شكرا للصديق منذر ع, على تصوير هذا الكتاب النادر
يعد «مواهب الكيالى»، أحد أهم الكتاب السوريين، عاش حياة نضالية فريدة من نوعها، والذى عمل كل ما فى وسعه من أجل تطوير الأدب العربى إلى الأمام بقدر المستطاع من خلال الترجمات وإذاعة موسكو وغيرها من الطرق. ولد «مواهب بن أحمد زهدى الكيالى» فى مدينة إدلب (شمال غرب سوريا) 1918، وتوفى فى موسكو 1977، وما بين التاريخين قضى حياته ما بين سوريا موطنه الأول، وروسيا موطنه الثانى الذى أعاد اكتشافه بعدما هاجر إليه.
حصل «مواهب الكيالى»، الشقيق الأكبر لحسيب الكيالى، على شهادة الدراسة الابتدائية التى كانت تسمى (السرتفيكا)، ثم انكب على الدراسة الحرة، وثقّف نفسه ذاتيًا. وكان عضوًا مؤسسًا فى رابطة الكتاب السوريين التى تأسست فى بيته فى أوائل الخمسينيات، ومن ثم أصبح رئيسًا لها، كما كان عضوًا بارزًا فى الحزب الشيوعى السورى. عمل بعدها «الكيالى» موظفًا فى وزارة الرى بدمشق حتى عام 1958.
للكيالى عدة قصائد شعرية نشرت فى مجلة الأديب السورية، منها قصيدة بعنوان: «سراب» نشرت فى عدد مارس 1944، وقصيدة أخرى بعنوان: «عيون» نشرت فى عدد ديسمبر من نفس العام. والحقيقة أن المتاح من شعر مواهب الكيالى قليل جدًّا، اعتمد الكيالى فى نظمه على الموزون المقفى، ونوَّع فى قافية القصيدة الواحدة. وتظهر فى شعره نزعة رومانسية فى موضوعاته التى ارتبطت بتجارب عاطفية تتراوح بين الطابع الوجدانى والحسّى. فلغته سلسة وصوره مستقاة من المعجم الرومانسى، ولاسيما إفادته من صور الطبيعة، فتستدعى مثلا قصيدته «سراب» صورًا من على محمود طه، ومن تاريخ نشر القصيدتين نجد تفسيرًا لغياب المنظور الإيديولوجى (اليسارى) الذى شكل قصيدته فيما بعد.
وله مجموعة قصصية بعنوان «المناديل البيض» الصادرة عن رابطة الكتاب السوريين فى دمشق 1953، وله قصتان قصيرتان نشرتا ضمن مجموعة مشتركة بعنوان: «درب إلى القمة» الصادرة أيضا عن رابطة الكتاب السوريين دمشق 1953. ومن هاتين القصتين صار «مواهب الكيالى» من الجيل الأول لكتَّاب القصة القصيرة السورية.
ذهب «الكيالى» إلى موسكو شابا مبدعا فى عام 1957 لدى مشاركته فى مهرجان الشباب العالمى الثانى. رافق «مواهب» فى مسيرته الإبداعية فى سوريا ومن ثم فى موسكو شقيقه «حسيب الكيالى»، الذى غادرها عائدا إلى الوطن ومن ثم للعمل فى إمارات الخليج. وكان اسماهما غالبا ما يترددان لدى الحديث عن «رابطة الكتاب السوريين» ومن ثم «رابطة الكتاب العرب» وعن «عصبة الساخرين» فى دمشق التى ضمت «عبدالسلام العجيلى» و«نسيب الاختيار» و«عبدالرحمن أبوقوس»، وغيرهم. وفيما عمل «حسيب» مترجما فى دار النشر السوفيتية «التقدم» انصرف «مواهب» إلى إعداد البرامج الأدبية فى إذاعة موسكو. وفى أعوام الستينيات والسبعينيات أتحف مواهب المستمعين العرب ببرامج عن كتَّاب روسيا العظام مثل بوشكين، وجوجول، وتولستوى، وتورجينيف، وغيرهم. وكانت ترد من الأقطار العربية آلاف الرسائل تعبيرًا عن الإعجاب بها. كما أعدَّ وترجم الكثير من البرامج للأطفال وروائع الأدب الروسى.
يختلف «الكيالى» عن بعض الأدباء المغتربين العرب الآخرين بموسكو مثل «غائب طعمة فرمان» فى أنه لم يواصل نشاطه الإبداعى الرئيس، أى كتابة القصص، وإنما انشغل أيضا بالترجمة. كما أنه بقى شديد التعلق بتربة وطنه حتى آخر رمق فى حياته فقد طلب وهو على فراش الموت أن يدفن فى سوريا. واحتفظ بهذا الشعور منذ وطئت قدماه الأرض الروسية وحتى بعد أن تزوج الفتاة الروسية «سفيتلانا» وأنجب منها «سوزان وزياد».
وقد نشر مرة «رسالة إلى ابنتى» فى صحيفة «الأخبار» اللبنانية مقالة حول طفولته استهلها بقوله «أشعلتُ فى عيدك شمعتين، وتمنيت لك أن تسعدى، ولعلى توهمت أن المسافة بين دمشق وموسكو يمكن أن تقطع فى طرفة عين، فانتظرت أن تدخلى علىَّ بثوبك الجديد ذى "التنتنة" حول العنق والساعدين، وعلى فمك آثار المربى، تقيم الدليل على أنك تذوقت حلاوة العيد. ولكن الشمع ذاب ولم يطرق الباب، فقمت أكتب اليك هذه الرسالة».
ولقد قام الشاعر «مواهب الكيالى» خلال الحرب العالمية الثانية وفيما بعدها بدور هام فى فضح الفاشية والإمبريالية، كما عمل العديد من السنوات فى تحرير جريدة «النور» الصادرة آنذاك فى دمشق، واضطر «مواهب الكيالى» عام 1958 إلى الهجرة الجبرية تحت الضغط السياسى، فاختار روسيا مقرًّا لهجرته، فقد تعرض «مواهب الكيالى» للاعتقال إبان وحدة مصر وسوريا، فدخل سجن المزة، ومن الطريف أن سجن المزة هو نفس السجن الذى احتضن أيضا أدونيس والماغوط فى تلك الفترة تقريبا، واحتضن أيضا مجموعة من أهم كتاب سوريا فى العصر الحديث.
بعد إطلاق سراحه غادر سوريا إلى الاتحاد السوفييتى، وقضى بقية حياته هناك. وهناك أعادت روسيا اكتشافه بعدما قام بدور هام فى ترجمة العديد من الأعمال الأدبية الروسية إلى اللغة العربية، وعمل العديد من السنوات فى تأليف كتاب عن القضية الفلسطينية وعن المآسى الكبيرة التى عانى منها الشعب الفلسطينى فى النضال من أجل العودة إلى وطنه. وكان الكيالى، كما ذكر ماجد علاء الدين فى كتابه الواقعية فى الأدبين الروسى والعربى، قد حضر سابقا العديد من المؤتمرات الأدبية العالمية ومن بينها مؤتمر السوفييت عام 1955، وألقى باسم الوفد السورى إلى المؤتمر كلمة عبرت عن فكره الإنسانى التقدمى.
توفى مواهب الكيالى بموسكو فى عام 1977 بعد إصابته بداء سرطان الدم، وقد نقل جثمانه بوصية منه قبيل وفاته الى سوريا حيث وورى التراب فيها. وكان قد كتب فى صحيفة «تشرين» بعد استفحال المرض فيه يقول: «أشعر بأنه ليس من المخيف أن يموت المرء بعيدا عن منطلقات سعيه وسعادته وحياته.. ولكن المخيف أن يعيش المرء بعيدًا عن ثراء المنطلقات وعن نضارتها المتجددة الخالدة.. فيا ألف آه يا أرض وطنى ويا إنسان وطنى، ما كان أبعدكما وأقربكما إلىَّ فى سنوات الغربة».
(بشرى عبد المؤمن)
أو