Tuesday, March 13, 2012

خلف علي الخلف - التنزيل


استدراج الشعر الي منطقة شبه مهجورة: التنزيل للشاعر السوري خلف علي الخلف
 إبراهيم قعدوني

ما الذي يجعلنا نُعجَبُ بنصٍ شعري؟ ربما تحتاج مقاربة هذا السؤال إلي مساحةٍ تتعدي هذه القراءة العاجلة، علي أنَّ الحدّ الأدني لتحقيق شرط الإعجاب يتوقف حسب ما أري علي قدرة هذا النص علي توسيع مساحة المشترك بينه وبين قارئه مستنفراً حواسه ووعيه وذاكرته وإرثه النفسي واللغوي والمعرفي مفسحاً المجال أمام تفاعلٍ خلاَّق بين النص والمتلقي، والذي يعتبر بدوره أحد أهم مميزات الفعل الإبداعي.
في مجموعة (التنزيل) وهي المجموعة الثانية التي يصدرها الشاعر السوري خلف الخلف بعد (نون الرعاة) ـ أثينا ـ 2004، يطالعنا الناحل بنشيده تارةً ونشيجه تارةً أخري ملقياً نرد أسفاره في وجه زمنٍ قاحل يحاصر ذاتاً منهكة بخصوبتها تقلب الوجود باحثةً عن وجهه المفتقد. يبدوالمشهد صحراوياً بامتياز، وتتكرر جدلية الوحشة والخلاص، التجريد والتجسيد في تصاعد درامي يمنح النص حيوات إضافية تدخل القارئ إلي ثراء مشهدها المحتدم حيث الهجرات والفجائع و الأنا الضالة.
أمام هذا الجدب تحضر اللغة الحافلة بالمجاز كخيارٍ يركن إليه الناحل الأعزل وهو يطارد برهته التي لا تأتي، لغة يمكن وصفها بالحارَّة والنزقة وربما ـ غير المصفَّاة ـ حيث يبدو النص في بنيته السطحية قائماً علي لغة فصحي وبلاغة أقرب ما تكون إلي التقليدية، الحقيقة التي تعكسها مناخات المجموعة ! إلاَّ أنَّ قراءةً عنيدة ستحيلنا إلي مستوي آخر ينطق بالجديد والآسر فعلاً والذي يتجسد في خروج النص علي البيان التقليدي ونسفه للمجاز المكرَّس مقترحاً علاقات طازجة لتأسيس الجملة الشعرية تخصه وحده وتشير إلي ثراء قاموسي يحسب لهذه التجربة، حيث أنّنا نتعقَّب بعض المفردات وهي تنتج دلالاتها الخاصة عبر سياقات النصوص ومن الملحوظ أن المجموعة تتمسك ببعض المفردات التي تتكرر في أكثر من نص، ما يشبه عملية توليد تراكمي للمعني وقصدية واعية في رسم الدلالات (الناحل، النبوّة، الموت...الخ).
أمَّا من ناحية الشكل فيمكننا تمييز ثلاثة أقسام رئيسية، ضمَّ القسم الأول خمسة نصوص طويلة نسبيا هي: (وريث البراري ـ صبوات السيف ـ ندب علي قبور الجهات ـ سَدْو الغياب) بينما ضمَّ القسم الثاني ستة نصوص وهي: (حجر الليل ـ العاشق ـ مات هناك ـ شمس الناحل ـ المِروَدْ والمكحلة ـ الجسد سؤال اليابسة) وهي نصوص قصيرة مقارنة بسابقاتها، بينما حمل القسم الثالث عنواناً رئيسياً وهو: (مآتم الذاكرة) مع عناوين فرعية للنصوص القصيرة التي جاءت بلون مختلف عن السمة العامة للنصوص السابقة من ناحية الاشتغال.
يستهل الشاعر مجموعته باقتباس للحلاج لو ألقي مما في قلبي ذرة علي جبال الأرض لذابت وإني لوكنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار ولو دخلت الجنة لانهدم بنيانها .
إنها بمثابة توطئة لما سوف يأتي في المتن؛ نصوص زاخرة بالترحال والقسوة، تيه بشريّ ومكانات مذبوحة في مشهد تراجيدي/ جنائزي، حيث الأشياء مبعثرة وحيث الناحل بنشيده يحاول لملمة ما أمكن من طريق زمنٍ يلتهم كل شيء.
في نص (وريث البراري):
الناحلُ
علي ضفاف الأبد ينزع السلاسل، مرتجلاً مهده حافراً
قبره عند وسادته
يقرأ الرؤيا كما وردت علي لسان يوحنا
يسرق الكتاب من رُفة العرش، يفضُّ أختامهُ
ينفخ الشاعر في الناحل من روحه ويلبِسُه منطوقه ويخلع عليه أسفاره فيما يشبه حالة تطابق بين ذات المؤلف وذات النَّاحل الذي حين مشي علي الماء نقر الطيرُ خطاه ومحي الوقت آثاره، تائه في ملكوت هواجسه واغترابه يلوّح بمواويله الجريحة كحال معظم الذين شربوا من الفرات، فكأنه سقاهم أوجاعه مدسوسةً في الماء! ينوح الناحل متوجساً أنثاه، مسنداً أيامه إلي جرَّتها ممجداً رائحتها وهوالمزكوم بالفقد:
مثلكِ رائحة الأزل تفوح من أردان الخالق....
أجدل ضفائرك بأصابع الشغف وأهجو المدن التي أنجبتني
لم أفتح أزرارها، لم أمدّ يدي إلي أشجارها
غير أنها أخرجتني من ملكوت الفاطرِ، الذي تسبح باسمه
الديدان وعاشقة تنام علي حبلٍ من مسد .
للعنوان الذي اختاره خلف لمجموعته تعاقداته الداخلية في النصوص بلا شك، هناك قصدية مدروسة للعنوان يمكن الاهتداء إليها من سياق نصوص عديدة حيث تبدو جلية في نص (وريث البراري) والذي يشبه بطاقة التعريف بالذات الناطقة:
غير أن النشيد باغتني في صباي
علي ظلي هبط الوحي وسالت عليّ النبوة
فزمَّلتني العاشقات
إنها رؤيا الشاعر، يقارع بها خواء يتربصه وتناقضات تفتك بلحظته وتقوِّض مشروعه القائم أساساً علي هدم الراهن وبناء المتخيل/ المفقود، لذلك ها هو يلجأ إلي الغيب/ الميتافيزيقي كي يتحلل من تناقضات الواقع ويبتكر آلية دفاعية تساعده علي التكيّف.
يمكن القول بأن هذا العمل يبلغ ذروته الفنية في نصِّه الأهم (ندب علي قبور الجهات) والمهدي إلي الشاعر الراحل عبد اللطيف خطَّاب*:
يقف النص علي تخوم الملحمة إن لم نقل بأنه ملحمة تتداخل فيها الأصوات وتقف وراءها أنا ترصد الأشياء بعين النبوة تارةً وبعين النادب تارةً أخري، نص ذو ملمح مسرحي، واعٍ لهذياناته، حيث تتفاعل ثلاثة أصوات محورية في النص لصياغة نشيد فاتن يمسك بإيقاع مضمر أحياناً ومعلن أحياناً أخري، حيث يبدو الملمح الموسيقي غير الممنهج حاضراً في هذا النص وفي نصوص أخري أيضاً كما تلاحظ الجملة الشعرية الطويلة حتي يكاد النص أن يكون عبارة عن جملة شعرية واحدة تشكل مركز هذا النص .
الراوي/الشاعر وهو أول الأصوات التي تزيح الستارة:
أنا أول الأسلاف
الموغل في سفر الضني/ شبيه الأبديةِ / نسلُها / صوتُ أجراسها / حبيسُ الزمن/مُوقد الشموع/ المستضيء بدمها
أرتقي الزمن علي نحيبٍ يتمزق
ثم يتبعه صوتٌ آخر وهو الصوت الثاني الذي يشبه أنا ثانية، تقدم تعريفاً مغايراً لذات الراوي وللمشهد الذي يتم رصده:
أيها القادم كثغاء أغنامٍ بعيدة
كنايات تحلم بالخروج من قبرها
ماذا قرأت بأصابعك غير غريزة التناسل
من الذي أوحي إليك: الأيام تنتظر خطاك
تمشي بأصابعك والمدينة ليست جسداً/ الأيام هنا تحسو
زمنها علي مهلٍ ولستَ رسولاً لمملكة يحرسها الطين
لستَ مطراً لتذيب سيوفنا، والخديعة ليست صدأ لتزيله
عن سكاكين الأصوات
أمَّا الصّوت الثالث فهوصوت الندَّابات حيث تقص العذاري جدائلهن و تتعري الغبطة :
عليكَ
لتبكِِ البلادُ
لتندبِ الندَّاباتُ ويفضحنَ أسرارنا
لتشقَّ النسوة بياض وجوههن بالهلاهيل
لغيابكَ
فلتختبئ الخضرة في السهول
تصمت الأشجار
ويخفِِ النهر ألوانه
نص يتصاعد بلا توقف بأسلوبية عنيفة في التصوير ورصد طقوس العويل والنحيب في ريف الجزيرة السورية والتي تعود بمرجعيتها التاريخية إلي الطقوس البابلية علي الأرجح، كما لا يفوتنا التوقف عند المقترح البصري للنصوص، حيث لجأ الشاعر إلي تقنيات مختلفة في تقطيع العبارة والجملة والمقطع فيما يبدو انعكاساً للحالة الداخلية للشاعر ، حيث نراه يباعد بين المفردات في الجملة الواحدة، بينما يلجأ إلي المساحات البيضاء في أماكن أخري كما أنه أكثر من الاستعانة بالخطوط المائلة فيما يشبه تقطيعا وتوكيداً بصرياً للمعني، علي أنَّ هذا النص يبلغ ذروة هدوئه ويدخل في ما يشبه حالة تأمل واسترخاء فلسفي حين يتحدث عن الموت:
أيها الموت يا زمناً يضمره الآن
تنبت في حاشية الغرابةِ يداً تتبادلنا عند باب المصادفة
تدق كل ريحٍ عابرة، تخيطنا إلي العدم لتنسج لقبور
تتواردك الخواطر أرواحاً، تقطفها عاريةً كالسحاب
يا طعماً نتذوقه كالعبرات
ويمضي بنا قبل وصول الحواس
لقد استطاع خلف أن يستدرج الشعر من جديد إلي منطقة قد تكون شبه مهجورة في النص الشعري الرَّاهن وباشتغال ذكي وعين شاعرة تجمع الأزمنة وتكثفها في برهتها واعية لأهمية التأسيس لنص دافئ وذي أطراف متعددة تستخدم جميعها في مصافحة المتلقي، يحدث كل ذلك خارج أشكال التخندق النمطي، بمعني أن هوية المجموعة لا تميل إلي تكريس شكلاني ينتصر لشكل علي آخر (التفعيلة وقصيدة النثر) بل علي العكس نجد الشعرية حاضرة كاستحقاق رئيسي وكهاجس لمجمل النصوص.




إذا كان الرابط لايعمل لسبب ما, فالرجاء البحث في مجلد الكتب المحملة حتى اليوم:
http://www.mediafire.com/#ms1dzyv1tns14
or
http://www.4shared.com/folder/QqJXptBS/_online.html

No comments:

Post a Comment