Wednesday, November 30, 2022

أسامة منزلجي - مذكرات تنيسي ويليامز


نسخة عالية الدقة  600 DPI

يبدو كتاب ( مذكرات تنيسي ويليامز )* في جانب منه، كما لو أنه محاولة لتصفية حساب مؤلمة مع الذات، مع التاريخ الشخصي، مع ماضٍ لا يمكن تغييره بأية حال.. إنها تصفية حساب نهائية، طالما حصلت في الشفق الصارخ والمؤسي للحياة، احتجاجاً، ليس على الموت المقبل وحسب، بل على الحياة نفسها، لأنها على هذا القدر الكبير من الهشاشة، وماضية حتماً نحو التبدد. فهو احتجاج على بذرة الفناء الثاوية في قلب الأشياء. وعلى الأشياء التي تتنكر بحكم الضرورة لنفسها ولحيويتها، وللجمال.. الجمال الذي هو قيمة عليا لشخص مثل ويليامز وقد استقطر رحيقه، أو سعى جاهداً، لذلك، حد الإشباع. وربما، حد الاستهتار بالقيم السائدة.. إنه كتاب غاضب، كُتب من قبل رجل لا يهادن وهو يعرض الحقيقة مثلما حصلت؛ عارية وقاسية ومثيرة للحيرة والحنق... كتاب، كان يدرك أنه سيشعل غيظ التقليدين والمحافظين والمنافقين، وقد فعل.
هل نقول أن ويليامز، في أثناء كتابته لمذكراته كان مازوشياً بدرجة ما، يُخضع ذاكرته لعملية جراحية بمبضع حاد، يغوص عميقاً، ليخرج كل ما خُبِّئ هناك، بلا أسف، أو ندم، أو خجل. إنه، إذن، في الجانب الآخر يمارس نوعاً من التطهر. للتخفف من ثقل آثامه. وآثامه هي فقط تلك التي يعتقد أنها المتجسدة بذلك الركام من إساءاته للآخرين: "أعتقد أن هذا الكتاب أشبه بتنفيس عن مشاعر تطهرية بالذنب. كل فن جيد هو عمل طائش. في الواقع لا أستطيع أن أؤكد لك أن هذا الكتاب سيكون عملاً فنياً. ولكنه حتماً سيكون عملاً طائشاً، بما أنه يعالج حياتي الراشدة".
في هذا الكتاب يتحدث تنيسي ويليامز عن حالات الفشل أكثر من تحدثه عن حالات النجاح. عن لحظات الألم والإحباط أكثر من تحدثه عن لحظات التألق والفرح. كما لو أنه يضع نفسه، على سرير المحلل النفسي مفضفضاً، وعارضاً لأسراره التي لم تعد أسراراً، بثقة عالية بالنفس، ومن غير اعتبار لردود أفعال الآخرين.
كان ويليامز يعيش على ذلك الصراط الدقيق بين الانشداد للحياة والانجذاب نحو الموت. بين الشغف بالعيش وتدمير الذات. وقد أبقاه حياً وبعيداً عن الانتحار إيمانه بعمله الإبداعي، وولعه العارم بالكتابة. كان على الرغم من تعاطيه للكحول والمخدرات، ومرضه، وشذوذه، وحماقاته ينكب على أوراقه ليكتب. كان الشيء الوحيد الذي يرعبه هو فقدانه القدرة على الكتابة. وكان يتابع إجراءات تحويل قصصه ومسرحياته إلى أعمال سينمائية، أو على خشبة المسرح بدقة وجدية وحماس.. لم يفرّط يوماً بعمله، ولم يفقد إيمانه بجدواه. ومن هنا قوته. كان يعي حدود موهبته وآفاقها، من غير غرور. وكان ما يشعر به في قرارته هو الكبرياء وليس التفاخر. وكان يعرف أن شرط وقيمة وجوده في هذا العالم متوقفان على مواصلته لعمله. وبقي يكرر هذا الأمر مراراً طوال صفحات الكتاب. في الوقت ذاته كان يغرف من متع الحياة التي يراها ترضي نهم جسده الشره. أحياناً بإفراط. وفي أغلب الأحيان بجرأة ومن غير تحفظ أو حساب للعرف الاجتماعي ومبادئ الأخلاق العامة السائدة. وهذا ما جعل منه غير مرغوب فيه، وحتى ممقوتاً عند كثر من الناس الذين عرفوه عن قرب. وقد أمضى وقتاً طويلاً في مجتمع البوهيميين: "على جواز سفري الاجتماعي يوجد ختم دنيا البوهيميين الذي لا يمحى، ولا أندم عليه".
في مقابل هذا ظل متململاً، وغير راضٍ، عن رصيده الإبداعي في مجال المسرح؛ هو المبدع الكبير في الكتابة المسرحية: "إنني محظوظ في مسائل العقارات، ومحظوظ في لعب الورق: وأيضاً، أحياناً، في الحب. لماذا، إذن، أعتبر نفسي متأنقاً لا نفع فيه؟ ربما لأن مغامراتي في مجال المسرح كانت فاشلة في الغالب".
هذا التقريع للجانب الإبداعي من الذات يبدو وكأنه ينم عن مازوشية خفية، مقنّعة. لكن الحقيقة، حسب اعتقادي تتعلق بأصالة موهبته، وسعة عوالم أحلامه. بعدم قناعته المستديمة بما أنجز، على الرغم من أن ما أنجزه بات من عيون فن الأدب المسرحي المعاصر في العالم. ويكفي أن نستذكر بعض عنوانات مسرحياته؛ ( عربة اسمها الرغبة. قطة على سطح من الصفيح الساخن. معرض الحيوانات الزجاجية. ليلة الإغوانا ).
يقول: "أعتقد أن الكتابة هي على الدوام سعي وراء طريدة متملصة، ولا تتوصل أبداً إلى اصطيادها". نشدان الكمال من شيم المبدعين الحقيقيين. والمفارقة أنهم يدركون، حقاً، بأن من المستحيل الإمساك بشيطان الكمال. بيد أن الغواية عظيمة وملحّة. ولا بد من الاستمرار للقبض على ما يسميه بـ "خاصية الوجود السريعة الزوال دائماً". ومنذ وقت مبكر، مذ التقى مع المسرح على السراء والضراء، جعل عمله الإبداعي في مقابل حياته، في علاقة تداخل وتوازٍ وتناظر في آن معاً. وقد حقق، في الغالب، ذلك التوازن القلق، والمهدد، لكن المستمر بين الاثنين. وعلى الرغم من أنه خاض مغامرة حياته بمزاجه النزق والصعب الخاص، إلاّ أنه يقر بأن الجوهر والمقصد، في النهاية، كان العمل/ الكتابة.. يقول:
"قد أكون آلة، أو آلة كاتبة. لعلي طابع على آلة كاتبة، وكاتب مكره. ولكن هذه هي حياتي، وما تحتويه هذه المذكرات ليس في الغالب أكثر من السطح الخارجي لحياتي الغنية، لأن حياتي الغنية هي عملي". وعمله وحده استوفى شروط البقاء والخلود.
لم يول تنيسي ويليامز اهتماماً كبيراً بالسياسة. وقد رأى أنه لا تكون لآراء الكاتب السياسية أهمية خاصة في عمله، مستثنياً من ذلك بريخت فقط.. يقول: "وأهم شيء هو مستويات حظه من الموهبة والصفات الإنسانية. وأشعر أن ميول الفنان الجنسية وانحرافاته الأخلاقية لا علاقة لها عادة بقيمة عمله". لكن هذا لا يعني أنه لم تكن له مواقف إنسانية ذات صبغة سياسية وأخلاقية.
في مكان ما من كتابه يتكلم عن الحلم بعالم أفضل: "وكل ما يهمّني هو اكتشاف نظام اجتماعي جديد ـ ليس شيوعياً طبعاً، وإنما أعتقد أنه شكل أكثر تنويراً من الاشتراكية". بيد أنه لا يقول لنا ما هو تصوره عن ذلك النظام الاجتماعي الجديد، وعن شكل الحياة الذي هو أكثر تنويراً من الاشتراكية. وأظنه هو الآخر لم يكن يعرف عنهما شيئاً كثيراً.
وفي مكان آخر يومئ إلى أن "أشد ما نحتاج إليه هو مبادئ أخلاقية جديدة". ومرة أخرى لا يسهب في القول عمّا تكون عليه تلك المبادئ.
عمل ويليامز، في مرحلة شبابه، في مهن شتى، وعانى الحرمان. لكن نجاحه في ميدان المسرح أنقذه ووفر له أسباب حياة مترفة نسبياً، فاقتنى العقارات. وأشبع، قدر ما استطاع، رغباته الحسّية. وسافر كثيراً، وأقام صداقات مع نخبة المثقفين، ومع آخرين ينتمون إلى عالم البوهيميين. ويعترف أخيراً أن أصحابه الحميمين، ونتيجة طبيعته النزقة، المتقلبة، لم يكونوا يطيقون العيش معه، أو مرافقته في أسفاره. وما كان يفتقر إليه ويجده عند غيره مما يحقق التوازن في الحياة: "وحدة العائلة، مركز اجتماعي محدد، العمل ضمن نظام، سلوك أكثر ضماناً في الوجود". ويردف: "أنا أعيش كغجري، أهيم على وجهي. لم يعد أي مكان يغريني بالتمسك به، ولا حتى جلدي".
إن ذروة نجاحه كانت في حقبة الأربعينيات والخمسينيات، ليبدأ بعد ذلك منحنى التراجع. وهنا يغالي إذ يعلّق على درجة التراجع تلك. لكنه، في أعماقه، كان يشعر بالعالم ينهار من حوله. كان يقترب من مرحلة الشيخوخة: "آه، إنني أتقوض منذ سنين عديدة لكن التقوض آنئذ كان أشبه بالصدع التحت ـ أرضي، تحت الشاطئ الغربي". وفجأة وجد نفسه، تحت تأثير الاضطراب العصبي، ونتيجة سلوك فظ، في جناح العنيفين في مستشفى بارنكل. واُحتجز ثمة ثلاثة أشهر. وفي هذه الفترة كان يعاني من جنون الارتياب، والإدمان والإحساس باقتراب الموت.
"لم يبق بالنسبة إليّ إلاّ أن أشعر بتيار الموت الذي يرتفع باطراد من تحتي، وأن أستجمع كل ما في دمي من شجاعة فطرية لمواجهته، وقد كنت أتحلى ذات مرة بالكثير منها".
أراد ويليامز أن يكون حراً دائماً لينجز حياته ويكون ذاته.. هذه خلاصة ما يخبرنا به في كتاب مذكراته. وهو كتاب آخر جدير بالقراءة حقاً.
*( مذكرات تنيسي وليامز ) ترجمة: أسامة منزلجي.. دار المدى ـ دمشق.. ط1/ 2006.

أو


 

No comments:

Post a Comment