'سأرى بعينيك يا حبيبي' هي آخر روايات القاص والروائي والكاتب الفلسطيني: رشاد أبو شاور. الرواية صدرت عن دار الآداب في بيروت، رواية أبو شاور مختلفة هذه المرة عمّا كتبه من روايات سابقة مسكونة بالهم والأحلام والمستقبل الفلسطيني.
جاءت الرواية خليطاً لمواضيع كثيرة أبرزها: الحب الذي يتجلى في معظم شخصيات الرواية باعتباره 'التيمة' التي تستقطب كافة الأسئلة الحياتية الأخرى، غير أن فلسطين برزت وأطلّت في الكثير من الصحفات من خلال معاناة الغربة والأسئلة الحياتية التي تطرحها، وهي الهموم بشكل رئيسي و'نحن مشردون حيث كُنا ومحاصرون، ومهددون'. وما دامت الأرض التي نعيش عليها غربة وفي ألمانيا أيضاً غربة، فلماذا لا نعيش فيها؟ كلمات وتعابير من هذا النمط، تتردد على ألسنة أبطال الرواية في أكثر من موقع. قضية الغربة والإنتماء يطرحها رشاد في إطار جديد: بالأسئلة التي تتناقلها الأجيال الفلسطينية من جيل إلى آخر، حيث يتشكل الإنتماء للفلسطيني للذي لم يولد في فلسطين ولم يرَ ترابها، وكأن المسألة متوارثة.
تأتي الرواية بشخصيتين من الشخصيات الرئيسية في الرواية(ولعل كل الشخصيات رئيسية): أبو حسن الطيب وأبو صخر السلطوي، وتصور الصراع بينهما، فالأول هو الطيب، المعطاء، المحب، والثاني وزوجته هما المتسلطان، الحاسدان، الظالمان، وحين يولد لأبو حسن ابنه (نجمة) يبادر أبو صخر لخطبتها لابنه صخر، كان ذلك عندما أخبره أخوه بولادة المولودة. يطرح رشاد هذه القضية التي كانت مطبقة في المجتمعات العربية ومنها الفلسطيني إلى وقتٍ قريب(وربما ما يزال البعض يعمل بموجبها حتى هذه اللحظة). يقطع صخر أحلام نجمة في متابعة الدراسة ويتزوجها، ويمارس عليها جبروته وتسلطه في كل لحظة. صخر العقيم لا يعترف بعجزه بل يتهم زوجته بأنها السبب في عدم إنجابهما.
رشاد أو شاور وككاتب أشبه بطبيب نفسي، يبني على عقدة صخر، انحرافه المتمثل في التشدد والأصولية، والأخيرة لا تأتي من فراغ أو من عقدة نقص صغيرة بالمعنى النسبي. عقدة النقص والفشل الدراسي لصخر يكونان سبباً رئيسياً للحقد الأسود الذي يملأ نفسيته على كل الناحجين في الحياة كالدراسة: شقيقته وطفاء التي حاول إيجاد العقبات في طريقها الدراسي وصولاً إلى إرسال أحد مريديه (فهو الأصولي الذي وصل إلى مرتبة الأمير في الجهاد) ليرش وجهها بماء النار. حقد صخر ينصب أيضاً على زوجته نجمة، فهو في صميمه يدرك قدرتها الإنجابية مقارنة بعجزه، فيكون التناقض بين الشخصيتين مشروعاً، ومعبر عنه في خطوات حاقدة وسلوك خاطئ لصخر ليس تجاه زوجته فحسب وإنما تجاه المجتمع. الشهيد غسان كنفاني كان قد طرح المسلكية المبنية على عقدة العقم والشعور بالعجز في روايته'رجال في الشمس' في شخصية'أبي الخيزران'عندما حاول تحميل من ماتوا من المهرّبين (بفتح الباء) إلى الكويت مسؤولية موتهم 'لأنهم لم يطرقوا جدران الخزّان'. رشاد أبو شاور يتوسع في استعراض هذا الشعور بالعجز ويبني عليه مسلكية مجتمعية واسعة الإطار، ليس تجاه الأقربين وإنما تجاه المجتمع بشكل عام.
هموم الروائي التي يطرحها أبو شاور في روايته الجديدة :' سأرى بعينيك يا حبيبي' تتناول استغلال الدين والذي باسمه تجري كل الشرور والمسلكية التسلطية، وكأن صاحبها هو جزء من الذات الإلهية في محاسبة البشر!هذه تتزاوج في الطرح مع التنوير الذي يوسع آفاق ذوي العقول المتفتحة لتأتي أحلامهم وأهدافهم الحياتية في إطار من السكينة والهدوء والإصرار على تحقيق الطموحات على قاعدة الحب، الذي يطرحه أبو شاور كرافعة للنفس الإنسانية، وكذخيرة حيّة تعمل على تعزيز الإصرار للسير في حياة علينا أن نعيشها بحلوها ومرّها وبأحداثها الكثيرة ومنها المفرحة والمبهجة ومنها المحزنة أيضاً، فحتى الأخيرة عندما تنعكس عن نفس سوية، فإنما تأخذ طريقها إلى التلاشي على قاعدة انتصار الحب في النهاية.
ماء النار لم يُصب وجه وطفاء لأنها أغلقت عينيها بمجرد أن شعرت بمحاولة إيذائها، أصيبت بحروق في رقبتها. عندما هنّأها حبيبها يونس بسلامتها. حمد الله أن عينيها لم تتأذيا وبقيت ترى فيهما. جواب وطفاء لحبيبها: حتى لو أصبت بالعمى'فسأرى بعينيك يا حبيبي'. . . هكذا خاطبت الحبيب: أنها القاعدة الإنسانية الأولى في الحياة، التي يعطيها أبو شاور ما تستحق. ذكرّني هذا بقدرة الفلسطيني على الحب رغم مآسيه ومعاناته على المستويين الخاص والعام. معاناة تصاحب الفلسطيني منذ ودلاته حتى يتوفاه الله. الفلسطيني يخاف من الضحك يحسد ذاته على الابتسام والضحك، فيطلب من الله أن تكون عاقبة ضحكه خيراً. رغم ذلك: الفلسطيني مثلما يكره الأعداء هو أيضاً يحب، وقادر على فعل الحب الإنساني بكل أشكاله وتجلياته في مختلف مراحل حياته. رشاد أبو شاور في روايته الجديدة يخضع لما ذكرناه، لكنه كان قادراً ببراعة على عكس هذه القضية في مسلك حياتي يكون أساساً قوياً للبناء عليه، وبكل ما هو جميل وإنساني رائع.
يطرح الروائي أبو شاور أسئلته الحياتية الأخرى في ذات السياق: تمرد وطفاء على كل ما واجهها، الغربة في الوطن (وهي قضية شائكة موجودة في الحياة) وبطريقة غير مباشرة: يطرح موضوع الوطن، مقارنة مع مكان الولادة في الغربة، حيث تتحول إلى شعور بالإنتماء، فالوطن ليس مفهوماً مجرداً: أنه الكرامة، والشعور بالعزة، وحرية التعبير والعيش كما يجب، ووجود فرص العمل وغيرها، وإلا تحولت الغربة إلى وطن!.
هذا ما جاء في الرواية علر ألسنة عائلة سلمى وولدها وابنتها: محسن وزبيب، فالأول لم يستطع العيش على تراب وطنه، وهرب إلى ألمانيا، ولحقته أخته. سلمى هي الشخصية الحكيمة في الرواية، القادرة على إبداء النصح لمن حولها. يبقى القول: أن الرواية تتطرق إلى البداوة وتحولها إلى الحداثة، وهي رؤيا واقعية في النهاية. الزمن في الرواية تطوري عبر الأجيال. الأسلوب جزيل ذو بلاغة لغوية وينطبق عليه: السهل الممتنع والتلقائي.
رواية 'سأرى بعينيك يا حبيبي' هي رواية أدبية بامتياز، وهي إضافة نوعية وادبية للرواية العربية. وشكراً للصديق العزيز والأخ رشاد أبو شاور على هذا العمل الروائي المتألق.
فايز رشيد
"القدس العربي"
No comments:
Post a Comment