اغتيالُ الدستور، والأسئلة المحرجة.. «حجر السرائر» للروائيّ السوريّ نبيل سليمان
هيثم حسين - منارات
لا يَخفى أنّ الدستور هو أساس لإقامة العدل؛ الذي هو بدوره أساس الملك أو الحكم، لكن ماذا لو أنّ الدستور المُراد تشريعه تعرّض لمحاولات التسميم والاغتيال؟ هل يعود بالإمكان التمهيد لإقامة حكم عادل دون أساس متين؟ هل يمكن الاعتبار من دروس التاريخ وتجاربه في مسألة التمثيل بالدستور عبر نسف مكوّناته وبُناه؟ انطلاقاً من هذه الأسئلة، يعاود الروائيّ السوريّ نبيل سليمان في روايته «حجر السرائر»، «كتاب دبي الثقافيّة، الحوار» التنقيب في التاريخ ليستكشف بعض خباياه، معتمداً على وقائع تاريخيّة ومعلومات مستقاة من مصادر مختلفة، يبني روايته معتمداً على التخييل الروائيّ لخلق عوالمه، دون أن يزعم أنّه يكتب مخبوء التاريخ أو مكتومه أو مفضوحه أو ملعونه.
يصوّر الروائيّ فترة حرجة من تاريخ سوريا في بداياتها التأسيسيّة، تلك الحقبة التي تلت الاحتلال، وكانت تعجّ بالأحداث والمنعطفات الهامّة التي شكّلت مستقبل البلاد فيما بعد. كما أنّه يعود بالذاكرة والأحداث إلى أيّام الاحتلال الفرنسيّ، مستذكراً بعض المحطّات في حياة الشخصيّات الروائيّة التي تقدَّم على أنّها حوامل بذور التغيير، وجراثيم الانقلابات، وعدوى المؤامرات، وجريرة التكتّلات الباحثة عن هويّة وانتماء.
الشخصيّات التي مثّلت الدستور أو تلك التي تمثّلت له، تسيّر الأحداث في «حجر السرائر» التي يحاول فيها نبيل سليمان، استجلاء بعض الحيثيّات والوقائع التي رافقت مرحلة التأسيس للدستور في سوريا عقب الاستقلال. حيث يفترض حوادث تاريخيّة متخيّلة في فترة تاريخيّة محدّدة، فترة الانقلابات في سوريا، يوائم بين الروائيّ والمتخيَّل، يستعين بشخصيّات مؤثّرة تاريخيّة، يخلق معها شخصيّات روائيّة، يشركها في اللعبة، يمنحها الامتياز التاريخيّ والروائيّ، ويُضفي عليها الواقعيّة التاريخيّة. يمحو الحدود الفاصلة بين التخييل والواقع، بتغليفه المجريات والمتغيّرات بما يوحي بواقعيّتها المحتملة ولا واقعيّتها في آن. يتقاطع الروائيّ في التنقيب في تلك المرحلة الهامّة من تاريخ البلاد مع عدد من الروايات والأعمال الدراميّة التي تطرّقت إلى تلك الفترة التي يبدو انّها ستظلّ خزّاناً للحكايات والأعمال الفنّيّة والأدبيّة، لما تحتمله من اجتهادات وتأويلات، ولما تنطوي عليه من ألغاز وأسرار لا يني الحديث عنها متجدّداً.
تبدأ الرواية بمشاهد مستحضرة من حياة المحامي (رمزي الكهرمان) وزوجته (درّة حفظي). ينشغل (رمزي) وارث الأساطير ومورثها وأحد أعضاء لجنة صياغة الدستور، والمقاوم للاحتلال، المنفيّ السجين، بالعمل على وضع دستور عصريّ للبلاد، لكنّه لا يستطيع إكمال مهمّته، لأنّ خيانة زوجته الجميلة له، بالتواطؤ مع عشيقها وابن عمّها (خطيب حفظي)، تضع له نهاية مروّعة. يقضي مسموماً في مشهد دراميّ مؤثّر. بعد سلسلة من عمليات النبش والمتابعة، يستدلّ المحقّق إلى أنّ الزوجة (درّة حفظي) قد اضطلعت بالمهمّة مع عشيقها، فيلقى القبض عليها، وتودَع السجن، لتقضي فيه عشرين سنة.
وبعد تلك السيرة التاريخيّة المسترجعة، يكون هناك قطع زمنيّ، لا يلتفت الروائيّ إلى سدّ ذلك الزمن المديد بين عملية الاغتيال والسنوات التي تمرّ. إذ نجده ينتقل إلى السجن وقدّ مرّت عدّة سنوات، تحضر السجينة (درّة حفظي) بين يدي آمر السجن، وبمصادفة غريبة، تلتقي أحد المساجين المميّزين، (حسني الزعيم)، تلفت نظره، تحوز على إعجابه، يعدها بأنّه سيطلق سراحها حين يستلم رئاسة الجمهوريّة. وبعد مضيّ خمس سنوات يفي بوعده لها. تتحرّر السجينة القاتلة، لتلعب دوراً هامّاً في تسيير شؤون البلاد لفترة محدّدة قصيرة. حينذاك تكون ابنتاها (نديدا) و(ابتهال) قد كبرتا وتزوّجتا. ترافق درّة الزعيم المنقلِب إلى حين الانقلاب عليه، ثمّ تتوارى عن الأنظار، تبقى مختفية لا يعلم أحد مصيرها، تنشط التكهّنات والتخمينات حول مظانّ تواجدها، لكنّ الخبر اليقين يتأخّر سنوات حتّى ينكشف.
يمازج الكاتب بين الواقعيّ والأسطوريّ في روايته، نراه يستطرد في توصيف الأحجار الكريمة، يذكر مفاعيلها السحريّة، يستنطق ما تشتمل عليه من درر وجواهر، وما تنطوي عليه من مفاتيح ومغاليق تفيد لتطبيب الأرواح والأجساد ومعالجتها. أحجار كثيرة يذكرها الروائيّ، كأنّه يهيّئ قارئه للتدبّر والتمعّن في القوى السحريّة الشافية التي تتمتّع بها، حيث أنّها تتكفّل بحماية ومداواة حامليها، بالموازاة مع قيامها بالكثير من الأدوار الخارقة. تحضر أنواع كثيرة، يكون لكلّ منها تسمية، تتوافق تلك التسمية مع المفاعيل التي تنهض بها. يشرح خواصّها وميّزاتها الخارقة. يُبقي حجراً واحداً من دون تسمية، تجتهد الشخصيّة الرئيسة نديدا باكتشاف اسم مناسب لتسمّيه به. نجد أنسنة للحجر الذي يطالب بالتسمية، ولا يرضى أن يبقى مكتوماً مجهولاً.
تتعدّد محاولات التسمية، تحرص (نديدا) أن تكون التسمية مبتكرة فعّالة ملائمة، تستعين بثقافتها ومَن حولها، تحاور الحجر في ما تنتويه، لكنّها تؤجّل البتّ في الموضوع، تؤجّل حسم القرار، وإصدار الحكم أو النطق به. تطعن بكلّ ما قد يشغلها عنه. (نديدا) المحامية التي تتمتّع بمزايا استثنائيّة، تكون نموذج المرأة العصريّة، المثقّفة الفاعلة في مجتمعها، تمارس مهنة المحاماة، تنشأ في عائلة قانونيّة، تقرّر أن تكون السبّاقة في كلّ شيء، لا تلتفت إلى أقاويل الناس التي تنال من سمعتها، لا يثنيها عن التعلّم شيء، تغامر في سبيل آرائها، ولا تخشى المخاطرة. تكون المرغوبة المشتهاة، وفي الوقت نفسه تكون مرهوبة الجانب. تصرّ على أن تطلّق نفسها من زوجها الصحفيّ الشمّام (رباح أبو شلّة)، بعدما تنجب منه ابناً تسمّيه (رمزي)، على اسم والدها المغدور الذي تحرص على أن تدعوه مع عمّها بالشهيد.
تعود (نديدا) للعيش في بيت عمّها المحامي الذي لم ينجب أولاداً، تدرس العديد من الموادّ القانونيّة، تقدّم مقترحاتها القانونيّة لتغيير تلك الموادّ، تسعى لاستكمال ما كان والدها قد بدأه، باعتباره أحد أعضاء لجنة صياغة الدستور، قبل أن تغتاله زوجته بتسميمه. حتّى أنّ الرواية تسلك سبلاً قانونيّة، تغوص في ذكر الموادّ الدستوريّة، كيف كانت وكيف ينبغي أن تغدو.
يصوّر الروائيّ ارتهان الشخصيّات للحتميّات المرسومة، كأنّها تنقاد لتنفيذ ما يخطَّط لها. يعرض تصرّفاتها وخلفيّاتها، ثمّ يصف ماضيها وحاضرها، وكيف يكون ذاك الماضي مستمرّاً وفاعلاً. يحرص على أن تكون التسميات دقيقة معبّرة، تقدّم وفق متوازيات ونظائر روائيّة، يستحضر اللقب مع الاسم، وأحياناً يسبقه، باعتباره أكثر تدليلاً عليه، لأنّه يأتي بعد معايشة وواقعيّة. بالتزامن مع التوصيفات والتسميات يرد التسميم، كأنّ الروائيّ يوحي بروابط لامرئيّة سحرية بين التسمية والتسميم، لا من جهة الجناس اللفظي فحسب، بل عبر الجناس الفعليّ المتعدّي، إن جاز التعبير.
يتفعّل حجر السمّ مع حجر الشفاء والسرّ والخلاص. فالتسميم يبقى ملح الرواية الذي يتشعّب في معظم الفصول، يبقى المؤثّر الأكثر ترميزاً ودلالة. القانون يتسمّم بالتجاوزات والاختراقات. البلاد تتسمّم بالانقلابات. (درّة) تسمّم زوجها المحامي. تسمّم حياة مَن تصادفه. كلّ واحد يسمّم حياة الآخر بتصرّفاته الرعناء وسلوكيّاته الطائشة. قادة الجيش يسمّمون البلاد بالانقلابات والتوتّرات. الأحزاب تسمّم البلاد بالشعارات الجوفاء. المتطفّلون المجيّرون يسمّمون الأفكار. تكون السموم الفكرية أشد شراسة وأذى من تلك السموم التي تقتل أفراداً معيّنين، لأنّها تقتل وتفني وتسمّم جماعات برمّتها، كما تحمل معها بذور التسميم العامّ القاتل.
ولعلّ الخطاب الفكريّ الأهمّ المعلن والمضمر، الذي يرد بالتوازي مع حوامل هامّة، هو تحذير الروائيّ المتكرّر من أن تكون الطائفيّة السمّ المستقبليّ الذي يحذَر منه على ألسنة شخصيّاته. وهو بالضبط العلّة التي تتكفّل بالتسميم الممنهج، والمتخبّط، والمجنون. تحضر الاغتيالات والتصفيات والدسائس كسموم مجّانية متفشّية في البلاد. يحضر تسميم الرمز، تسميم الاسم، فرمزي المقتول تسميماً يظلّ رمزاً للعدالة المغدورة، والدستور المُضحَّى به. (درّة) القاتلة تبقى السمّ المتنقّل، والاسم غير المتوافق مع الفعل الإجراميّ المقترف. (بدر الدين) يحمل السموم وينثرها أينما يحلّ ويرتحل. الصحفيّ الشمّام يعتاش على السموم. (نديدا) تتحدّى السموم، بفعل طاقة الاسم غير المحدّد حتّى النهاية، وبفضل قوّة السريرة، وسحرها الكامن، وطاقتها المتجدّدة الثائرة. بفضل وفعل وطاقة الحجر الذي تحمله معها، والذي يمنعها من الغرق دوماً، وينتزع لنفسه التسمية الأنسب في النهاية: حجر السرائر. يكون التعريف بالتسمية سبيلاً للإنقاذ والخلاص. ثمّ الأمل المنشود بتسمية ابنها من (رباح) برمزي، كأنّها تعيد إحياء الرمز المسمّم، وتتحدّى إبقاءه وتفعيله وتكبيره، برغم ما يتعرّض له من تشرّد وتشريد بين أسرتي أبيه وأمّه.
الأبوّة والبنوّة:
تنبني الرواية على عدّة ثنائيّات. تكون الأبوّة والبنوّة الثنائيّة الأبرز. يحضر صراع الأجيال وتلاغيها، كما يحضر تكاملها المنشود وتساميها على الانخراط في المكائد المدبَّرة. يكون كلّ اسم مقرون مع أب فعليّ أو رمزيّ، ربّما يغدو الابن أباً بطريقة ما. يتناوب الأب أو الأم على النهوض بالدور مع الابن أو الابنة.
(نديدا) التي تعيش في كنف عمّها وزوجته (افتخار)، تأخذ منهما الكثير لأنّها ابنتهما بالتربية، لكنّها تكون ابنة (رمزي) القانونيّ المغدور و(درّة حفظي) القاتلة. تأخذ حبّها وافتتانها بالقانون وحرصها عليه من والدها، كما تأخذ دهاءها وسطوتها واستبدادها الأنثويّ من أمّها. وبرغم ما تزعمه من تحقير لأمّها إلاّ أنّها تبقى امتداداً لها بطريقة أو أخرى، لكن دون أن تتورّط في القتل أو الاغتيال، بل تكون المحامية التي تسعى إلى تطبيق العدالة المغيّبة المحجوبة. (نديدا) الابنة تغدو الأمّ الحائرة التائهة في زحمة مشاغلها. لا تقوم بواجباتها كأمّ لابنها على أكمل وجه، فيتوه ابنها ويبتعد عنها. ثمّ تكون أمّاً رمزيّة لأختها (ابتهال) التي ينحسر دورها كثيراً، تبقى على هامش الأحداث، تتحرّك في ظلّ زوجها (سنان) الضابط القوميّ السوريّ. تحضر (افتخار) كأمّ بديلة تفتقد الأمومة الحقيقيّة، تحاول الاستعاضة عنها بتربية نديدا وابتهال، ثمّ أبناءهما.
الصحفيّ رباح يكون الابن المشاكس للصحافة، والأب غير المثاليّ لابنه. يكون الابن المطيع لوالدته، والأب العاقّ لأخيه مطيع. ثمّ يكون هناك الضابط الانتهازي بدر الدين الذي يتنقّل بين القوى، ينحاز للحاكم أيّاً كان، يتحدّى أخاه الذي ينهض بدور قيادي في تنظيم إسلاميّ، يبقى بدر الدين أتماز غير منتمٍ لأيّ تيّار، يغازل الأقوى وينساق وراء السلطة، تعميه القوّة، يتّخذها وسيلة للبطش والقتل. يكون الابن الشرعيّ للسلطة، يسعى جهده ليستلم السلطة بانقلاب محتمل، ليغدو الأب غير الشرعيّ. ينوي قتل الأب ليتنصّب أباً. وذلك كلّه بطرق غير شرعيّة.
«حجر السرائر» رواية مثقّفة، تحمل هموماً عامّة، تنتصر للقانون وسلطته، تحثّ على الدعوة إلى تفعيله وتحديثه. تمتلك جرأة فكريّة وفنّيّة من خلال الخوض في التاريخ لتحفيز رغبة تفعيل الجميل فيه، وتعرية الفاسد والشرير، والبحث عن القانون الذي ينبغي تسييده ومحاربة مَن يسعون إلى تقييده أو تسميمه. تفضح الممارسات التي كانت تستهدف النيل من السلطة التشريعيّة، وتظهر تداخل السلطات السافر، عبر التعدّي المكشوف من قبل السلطة التنفيذيّة على السلطتين التشريعيّة والقضائيّة. بحيث أوقفت الدولة على رغبات ومنافع البعض على حساب التضحية بالقانون والقضاء.
عبر الفصول الثلاثة، التي تتكامل فيما بينها، لتقدّم المشهد بشموليّة واتّساع، وعبر تنويع في أساليب العنونة ولغة السرد التي تزاوج بين الفصيحة والعامّية في الحوارات، ثمّ تتوافق مع خلفيّات الساردين، وتنسجم مع أفكارهم وأطروحاتهم، تثرى «حجر السرائر» بالكثير من التحليلات والرؤى للبنى السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الناشئة، يرسم الروائيّ دمشق عقب الاستقلال، دمشق الانقلابات، دمشق المتغيّرات، يرسم الحِراك السياسيّ والاجتماعيّ والصحافيّ الذي كان دائراً فيها، يذكّر بالكثير من الأحداث والوقائع التي غيّرت وجه البلاد ووجهتها.
تكون السياسة هي الأرضيّة التي تتحكّم بخلفيّة الرواية وتسيّر أحداثها. يتتبّع المحطّات التي تمّ فيها اغتيال الدستور في البلاد. وكيف أنّ الأحكام العرفيّة والقوانين الطارئة تكفّلت بتسميم البلاد، وتسميم حيَوات المواطنين. يروي انتصارات القادة على الشعوب، والفرق في النظر إلى تلك الحالات التي وصفوها بأنّها انتصارات، في حين أنّها هزائم منكرة، سمّيت بعكس ما هي عليه لتبقى مسمّمة للمستقبل، كما كانت قد سمّمت الحاضر الذي بات ماضياً مستمرّاً بفعل الفاعلين، المعروفين منهم والمجهولين.
تحتاج إلى أحدث نسخة من أكروبات ريدر لتتمكن من فتح هذا الكتاب. إذا طلب منك باسوورد, فهذا يعني أن نسختك قديمة!! رجاءا تنزيل أحدث نسخة من:
http://get.adobe.com/uk/reader/