Sunday, November 20, 2011

حمدي البطران - ذكريات منسية

حمدى البطران كاتب قصصى فى الستين من عمره، عمل بالشرطة حتى وصل لرتبة لواء قبل إحالته إلى التقاعد. فضحت بعض رواياته مثل «يوميات ضابط فى الأرياف» فساد الشرطة وتغولها واعتداءها على القانون فأحيل إلى التحقيق لكشفه أسرار المهنة، ودافع الكاتب والنقاد عنه، لكنه ظل مقلا فى إنتاجه الذى لم يتجاوز أربع روايات ومجموعة قصصية، وتأتى هذه الرواية الجديدة «ذكريات منسية» لتوحى فى الظاهر بأنه قد أخذ يجتر عوالمه المشحونة بالصراعات المهنية والفكرية.
لكننا نفاجأ بأن راويها الرئيس «عمار راشد» لا يتوافق مع الكاتب سوى فى شئ واحد، هو أنه صعيدى مسكون بهاجس الابداع الأدبي، ومعنى ذلك أن تجربة الرواية فى جملتها متخيلة، لا يتقاطر فيها من حرقة الحياة ولا رماد معاناتها سوى تلك الذرات التى نتنسمها فى مناخ الصعيد الذى مازال يتحمس لوأد البنات لشبهة الزواج العرفي، والذى يتسغرق فى الحزن حتى يفقد شهوة الجسد. غير أن الكاتب يلجأ لحيلة تقنية ناجحة لكسر حدة المنظور الذكورى فى رؤيته، فيتيح لرواتين من الإناث ان تدليا بشهادتيهما عن الأحداث، احداهما فتاة صومالية مثقفة يلتقى بها الراوى فى قطار الصعيد وتنبهه بعد ذلك إلى موهبته الأدبية، والأخرى سيدة عراقية عاتية الأنوثة تلقاه عندما كان يعمل خادما عند أخيها المعوق فى بغداد أيام عزها، ثم تهاجر إلى مصر عقب غزو العراق وتتصل به مرة ثانية فيسمى ابنته على اسمها «فارعة». والكاتب يشطر روايته إلى جزءين دون ضرورة فنية، اللهم إلا محاولة اعطاء صبغة التوثيق عليها حيث يفصل بينهما عشرون عاما.
الذاكرة المصرية:
يستنفد حمدى البطران من ترسبات الذاكرة المصرية القريبة مواجع الفقد الممض، ولذع الشتات المهين، ونبض المواهب البازغة، لدى الانسان المصرى فى العقود الماضية بتجاربها الطاحنة، فالمرأة مثلا، خاصة فى الصعيد، تعتق الآلام مثل خمائر المسن، وتربى الوجع حتى تورثه لبناتها، فهذه أم الراوى بعد أن تفقد ابنها الأول فى فاجعة النكسة والثانى فى كارثة مديرية أسيوط عقب اغتيال السادات تنزوى فى حجرتها التى تخصصها للحزن «حرمت على نفسها النوم فى حجرة واحدة مع أبى، اخترعت لنفسها أشعارا حزينة وأناشيد من صنعها الخاص تنشدها عند البكاء، وكنا نسمعها فتقطع نياط قلوبنا، كانت ترتدى الملابس السوداء طبقة فوق طبقة، حتى الملابس التى تلامس جسدها كانت سوداء» وأفدح من ذلك، أن أخته محاسن التى ضاقت روحها بهذا المناخ الكئيب، تطلعت إلى خطيبها شعبان، من أنه بدوره هجر زراعته وأطلق لحيته فلم يستطع أن يلبى مطالب الأسرة فى المهر والتجهيز، فهربت معه إلى منزل شيخه واقترنت به عرفيا فيقول الراوي: «كنت أعلم أن ما فعلته أختى إنما هو نوع من التمرد على حزننا العميق المترسب فى بيتنا، كانت روحها تتوق إلى الفرح، حاولت ان تجده عند شعبان، ولكنه تخلى عنها «وكم كان من المؤسف أن يحاول الأب الاستنجاد بهذا الراوى كى يشاركه فى دفن أخته وهى حية. وعندما تضيق السبل بعمار فى وطنه يأخذ طريقه للهجرة البرية إلى العراق مثل ملايين المصريين، حيث ينتهى به الأمر إلى الجلوس على رصيف فى شوارع بغداد انتظارا لمن يستدعيه لأى عمل، حيث ينصحه زملاؤه بأن يقبل أى عرض للعمل، وينسى تماما أنه متعلم ومعه شهادة جامعية، فيرضى بالعمل خادما عند عبدون القعيد على كرسيه المتحرك، ويتعلم منه فن الطبخ ويدمن القراءة، وعندما تأتى أخته فارعة مع أولادها لزيارته يشغف بها حبا، ومع أنه يقطع رحلته بعد أن يستشعر مع مئات الآلاف الأخطار التى بدأت تحدق بهم فى مهجرهم التعيس، وتبدأ الطائرات فى حمل مئات النعوش إلى القاهرة، فإنه يفقد ثلاثة أرباع مدخراته فى بنك الرافدين ويضيع جهده أدراج الرياح، فيحاول تجميع شتاته بعد العودة، يستأنف دراسته العليا، ويلتحق ببعثة الآثار فى أسيوط، ويكتب قصته تلك عن أيام الشقاء، تقرأها فارعة وهى فى طريقها لمصر بعد وقوع العراق فريسة للاحتلال الأجنبي، تحاول العثور على عابد وتجديد علاقتها معه، وعلى الرغم مما فى الرواية من بعض الخلل فانها تنجح فى استحضار فلذات حميمية من عذابات
المصريين ولذاتهم وفرحاتهم المسروقة من الزمن خلال العقود الماضية، لكن دون أن تشف عن رؤية للمستقبل سوى هاجس الخلاص الأخير.
صلاح فضل - الأهرام
http://www.mediafire.com/?o645u4a09mgbchw

No comments:

Post a Comment