسية .
فضاءات الانتــقال
مدينة الراوي (العلا): مدينة تونسية تقع في ولاية القيروان تعيش على الفلاحة و إليها ينتمي المؤلف الأمر الذي يجعل العلاقة بينه و بين الراوي عميقة من غير أن تتحول الرواية إلى سيرة ذاتية .
لم يذكر الراوي من القرية غير بيته و المكان الذي جمعه مع أمه تحت شجرة التوت حين عرضت عليه المهمة التي سيسافر من أجلها إلى فرنسا فوظيفة المكان كانت قادحة للسفر حتّى يعود العمّ و يخلف الأب في احتضان العائلة و الاعتناء بالأرض . و قد تحضر القيروان وأزقة العلا في حديث الراوي عن بعض ذكرياته مع أبيه دون أن تلعب دورا أساسيا في الرواية .
باريــس : تركّز الاهتمام على العاصمة الفرنسية رغم ذكر مدن عديدة عاشت فيها شخصية العمّ على امتداد أعوام :1962 تولوز ، 1963 أنغوليم ، 1965 غرونوبل ، 1972 ديجون ، 1994 تور ، 1975 باريس 1976 نانسي، 1981 أفينون ،1982 نيم، 1983 باريس من جديد .(ص12)
و هذا التعداد يفيد عمق تجربة العمّ و توزعها على كلّ هذه المدن وبعض البلدان المجاورة في رحلات قصيرة .
و تحتل باريس أهمية خاصة لهذا تركزت عملية البحث عليها و لم تتجاوزها و قام المؤلف بالتركيز على عدد من الأحياء الباريسية ذاكرا أسماءها و أسماء الشوارع و المقاهي و المطاعم و محطات المترو : باربيس - بلفيل - 12 شارع أوغست تيريه 75019 باريس - شارع الغوتدور - شارع بوريغو - مطعم السعادة (باربيس ) - مقهى لافايوز - محطات (باربيس - باستيل -سان بول - أوتل دي فيل - الشاتليه -لي هال -سان دوني ...إلخ)
و إذا توقف الأمر عند مجرد ذكر محطات المترو فإن السالمي لم يصف لنا باريس ومعالمها المشهورة بل لا يرد ذكرها أصلا و لم يتوقف بالوصف إلا عند مكانين بارزين هما باربيس و بلفيل
باربــيس :رغم إقامة الراوي في فندق قريب من محطة ليون فإن أغلب الأحداث تدور في حيّ باربيس و هو حيّ مشهور بطابعه المميّز فأغلب سكانه من العرب و بالذات من سكان شمال إفريقيا (تونس و الجزائر و المغرب ) و المطاعم و المقاهي العربية متوفرة فيه كما لا تتوفر في حي آخر في باريس و فيه تجد كلّ أنواع المأكولات و التقاليد و الملابس والأغاني العربية حتّى لكأن المتجول يحسّ أنه موجود في تونس أو الجزائر أو الدار البيضاء :
* لما خرجت من محطة باربيس وجدت نفسي في سوق صغيرة شبيهة بالأسواق الشعبية في "الحفصية" و الحلفاوين" (ص35)
* ماسحو أحذية يتطلعون إلى العابرين و هم ينقرون على صناديقهم الخشبية الصغيرة بالفراشي .نساء يرتدين ملابس تقليدية جالسات على كراس واطئة خلف أكوام من باقات النعنع و البقدونس .رجال متجمعون حول علبة كرتون يقامرون و هم يلتفتون حولهم بعيون حذرة .متسولون انتصب أحدهم في مدخل المحطة وراح يدعو للمارة بالخير "حويجة لربي..ربي يتوب عليك و يغفر لك ذنوبك ... (ص36-37)
* أعترف أن الشارع كان مفاجأة بالنسبة لي .كنت أعرف أن متواجدون بكثرة في باربيس لكني لم أكن أتصور أبدا أنه يوجد في قلب باريس شارع مليء بالعرب إلى هذا الحدّ و لولا مخفر البوليس الذي يقع بالقرب من الساحة الصغيرة لخلت نفسي في شارع شعبي في تونس أو الجزائر .وجوه سمراء منغلقة.عيون سوداء حذرة.مقاصب كتب على واجهاتها البلورية بخطوط مختلفة "لحم حلال" مطاعم تعرض لأطباقها و حلوياتها الشرقية ..دكاكين لبيع الأشرطة الغنائية : عبد الحليم ، فريد الأطرش ، أم كلثوم ، علي الرياحي ، الهادي الجويني سميرة سعيد ، صليحة ، نورة الجزائرية ، فيروز ، ناظم الغزالي ،حميد الزاهر ، رابح درياسة ، شيخة حليمة...(ص37-38)
لكن الفكرة الأولى التي حصلت للراوي عن هذا الحيّ كانت عن طريق مدام ميشون :
" - الحيّ خطر قليلا .. انتبه إلى أوراقك ومالك " (ص31)
وممّا يؤكد خصوصية هذا الحيّ أننا لم نعترض شخصيات فرنسية ، واقتصر الحضور على شخصيات عربية و إفريقية و في أقصى الحالات يذكر شخصيات نكرات كالمسافرين والشيوخ و العجائز في الحدائق والمهمّشين ، و ليس في الرواية تواصل بينهم و بين الراوي .
* كانت الأرصفة خالية إلا من متشردين نائمين على المقاعد الخشبية و في مداخل العمارات أو واقفين تحت الأشجار و أمام المقاهي و الدكاكين يتطلعون حولهم بعيون منتفخة وهم يسعلون أو يحكون رؤوسهم (ص89)
* عبرت البهو الواسع و الطويل متطلعا إلى المقاهي و المطاعم والدكاكين و أكشاك الصحف .كانت كلّلها مليئة بالمسافرين عجائز و شباب .نساء و أطفال .كهول و مراهقون .جنود و سياح رنين أجراس .وقع أقدام .صرير أبواب ...(ص145)
بلـــفيل: لم يتوسع الحبيب السالمي في وصف هذا الحيّ بنفس الطريقة التي فعلها مع باربيس ، و قد يعود هذا إلى التشابه بين المنطقتين من حيث أهمية حضور المهاجرين من مختلف الجنسيات وحتـى لا يكرر وصف المشاهد المتشابهة و حتّى إن وصف بعض الشوارع فهو وصف خال من الدلالات و لا يكاد يكون وظيفيا كما ظهر ذلك في وصفه شارع بوريغو : " سرت مسافة قصيرة في شارع عريض تعبره السيارات بسرعة محاذيا جدار مقبرة لم أنتبه إليها في البداية ، ثم انعطفت إلى اليمين وانطلقت في زقاق لا يتسع رصيفه الضيّق إلا لعابر واحد و لما اجتزته كلّه نظرت حولي فاكتشفت أني في منتصف "بوريغو". كان شارعا قصيرا لا يتعدّى طوله بضع المئات من الأمتار و كانت بناياته قديمة و قليلة الارتفاع باستثناء عمارات ذات لون مائل إلى البياض تقوم في نهايته ..." (ص185)
وقد يكون الحضور العربي في حي بلفيل بدأ يتناقص وبدأ الحضور الآسوي يأخذ مكانه و السالمي يلحّ على ذلك في مشهد له أبعاد رمزية : " كان المكان خاليا إلا من طفل آسوي الملامح وهو يمسك بمسدس بلاستيكي برتقالي اللون .لمّا لاحظ أنني أنظر إليه رفع المسدّس و صوّبه إليّ للحظة " (ص185)
محـــطات المــتــرو : هي فضاآت تعتبر منغلقة رغم صلتها بالسفر و بالانتقال من مكان إلى آخر لأنها تحت الأرض وتمتاز بالممرات الطويلة الضيقة قد يشعر فيها المرء بالضيق والسالمي ركز الكاتب على ما تتميز به محطات المترو من تعقيد يجعلها أشبه ما تكون بالمتاهة ،يضيع فيها مثل هذا البدويّ رغم ثقافته و تكوينه الجامعي و هل الرواية في عنوانها و مضمونها إلا "متاهة" تعيد الراوي إلى نقطة البداية :
" عدت إلى الفندق متأخرا ، فقد قضيت وقتا طويلا في البحث عن المكان الذي يجب أن أركب فيه المترو في محطة الشاتليه . وبالرغم من أنني رسمت خريطة صغيرة للاستعانة بها في التنقل من الحيّ الذي تقيم فيه مدام ميشون إلى المكان الذي أقيم فيه فقد تهت في تلك الممرات الطويلة التي تتقاطع في عدّة أمكنة ." (ص25-26)
فهل تكون هذه المتاهة بمثابة ضياع الراوي في الحضارة الغربية فتصبح الرحلة بين مكان إقامته و مكان إقامة مدام ميشون على قصرها و وضوحها طويلة محفوفة بمخاطر الضياع و التيه ، و يتأكد هذا المعنى في آخر الرواية فرغم الطول النسبي للمدة التي قضاها الراوي في باريس وتمرّس خلالها بمحطات المترو فهو تائه يبحث عن طريق الخلاص من الممرات الطويلة : " و في محطة الشاتليه ركبت قطارا آخر. قضيت وقتا طويلا في البحث عن المكان الذي ينطلق منه ، فقد تهت مرة أخرى في تلك الممرات الطويلة و المتشابهة ." (ص231)
و يتجاوز وصف محطات المترو مجرّد سرد الأحداث و تتبع حركة الراوي و حالته إلى إقرار بالانبهار . فالكاتب و إن لم يصف معالم باريس المشهورة فقد ركز على انبهار الراوي بالحضارة الحديثة متمثلة في تطور وسائل النقل : "كانت محطة الشاتليه التي تلتقي فيها خطوط كثيرة أشبه بمتاهة كبيرة. أدراج واسعة و سلالم كهربائية . ممرات طويلة و ضيقة ذات سقوف واطئة تتوزع جدرانها الرمادية ملصقات إعلانية كبيرة .أرصفة عريضة تضيئها ألوان كابية قطارات تقف و تنطلق . أبواب تنفتح وتنغلق. رجال شرطة يسيرون بتمهّل و هم يتطلعون حولهم. متشردون ينامون على كراس خشبية . متسولون من كلّ الأعمار. باعة متجولون يعرضون بضاعتهم على العابرين . مغنون و فرق موسيقية صغيرة .وجوه بألوان و أشكال مختلفة .أصوات متداخلة أقدام تتسارع في كلّ الاتجاهات ..(ص26)
و مما لا شك فيه أن ضياع الراوي في محطة المترو كان فرصة لوصف انبهاره بهذا العالم المتشعب و المعقد الذي تسيّره أيد خفية مما جعل الوصف لوحات متتابعة لها دلالة أعمق من مجرّد الوصف . و قد يكون السالمي أراد أن يبرز أن الراوي لم يأت للنزهة و الاطلاع على معالم باريس في حدّ ذاتها لأن مسيرته محدّدة و حتىّ حين اهتمّ بمحطات المترو و ركز عليها وهو يطالعها على الخريطة كان منشغلا بتقدير المسافة التي تفصله عن باربيس أين يمكن أن يجد عمّه :
" تناولت خريطة المترو التي أخذتها من سعيد و أحصيت المحطات التي يمرّ بها القطار قبل أن يصل إلى باربيس ، إحدى عشر محطة ، قرأت أسماءها باهتمام كأنني أريد أن أحفظها : باستيل ، سان بول ، أوتيل دو فيل ، الشاتليه ، لي هال ، اتيان مارسيل ، ورويومير سيباستيول بول ، ستراسبورغ سان دوني ، شاتو دو ، غاردوليست ، غاردونور، قدرت أن ثلاثين دقيقة كافية لقطع المسافة إذا لم أضع في متاهة الشاتليه ... انتبهت إلى أن هناك محطات تحمل أسماء كتّاب و فلاسفة معروفين : فولتير ، إميل زولا ، فكتور هوغو ، ألكسندر دوما...(ص32)
بقية باريــــس : رغم الطول النسبي للمدّة التي قضاها الراوي في باريس فلم يصف لنا بقية الأحياء و المعالم المشهورة رغم أنها الزيارة الأولى له لهذا البلد و بإمكانها أن تحدث فيه دهشة لكنّ السالمي لم يحمل الرواي في جولة سياحية وإنما جعل الهدف يسيطر على بقية الأحداث و حتّى إن وصف أمرا ما أو لاحظ شيئا مثيرا فليتنزّل في مسار القصة ، و مثال ذلك أن ما شدّ انتباهه هو الحضور العربي في مستوى المكان من خلال تسمية مكان هامّ باسم قرية ليبية " بئر حكيم" :
" بينما كنت أتخيل تلك الشبكة المعقدة من الأنفاق الطويلة...لفت وقعت عيناي على اسم محطة أثار انتباهي :بير حكيم .تساءلت و أنا أغير قليلا من وضع جسدي :بير حكيم ؟ ..أليست قرية ليبية على الحدود المصرية ؟ ..استغربت اطلاق اسم قرية عربية مغمورة على محطة قطارات في مدينة كبيرة كباريس ...(ص33)
و حين مرّ بكتدرائية نوتردام لم يقدّم أي تعليق و كأنها بناية عادية و بدا و كأنه يعرفها من قبل في حين لفتت انتباهه الأشجار الكبيرة : (انطلقت في شارع واسع و خال من العمارات كان يحدّه يمينا نهر السان و يسارا سياج حديدي مرتفع تقوم خلفه أشجار ضخمة تشابكت أغصانها .عبرته كله ثم اجتزت جسرا آخر فوجدت نفسي أمام كاتدرائية نوتردام . تمشيت قليلا حولها متأملا النقوش على جدرانها و أبوابها ثم دخلت حديقة صغيرة خلفها ... ص89)
و هذا التغييب للجانب الفرنسي من باريس يجعل الرواية تقف عند حدود رحلة في الواقع العربي و الإفريقي الموجود في باريس ، وسيتدعّم هذا بالتركيز على الشخصيات العربية و الإفريقية و لا يتحدث الكاتب عن الشخصيات الفرنسية لذاتها بل من خلال علاقاتها مع الشخصيات العربية في الرواية .
فضاآت التواصل :
هذه الفضاآت عديدة و لعبت دورا أساسيا في دفع الحركة القصصية و كانت همزة الوصل بين الشخصيات ، يمرّ بها الراوي لينطلق في رحلته من جديد دفعا لمسار الرواية .
الفندق : رغم كثرة الفنادق في باريس فإن الحبيب السالمي لم يصف إلا واحدا متواضعا أسكن فيه راوي القصة و لكنه بقدر ما اهتم بتوثيق جوانب عديدة و تفاصيل كثيرة عن المكان الذي تتحرك فيه الشخصيات فإنه لم يذكر اسم الفندق و لم يحدّده إلا بقربه من محطة ليون ، و لعلّه لم يشأ أن يعطي الفندق قيمة توثيقية واكتفى منه بكونه نقطة انطلاق للبحث و مأوى في أوقات الفراغ . فحين أرادت مدام ميشون أن تربط الصلة معه من جديد كان الفندق نقطة التقاء و لعب كذلك دورا في جعل الراوي يتقاطع مع شخصيات أخرى كالحارس المغربي و الأمريكيين و المنظفة الجزائرية .
و ركّز على وصف بعض غرف الفندق لإبراز تواضعه من خلال وصف غرفته ثم غرفة امرأة مجاورة :
أ-) " كانت الغرفة ضيّقة جدّا . كان سقفها واطئا ، و كانت جدرانها مكسوة بورق رمادي تزينه نباتات خضراء . كانت تحتوي على خزانة قديمة و كرسي و طاولة و مغسل تعلوه مرآة مغبرة . كنت أعرف أن الفندق متواضع جدّا لكن لم أكن أتصور أبدا أنه توجد في باريس غرفة إلى هذا الحدّ ...أخذت أنظر إلى السرير كانت هناك لطخة سوداء على الموكيت تكسوها طبقة خفيفة من الغبار " (ص31)
ب-) و حين استمع إلى حديث بين رجل و امرأة تسكن إلى جواره خمّن أنها إسبانية ، أدرك أيّ نوع من الفنادق نزل :
" ... لم أحتج إلى كلام آخر كي أكتشف وظيفة المرأة و أعرف نوعية العلاقة التي تربطها بالرجل .انتابني احساس بالخيبة مصحوب بانفعال خفيف ...قلت في نفسي و أنا أغادر الفراش "يبدو أنني أقيم في فندق من نوع خاص ." (ص81)
المقاهي و المطاعم :حرص السالمي على وصف المقاهي بدقة متناهية ، كما في وصف المقهى الأول في باربيس الذي يملكه القبائلي فيستطيع القارئ أن يتصور المقهى بطاولاته و كراسيه والكونتوار و الصور المعلقة على الجدران ( أم كلثوم و عبد الوهاب و فرق كرة القدم ) ...و قد يفسر هذا التدقيق بأنه نوع من انشغال الراوي بتتبع التفاصيل و لكنه ليس وظيفيا في كلّ أجزائه لأن هذا المقهى ظلّ آخر الأمر نكرة لم يحمل اسما كما حملته بقية الفضاآت الشبيهة به .
مقهى " لافايوز ": ستكون له أهمية لأنه كان مكان التقاء مدام ميشون بعمّ الراوي .و سيمثل بالنسبة للراوي فضاء يجمعه بنماذج من المجتمع العربي و الفرنسي لا يجمعها إلا فضاء مشترك هو المقهى ، و هذه النماذج تمثلت في:
* النادل :" كان النادل شابا فرنسيا في عمري .كان لطيفا و بشوشا" (ص151)
*الرجل الكهل العنصري : " قال بصوت رقيق لا يتناسب مع جسده الممتلئ : - تونسي ، جزائري سينغالي ، مغربي ، لا فرق كلّهم أجانب ..فرنسا امتلأت بالأجانب ...السود و العرب غزوا بلادنا فرنسا صارت مزبلة العالم ...تحيا فرنسا حرّة مستقلة ..تحيا جان دارك ..يحيا نابليون ..تحيا جان دارك ..يحيا لويس السادس عشر ...يحيا شارل مارتال ..." (ص153)
* الشاب الجزائري إنه بربري عائلته من منطقة " القبائل " وهو لا يفهم العربية لأنه من الجيل الثاني ولد و نشأ في فرنسا وهو الذي سيدله على عمارات السوناكوترا .
أما المطاعم فمثلت نقطة التقاء بعدد وافر من الشخصيات العربية و تكاد لا تختلف عن المقاهي إلا بما تقدّمه لحرفائها .
مطعم السعادة : إنه في حيّ باربيس بعيد عن الشوارع الرئيسية اكتسب أهمية لأنه سيحضر في الأحداث مرّات عديدة و سيكون بحقّ نقطة انطلاق لبحث الراوي عن عمّه عبر شخصيات عرفته و يلعب هذا الفضاء دور مطعم و مقهى في آن واحد :
" كان المطعم صغيرا و قذرا .فوق المدخل علقت لافتة كتب عليها بخط رديء" مطعم السعادة " و على جدرانه التي تناثرت فوقها شقوق كثيرة صور ملونة لفرق تونسية لكرة القدم ." (ص44)
و هذا الوصف له أكثر من دلالة و مع بؤس المكان و قسوة الظروف يحضر الحنين إلى الوطن مجسما في صور نجومه في الرياضة الشعبية وهم يمثلون البطولات و يحملون راية البلاد دون تعصب لجمعية بذاتها .
مقهى الزنوج : إنه فضاء منغلق يكاد خاصا بالزنوج و يلعب وظيفة هامة لأنه يجعل الراوي يكتشف عالم الزنوج وسيجمع بينه و بين سامبا ومرياما :
"كان المقهى صغيرا و كان يشبه أغلب المقاهي العربية في الغوتدور، وكنت أنظر إلى وجوه الرواد الذين كانوا كلّهم زنوجا..." (ص199)
المقهى الفرنسي : لم يتحدث السالمي عن المقاهي الفرنسية و لم يحمل إليها الراوي باستثناء مقهى واحد في باربيس أشار إليه إشارة قصيرة ولكنها ذات دلالة عميقة تبرز الفارق بينه و بين بقية المقاهي العربية والإفريقية و رغم أن الانطباع كان من الخارج و سريعا إلا أنه يصدر أحكاما على المقاهي الأخرى :
(في نهاية البولفار توقفت أمام مقهى فرنسي ، بدا لي جميلا و هادئا من الخارج ... - ص55 -)
الفضاآت المنفتحة : (الحدائق و المقبرة ):
مثلت هذه الفضاآت مكانا عموميا مختلفا عن المقاهي لا يلزم المرء بشيء و الحضور فيها غير محدود بوقت و غالبا ما تجمع الشيوخ و العجائز و المحرومين الذين يبحثون عن الألفة أو عن اللذة كما فعلت الروسية نينا مع على الجندوبي أو كما فعلت البرتغالية فرناندا مع الراوي و قد يشعر الانسان في هذا الفضاء المنفتح بجمال الطبيعة على خلاف ما يشعر به في المحلات
الفضـــاآت الحمـــيمـة ( المنازل و الشقق):
تختلف هذه الفضاآت عن بقية الأماكن لأنها ارتبطت ببعض الشخصيات و جعلت الراوي يوغل في المكان و يعرفه عن قرب في أدق تفاصيله الحميمة التي لا تتيسر لسائح يقضي أيامه في الفندق و الشوارع و المقاهي . فالعمارات و الشقق تترجم نمط الحياة الحقيقي بعيدا عن أقنعة الشارع و الأماكن العمومية ، و هذه الرحلة في البيوت ستقود الراوي إلى شقق عربية و فرنسية و إفريقية .
شقة مدام ميشون : تتصف أغلب العمارات بالبؤس وتقع في باربيس و بلفيل و وحدها العمارة التي تقيم فيها مدام ميشون كانت خارج هذين المكانين و تبدو أحسن حالا مجهزة بالأنترفون : "عندما وصلت إلى العمارة توقفت قليلا و اخذت أتطلع إليها . كانت واطئة فهي تتكون من ثلاثة طوابق فقط و كان بابها الخشبي مدهونا بلون كستنائي . سويت ربطة عنقي ثم انحنيت على الأنترفون و أخذت أقرأ الأسماء ." (ص15)
و في وصفه بيت هذه السيدة الفرنسية ركّز السالمي على ما فيه من اتساع لأنه سيتقابل مع ما في بيوت العمال المهاجرين من ضيق ومظاهر بؤس : " دفعت الباب و اجتزت ممرا ضيقا و قصيرا يفضي إلى صالون واسع ...كان المكان يعبق برائحة غريبة، مزيج من رائحة التبغ المحترق و رائحة أثاث لم يعرض للشمس و الهواء منذ فترة طويلة و كان الصالون غارقا في العتمة..." (ص17-18)
ومع هذا لم يتردد الراوي في الاعتراف برهبته من المكان وهو إحساس يتجاوز الموقف من المكان ليشمل شعوره وهو يواجه الحضارة الغربية لأول مرة مواجهة حقيقية من الداخل :
" حين بلغت الطابق الثالث توقفت محاولا أن أتمالك نفسي . كانت تلك هي المرّة الأولى التي أدخل فيها بيتا فرنسيا ..فجأة انتابني إحساس بالخجل ممزوج بقليل من الخوف ..." (ص17)
شقة خليفة الخياري : كل الأوصاف التي جاءت عنها وعن العمارة التي تقع فيها تشير إلى البؤس و الإهمال و القتامة ، وتوحي تالتفاصيل بأنها قطعة من عالم عربي مغترب ، وهي تقع في الطابق الخامس من إحدى العمارات :
" كانت العمارة قديمة جدّا و كان بابها الخشبي مفتوحا عبرت ممرا ضيقا و معتما ينتهي بباب واطئ يعلوه زجاج مكسور، دفعته ببطء فوجدت نفسي في باحة صغيرة تخترق فضاءها حبال نشر عليها غسيل كثير توقفت للحظات تطلعت خلالها بحذر إلى النوافذ المفتوحة التي كانت تنبعث منها روائح أطعمة و أغنيات عربية ثم أخذت أتسلق درجا خشبيا تناثرت عليه أعقاب سجائر و علب كرتونية و أكياس بلاستيكية و قوارير فارغة ، ..." (ص64)
و يركز السالمي على غياب الإحساس بالأمن و الأمان بين سكان العمارة رغم انتمائهم إلى حضارة واحدة و تجمعهم روابط الماضي و الحاضر : " في الطابق الرابع انفتح فجأة أحد الأبواب و أطلت منه امرأة خمنت أنها مغربية ، تفرست في وجهي بعينين واسعتين كأنها تستغرب وجودي هناك ثم أغلقت الباب بقوة ...استدرت فشاهدت رجلا يطل برأسه من أحد الأبواب تفحصني بنظرة حذرة ثم سألني بلهجة بدت لي حادّة : - ماذا تريد ؟ ...إلخ
بعد أن دخلت أغلق الباب بالمفتاح و بقفلين كبيرن ثم قال قبل أن يستلقي على سرير واطئ تكدّست فوقه أغطية ولحافات ومخدات كثيرة : ـ هنا كلّ شخص يحمي نفسه بما يستطيع ..الحي خطر جدّا.. أعيش في هذا البلد منذ ثمانية عشر عاما و أعرفه جيّدا ...هنا يسرقونك و يقتلونك في وضح النهار..." (ص64-65)
و على خلاف شقة مدام ميشون فإن شقة خليفة الخياري ليست إلا غرفة واحدة تلعب أكثر من دور : " جلت بنظري في المكان ، كانت الغرفة التي يقيم فيها واسعة نظيفة في ركن قريب من النافذة الوحيدة مطبخ صغير و في ركن آخر طاولة عليها جهاز تلفزيون و مسجل كبير و بالقرب من الباب صندوق خشبي تراكمت فوقه حقائب قديمة و أمام السرير منضدة مستطيلة عليها قداحة و غليون و منفضة سجائر و مقلمة أظافر ." (ص66)
السوناكوترا : " هي عمارات يقيم فيها العمال المهاجرون "(ص159)
وهذه العمارات التي يبدو أنها تؤلف تجمعا سكنيا لا تختلف عن بقية منازل العمال المهاجرين : " قضيت وقتا طويلا أتنقل من عمارة إلى أخرى و من طابق إلى آخر عابرا ممرات هادئة و أخرى ضاجة ، متسلقا أو نازلا أدراجا ضيقة و قذرة كتبت على جدرانها بألوان وخطوط و أحجام مختلفة كلمات بذيئة و عبارات جنسية فاحشة وشعارات سياسية . قابلت عربا و سودا و أتراكا و برتغاليين وبولونيين و فيتناميين ..." (ص160)
بيت مارياما : " ألقيت نظرة داخل البيت ، كانت هناك طاولة واطئة عليها جهاز تلفزيون كبير و فوقه علقت على الجدار صورة ملونة لشاطئ مهجور و على الأرض حوض كبير ممتلئ بالماء ...كان البيت عبارة عن غرفة واحدة .." (ص189)
بيت رحمتو : " كان البيت عبارة عن غرفة واحدة ذات سقف مائل و كان أثاثه إفريقيا و كان مرتبا بذوق وعناية ..."(ص207)
هذه الفضاءات تعكس الفوارق الاحتماعية القائمة بين العمّال المهاجرين و أبناء البلد و هي و إن تعرّبت أو تأفرقت بفعل الديكور ونظام الحياة و الأكل و صارت عالما عربيا أو افريقيا مصغّرا نزل في عمارات شاهقة ، فإنها تميّزت بالضيق والإهمال وكأن السكان لا ينوون الاستقرار فيها فلا يولونها اهتماما كبيرا لذا كانت في حالة سيئة ، تترجم المستوى الحضاري وعقلية اللامبالاة والاهمال، وتوحي بالخطر وانعدام الأمن .
و الذي يجمع بين مختلف الفضاءات المغلقة سواء تلك التي تسكنها شخصيات عربية أو أخرى يتمثل في حضور القتامة بصفة كبيرة فالنوافذ قليلة والشمس غائبة و كلّ هذه الأجواء توحي بالكآبة و العزلة التي تعيش فيها مختلف الشخصيات ( مدام ميشون - خليفة الخياري - فرناندا ...إلخ )
و قد تتقابل هذه الأجواء الكالحة و رائحة الرطوبة و ضيق المكان بصفة واعية من الكاتب أو غير واعية مع شدّة الحرارة والحياة في الطبيعة في العلا كما جاء في أول الرواية مع ما في اسم العلا من الدلالات الإضافية : " ذلك الصباح مقترن في ذهني بالحرارة ، حرارة لاهبة و ثقيلة ...تجولت قليلا بين الحقول و لما لم أعدج أحتمل وطأة الحرارة فككت أزرار قميصي و انبطحت على الأرض تحت شجرة التوت التي أمام بيتنا ..." (ص5)
إن المكان في رواية الحبيب السالمي " متاهة الرمل " تجاوز كونه إطارا للأحداث و فضاءا تتحرك فيه الشخصيات ليصبح فاعلا في الرواية و محدّدا لتفاصيل صغيرة و كبيرة و لو كان المكان غير المكان لجاءت الأحداث مختلفة و كذلك تفاعل الشخصيات معها لأن هذا المكان بأبعاده الجغرافية والحضارية أعطى لمسيرة الراوي أبعادا هامّة وجعل الرواية تتجاوز مجرد البحث عن شخصية انقطعت أخبارها في فرنسا و لو انتهت الرواية بالعثور على العمّ لفقدت أغلب دلالاتها العميقة و لكانت قصة اجتماعية عادية جدّا . فهل سيكون للزمن في الرواية و للشخصيات نفس الدور و الأهمية ؟
محمد البدوي
محمد البدوي
إذا كان الرابط لايعمل لسبب ما, فالرجاء البحث في مجلد الكتب المحملة حتى اليوم:
http://www.mediafire.com/#ms1dzyv1tns14
or
http://www.4shared.com/folder/QqJXptBS/_online.html
No comments:
Post a Comment