المدن في العالم العربي كثيرة، لكن الحواضر قليلة جداً. ولعل دمشق وبغداد والقاهرة، وبدرجة أقل حلب وفاس، كانت خلال أكثر من ألفي عام، محاور التحضر والتمدن في المنطقة التي غمرتها الثقافة العربية منذ عهد الفتوحات الأولى فصاعداً.
كانت دمشق عاصمة بلاد الشام قاطبة وعقدة التجارة الدولية مع العراق ومصر وآسيا الوسطى. وكانت فتحتها البحرية تمتد من الإسكندرون في الشمال إلى غزة في الجنوب. وفوق ذلك، كانت مدينة كوزموبوليتية اجتمعت في أرجائها جماعات شتى كالأكراد والشركس والتركمان والروم واليونان والداغستان والأرناؤوط والأبخاز والهوارة واليهود والأرمن واليوغسلاف والمغاربة والعجم. لكن هذه الفتحة البحرية راحت تضيق منذ منتصف القرن التاسع عشر، حتى إذا أطل القرن العشرون كانت ضربة قاصمة تتهيأ للانقضاض على دمشق العاصمة، فتفككت ولايات سورية كلها بدخول الجنرال اللنبي إلى فلسطين في عام 1917، ثم انتزعت اتفاقات سايكس-بيكو منها الساحل الفلسطيني بما فيه ميناء حيفا، ثم الساحل اللبناني بما فيه ميناء صيدا وميناء بيروت.
في أي حال، فإن سورية التي مزقتها اتفاقية سايكس-بيكو في سنة 1916، تمزق معها، جميع من حاول توحيدها. فالعائلة الهاشمية تخطف الموت أفرادها تباعاً: بعضهم انتحر، وبعضهم قتل، وبعضهم حاقت به اللعنة فتشرد في المنافي طويلاً. والحزب السوري القومي الاجتماعي الذي شكل خطراً أكيداً على السياسات الفرنسية والمصرية والأميركية في سورية اغتيل زعيمه وتمزق لاحقاً. وتناثر حزب البعث العربي الاشتراكي كحطام المراكب المبعثرة وحطم معه بقايا كيانات ظلت، طوال مئة عام، تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.
في خضم هذا الاضطراب العميم الذي شهدته سورية، ولا سيما بعد استقلالها في سنة 1943، كان نبيل الشويري شاهداً على بعض جوانب هذا الاضطراب. فهو، منذ يفاعته الأولى، عرف ميشال عفلق كساحر وقديس معاً. وتدرج في مدارج السياسة وفي معارج الفكر السياسي على يديه، وتفتح وعيه على القومية العربية شبه العلمانية التي صاغها عفلق، ثم تمرد عليه وأسقط هالة القداسة عنه، وانحاز إلى أكرم الحوراني، ثم لم يلبث أن انخرط في التآمر السياسي والانقلابات العسكرية مع سليم حاطوم وبدر جمعة، وحكم بالإعدام. وقادته مصائره اللاحقة في المنفى البيروتي، والباريسي، إلى إدارة الظهر للسياسة كلها، ثم راح، بهدوء يعيد النظر في تجربته الشخصية، وأسلم عقله لحقبة من التفكير النقدي الهادئ. ولعل نبيل الشويري كان شبه مرآة عكست البعث نفسه وتجربته العاتية في الاضطراب السياسي والبلبلة الفكرية والتآمر وانقلاب الأحوال والأخطاء القاتلة، فضلاً عن النزوع الرومانسي إلى صوغ مشروع مستقبلي لدولة قوية موهومة.
لم يكن لنبيل الشويري أي شأن مباشر في سلطة البعث التي انبثقت في 8 آذار 1963، ولم يشارك في صنع الأحداث العاصفة التي شهدتها سورية منذ ذلك التاريخ فصاعداً، ولم يكن له أي دور في المصائر التي انتهى إليها البعث بشظاياه الكثيرة، إنما كان شاهداً راصداً لتجربة البعث في سورية، وكان، إلى ذلك، مناضلاً في ذلك الحزب إبان صعوده، ثم راقب بحسرة انحداره وتطايره في جميع الاتجاهات. وهذا الحوار هو خلاصة هذه التجربة. ومهما يكن الأمر، فإن أهمية هذا الحوار لا تكمن في أنه يؤرخ لحقبة من التاريخ المعاصر لسورية، بل في محاولة إعادة قراءة الأحداث في ضوء التجربة الشخصية.
نبذة النيل والفرات
http://www.mediafire.com/view/?86b4x74plhfasdt
أو
http://www.4shared.com/office/z0hGHFZw/___-____.html
قائمة الكتب المرفوعة:
http://www.4shared.com/file/Gtrm37EF/Abu_Abdo_Albaghl_Bookz.html
No comments:
Post a Comment