Sunday, December 11, 2011

زياد عبدالله - بر دبي







«بر دبي» رواية للسوري زياد عبدالله... أولئك الوافدون الذين يروون حكاياتهم

حسان الزين

«بر دبي» (دار المدى، 2008) عنوان غريب، لافت، صادم، لعمل روائي. فالمقيم في الإمارات، وربما غيره أيضاً، يعتقد وهو يتصفح الكتاب، الذي يتألف غلافه من صور لأشخاص في مطعم أنيق ومجموعة سيارات متراصة كقطارات متلاصقة، أنه أحد «البرشورات» الدعائية لهذه الإمارة التي تشكل عنوان «النجاح والعمل والثروة والأحلام والعيش الهانئ». فدبي ما زالت مقرونة بكل ما يتعلق بالمال والأعمال، ومنها الدعاية والإعلان. والمنشورات فيها، التي تتناولها، الرسمية منها وما تصدره شركات القطاع الخاص ومؤسساته، ما زالت في هذا المجال. وما أكثرها، وكلها دعائية.
لكن رواية «بر دبي» للكاتب السوري الشاب زياد عبدالله تأتي من مكان آخر، من هامش بر دبي، إذا جاز القول. انها رواية، كما يقول الغلاف أيضاً، رواية أشخاص عاديين يجمعهم هذا المكان الذي يتسع لمئات آلاف الوافدين من بلدان العالم بلا استثناء تقريباً. ويحاول فيها الكاتب، مستفيداً من عمله الصحافي، تقديم صور متعددة عن العلاقات التي يحكمها المكان الواحد، وتشكل نسيجه الباطني. يكتب: «كل ما عشته وأعيشه خليط مخلوط بالأعراق والأجناس والأحياء والأموات، كل ما في دبي مختلط إلى حد يدفع للفرح والجنون في آن».
انطلاقاً من هذا تندرج «بر دبي» في تجربة التأسيس الأدبي الطالع من «الاجتماع» البشري في دبي، المدينة الجديدة التي يقيم فيها وافدون من بلدان العالم كله، وتتردد في فضائها عشرات اللغات. ولهذا، فإن العلاقات التي ينتجها المكان وارتداداتها النفسية والاجتماعية، ثم المكان نفسه، هي بطلة الرواية، التي عمل الكاتب على أمل أن تكون الشخصيات هي الأبطال. فبذل جهداً واضحاً لتكون شخصيات متصارعة من الداخل، مضطربة، تتخبط فيخرج ما في أعماقها، تصطدم بالواقع فتمضي إلى الأحلام والكوابيس. فالتغيرات الاقتصادية التي يفرضها المكان تمنع من مصادفة شخصيات مسطحة. والشخصيات دائماً في صدد التبدل وفق تراتبية تبدأ بالعامل ولا تنتهي برب عمله. وإن كان الجميع، في النهاية، متسوقين.
يتحرك الكاتب وعمله وفي الذهن ما تفرضه دبي من أنماط خاصة من العلاقات الاجتماعية، التي يأتي العامل الاقتصادي كمكون رئيس لها، من دون أن يكون مجرداً، أو رقماً لراتب شهري أو سعراً لسهم، بل هو مولد لحكايا ومصائر بشر من لحم ودم.
وقد اختار الكاتب لروايته شكلاً يشبه ذاك النسيج المتشعب، الذي يصعب الإمساك به كله. فتراه يكوِّن لوحتَه من هنا وهناك، من صور متفرقة لأشخاص مختلفين، يجمعها ويجمعهم خيطٌ رفيع خفي، أقرب الى أن يكون المكان نفسه، بر دبي. الرواية أشبه بكولاج، أو بورتريه من وجوه متعددة، قبل أن يكون لوجوه متعددة. وكأن الراوي يقول إن هذه هي الحياة في بر دبي، ودبي عموماً، حيث العلاقات متوترة وقاسية وشكلانية ومصدر خطر على الأشخاص؛ وحيث آلة العمل تصوغ العلاقات وتحكمها، وتطحن الإنسان. وتذله وتجعله في حاجة إلى إعادة إنتاج وتدوير؛ وحيث الجميع (شخصيات الرواية) في لعبة أبدية لتظهير تفاوت طبقي وشخصي شكلي ومستعار. وعنوان تلك اللعبة القسوة والوحشية والإهانة والضياع والشعور بتبديد الحياة وضياعها والعيش خارجها بعيداً من القيم المقيمة في البلدان الأصلية لأولئك الأشخاص.
فالمقيم في دبي، بحسب الرواية، موقــت ودائم في الوقت نفسه، مقسم بين دبي وبلد المنشأ، يعيش في دبي ويمارس حنينه في مكان آخر. ومع امتداد زمن إقامته تمسي الذكريات أمراً مختلطاً بين ما يعيشه في دبي وما شهده في طفولته ومراهقته، من دون أن تغيب عنه حقيقة أن المكان لن يكون نهائياً بالنسبة إليه حتى وإن مات ودفن فيه. وفي مقاربة أخرى تشكل دبي ملاذاً من نوع آخر قائم على استقرارها وازدهارها في مقابل كوارث المحيط بها، ولها بهذا المعنى أن تكون بر أمان أو هلاكاً وفق املاءات الشخصية نفسها.
تعيش شخصيات الرواية كافة أزمة المكان وعلاقاته من جهة، ومن جهة أخرى أزمة الغربة والابتعاد، لا عن الأوطان وإنما عن الحياة التي رسموها سابقاً لأنفسهم، وعن أرواحهم ومراياها وتوائمها، وعن القيم أيضاً وأيضاً.
تتجاور صور لوحة «بر دبي» فصولاً روائية تحاكي في بنائها روايات ميلان كونديرا، خصوصاً «كتاب الضحك والنسيان»، وإنما من دون تعقيد بنائي، أو بتعقيد أقل يتراجع مع التقدم في السرد والقراءة. فهي تكاد تكون قصصاً منفصلة متصلة في آن واحد، لولا اجتماع شخصياتها في مكان واحد، «بر دبي»، وعبور بعض شخصياتها عدداً من الصور والعلاقات. وكأن في الأمر محاكاة لخريطة شوارع دبي وأتوستراداتها، التي تزدحم أحياناً وتنفرج في أخرى. وكأن السرد انقضاض على القصة في لحظة ذروتها، أو عملية اقتحام بلا قصف تمهيدي. كل ما يعيق التصعيد الدرامي للحدث مستبعد، كل ما لا ينبع من الشخصية محذوف. الحكايا أولاً، البحث عن لذة السرد، وملاحقة ما يدهش الكاتب أولاً، ليتمكن من إدهاش القارئ.
إلا أن زياد عبدالله، الروائي، لا يسير دائماً على طرق تلك الخريطة، بل لا يسير عليها إلا نادراً. فعالم الرواية سفلي وهامشي، في الأماكن المكيفة، أماكن الكم والكيف، في النفسيات المأزومة والعلاقات القهرية. وفي هذا العالم، القلق والمتوتر، القاسي والهين، يحضر الجنس العابر والمقيم، الجنس البديل من الحب، ومن الحياة أحياناً، بل هو بحث عن المفقود وتعويضه الضائع والوهمي. يكتب: «على غير موعد، وفي غرفة نوم فيرونيكا، نفض يوسف بعضاً من غبار خيبته مع نورا، وشعوره بأنها امرأته الدخانية التي استحالت غيمة ستبقى تظلله وتقيه الواقع المؤلم للتحولات الطارئة التي داهمت حياته».



http://www.mediafire.com/?5qybx388vke9ri0



No comments:

Post a Comment