تنهمر لفظة (اقتلاع ) ـ التي اختارتها الكاتبة ( بشرى أبو شرار) عنواناً لأقاصيصها المجمعة ـ دلالات و معاني واضحة في الوجدان الفلسطيني تتجاوز ما رسخ في ذاكرة الآخرين.
الاقتلاع من الأرض و البيت و بئر الماء و نصاعة الحلم الذي كان فسيحاً يتسع الجهات كافة، بحيث أضحت تلك اللفظة شاهداً على بشاعة الجريمة التي حدثت، حينما يستوطن الوافد من وراء البحار و المحيطات برك و بحرك و سماواتك فيما يتحول صاحب الحق إلى لاجئ ، مشتت، تتقاذفه المخيمات و المنافي.
هذه الخصوصية للفظة الاقتلاع لم تمنع الكاتبة أن تنسج من خلال مغزلها طُرقاً مفضية إلى عوالم تبحر أكثر فأكثر صوب عناوين الوطن و فضاءاته .
يمكن للمتتبع لقصص مجموعة ( اقتلاع ) أن يقسمها إلى محورين من حيث دلالات المكان و الزمان :
المحورالأول : يرصد حنين الكاتبة التي تعيش في مصر لجهات الوطن و رموزه عبر استقطار مرايا ذاكرتها و تذكاراتها .
حنينها هنا ليس ذلك الحنين الدامع المشبع بالعويل ، لكنه الحنين الذي يحفظ أشياء الوطن بوصلة انطلاق تشع وضوحاً و ثباتاً و امتداداً .و يمكن في ظل هذا المحور إدراج القصص التي يتشابك فيها الهمّ المصري بالهمّ الفلسطيني في حنين موصول بكل ما هو إنساني.
ـ ترصد قصة ( اقتلاع ) في يسر و عذوبة المشاعر الإنسانية لتلك المرأة العائدة بعد غياب طويل إلى بيت الطفولة و الصبا الذي خلا برحيل الأم و الأب ـ بما يشكلانه من ماضٍ مفعم بالفخار ـ حيث تنهمر ذكرياتها الملتصقة بكل ذرة من ذرات البيت الذي يسكنه أخوها الآن .
و عبر اختلاط السارد الموضوعي العليم بتيار وعي تلك المرأة نتلمس دفق أحاسيسها الإنسانية و هي تفتش في غرفة أبيها عن حوائجه و أشيائه ، تتشممها ، تفجعها ملابس أخيها المصفوفة بعناية ظاهرة تحتل الخزانة ، فيما انزاحت ملابس الأب صرة متهالكة مكومة في الزاوية يعلوها التراب ، في الوقت الذي قبعت فيه نظارته في آخر الدُرج باهتة ، مطفئة ، شاحبة .
و عندما تبدي المرأة احتجاجها على هذا التجاهل و الجحود ينصحها أخوها دون اكتراث بأن تذهب بالحوائج إذا ما رغبت إلى أحد الجوامع أو دور المسنين.
لتلوذ المرأة إلى عوالمها الداخلية ، تستكشف الحقيقة المتوارية في أعماقها ، تطالعها غرفة الصالون التي بدت لها مهزومة مأزومة ، يطمرها غبار الزمن ( سقطت حبات الدمع تطوف بالذكرى البعيدة ، حيث الأريكة العريضة ، يوم جلس عليها المأذون ليعقد عقد زواجها ...صوت أمها يناديها بأن تأتي و معها قطعة القماش لتمسح التراب من على المقاعد ...كان عمل الصباح و المساء ، كان مكان أمها هناك في الزاوية يوم دخل المعزون البيت ملتفين حولها لتخفيف حزنها على زوجها ، ظلت هناك في مقعدها لا تبرحه ، و بجوارها المصحف تقرأ ثم ترفع عينيها بعيداً بعيداً نحو الفضاء العريض تنتظر لحظة رحيلها إليه لتكتمل الرحلة ) ص25 ـ 26 .
و عندما تلامس يدها صورة أبيها المصلوبة على الجدران ، تقرر أن تبعدها عن هذا الواقع الذي يئن تحت وطأة خواء المشاعر الإنسانية ونضوبها ، تودع الصورة حقيبتها، تضمها بين جوانحها قطعة منها و كأنها تضم عالماً من البراءة المفقودة ، عالماً اكتشفت الآن حجم فجيعتها بفقدانه .
النص صيحة تحذير ، فنسيج العلاقات الاجتماعية حتى بين أفراد الأسرة الواحدة آخذ بالتحلل و التفكك في ظل زحف قوانين السوق ، تراجع منظومة القيم ، غياب التواصل الإنساني عبر ذلك الأنموذج ـ الابن ـ الذي يجسد رموز المرحلة بضبابيتها و أنانيتها و عدم اكتراثها بالهم العام حتى لو كانت وصايا الأب و الأم و تذكاراتهم المشعة المضيئة .
في المقابل يُعلي إيقاع السرد من خلال الاحتفاء بأنموذج تلك المرأة من قيمة الأحاسيس الإنسانية المشحونة بالدفء الذي لا بد أن يسود مهما توالت الخيبات و تعالت أكوام الصقيع و الجحود .
ـ نطالع في قصة ( حناء ) عرساً فلسطينياً يعبق بالعادات و الطقوس التراثية التي لم تنطفئ (الثياب المطرزة ، السحجة ، الدبكة ، المواويل ، الزجل ) ومن خلال ذلك كله تعبر شخصية أم نور الآتية من العراق وهي تسوق إجابات عن نهر دجلة ، باب المعظم ، باب عشتار ، و كل بوابات بغداد الموصلة إلى بوابات فلسطين ، لتمتزج المواويل الفلسطينية بالمواويل العراقية في إشارات رامزة إلى التلاحم العربي الذي تنشده الكاتبة ، و يمكن أن نأخذ على القصة جنوحها إلى الاسترسال خاصة في بعض الأسئلة الموجهة للقادمة من العراق .
ـ في قصة ( صندوق البريد) يتحول الصندوق رقم 1007 المزروع في بناية البريد في شارع عمر المختار بغزة إلى شريان يضخ الحياة لعيون الغياب المتطلعة إلى العودة للوطن رغم أغلال المحتل .
ـ في قصة (بوابة السلام) نتتبع المرأة التي هدم اليهود بيتها الكائن في المخيم و هي تكد في البحث عن أوراق بيت (الرملة) السليب ، تزيح عنها الركام و الهدم ، تنتشلها شاهدة على خصوصية الاستمرار ، التلاحم بين الماضي و الحاضر ، و فيما ينشغل طفلها في البحث عن لعبته بين الأنقاض ، تمعن عيون المرأة في الارتحال صوب الشرق ، حيث مدينتها (الرملة) البعيدة التي لم ينطفئ أوارها من الوجدان .
- ترصد قصة (يوم الفرح الحزين) المشاهد الخلفية الكئيبة المخفية ليوم افتتاح مكتبة الإسكندرية ، حين يغدو الاحتفاء بصورة الزعيم التأشيرة التي تفتح مغاليق بوابات الرزق ، فصناديق محمد الديبة و سلاله تصبح عرضة للانتهاك لأنه نسي التأشيرة ، في الوقت الذي يكتسب فيه عم فؤاد التواجد عبر تلك التأشيرات التي تعلو رزم كتبه المرصوصة المتراكمة ، فيما يمتلئ المشهد بالرجال المدججين بأصوات اللاسلكي التي تجز حرابها رقبة المكان الذي ركنت إليه تلك الفتاة جهة سور البحر في محاولة منها للفرار من تلاحق الصور التي تنضح كآبة، وفي وقفتها تلك تلاحقها أطياف الوطن القابع خلف الأسلاك ، فتزداد في داخلها أحاسيس الغربة و الانسحاق خاصة عندما يقترب منها رجلان تطل المسدسات من خاصرتهما طالبين منها مغادرة المكان و إلا....لتمضي و هي تحس بضباب يملأ المشهد ويطوقه بأسلاك من القهر والاغتراب تلاحقها حتى في مناسبة افتتاح مكتبة يُفترض أن تكون مخصصة للإنسانية.
ـ تتحدث قصة ( و همي المطر ) عن هموم الإنسان الفلسطيني عبر تلك الفتاة التي تعيش بعيداً عن غزة ، لكن الوطن يحيا في قلبها ، حين يصبح استدعاؤها مشروعاً من قبل أجهزة الأمن ، تصبح عرضة للملاحقة و التفتيش في أدق خصوصياتها و هواجسها ، لأنها تتعامل مع الورق و الأقلام و الأحلام .
المحور الثاني : نصوص يبدو من خلالها انعجان الكاتبة بالنماذج الإنسانية المنتزعة من الواقع المصري بحيث يمكن التعامل معها و كأنها نماذج تراها في أكثر من مكان لأولئك المنسيين من أبناء الفقر و الصمت المحملين بالأمل رغم قسوة الواقع و شظف الحياة .
ـ تغوص قصة (سلطان) في أعماق الساعي الجديد ـ سلطان ـ كاشفة عن طيبة يتعامل معها مدير المكتب بتسلط و قهر و عنجهية مستغلاً حاجة ذلك الأنموذج و عوزه ، و عندما يصل الأمر حد نعت أمه بأقذع الأوصاف يتحول سلطان إلى النقيض ، رافضاً الانكسار تحت وطأة الفتات المغمس بالذل فهو لم يركن إلى الإذعان إلا من أجل توفير لقمة عيش كريمة لتلك الأسرة المسحوقة التي تنتظره (أخته الصغرى تنتظر الهدية ، العيدية ، أمه التي سكنت الفراش و لم تبرحه ، اعتاد أن يدس يده تحت وسادتها مما قد تحتاج إليه ) ، لذا نجده يقذف مفاتيح المكتب كأنها العار، مطالباً بحقوقه المنهوبة حتى آخر مليم ، متنازلاً عن عمل يستبيح أدميته و يصادر في إنسانيته أجمل أبهى الرموز التي يعتز بها .
ـ نتتبع في قصة (شارعنا البعيد) تلك المرأة الكادحة التي تصطف بين جموع الواقفين على عتبات الفرن ، يضاعف من همها ولدها المريض النائم على كتفها و هي تكافح من أجل إبعاد الأحذية المتدافعة عن عملتها الورقية ـ نصف الجنيه ـ التي سقطت منها على أرضية الفرن ، في الوقت الذي يلاحقها فيه صوت صاحب الفرن مؤنباً بكلمات كأنها السياط ، متعجلاً الثمن .
و ما إن تتمكن تلك المرأة من فرد طولها و تناوله حقه حتى تتهاوى من بين يديها أصابع المحمصات التي اشترتها ، متهشمة على أرضية الفرن ، لتمتد ركامات من المرارة المتصلة في أعماقها امتداد الشارع المعتم البعيد الذي ابتلعها مشيَّعة بواقع يشر قسوة و اضطهاداً.
ـ في قصة ( فوق السحاب نطير ) نطالع رجلاً يعدو لاهثاً بعربة خشبية متآكلة استأجرها لبيع حبات الترمس ، متشبثاً بها في عناد و كأنه يتشبث بعروق الحياة و هو يدفعها صوب الأزقة و الشوارع الضيقة المنسية لإخفائها من مطاردات الشرطة ، إلى أن تهدأ العاصفة ، لتعود عجلات العربة المهترئة إلى الدوران بحبات الترمس و الليمون المذبوحة ، يعب بها المسافات و الريح العاوية ، و رغم الأسوار و الملاحقات و البوابات الموصدة لا تتوقف العربة عن المضي خلف الدخان و فوق السحاب بحثاً عن لقمة مغموسة بقطرات الدم في عالم لا يأبه بأوجاع الفقراء .
ـ ذلك الإصرار على البقاء نلمحه في قصة ( دخان ) عبر شخصية (صالح) بائع حبات البطاطا المشوية الذي لا يكل و هو يدفع عربته المتهالكة التي تئن و تئز فوق أرصفة و شوارع المدينة و وحلها ، فيما نبتت على حواف العربة صور منتزعة من ماضٍ متوهج بالبراءة لأناس لم تغب وقفتهم من ذاكرته إلى جواره في أزمنة الشدة ، حينما جمعوا له أخشاب العربة و مساميرها و قوائمها الحديدية و قواطعها و عجلاتها ، في المقابل تحتل المشهد صورة متفردة للرجل الذي يقاسمه رزقه بعد أن أخذ منه نصف ملكيتها في إشارة إلى غياب الأمن و الأمان بغياب العلاقات الإنسانية السوية .
ـ ترصد قصة (و قال الوالد) شخصية ( أبو يوسف) الرجل الذي أوصت اللجنة التي عاينت مكنه المتوارث عن أبيه بتفكيكه قطعة قطعة والتخلص منها لانتهاء عمره.
أربعون عاماً من معاناة متصلة بين إبر الغزل والخيوط و البكرات و العنابر و النسيج تتحول إلى خردة لا يعلم بعدها كيف و إلى أين السبيل .
و عندما يأتيه صوت ولده الصغير مغنياً للأمل ، للسد العالي ، تتدفق من محجريه الدموع في صمت ناجم عن إحساسه بالعجز فيما تتسمر نظرات زوجته عزيزة في الفراغ و إحباطات تتنامى في أعماقهما لتطاول قامة تلك المسلة التي تزفر دخاناً أسود يسافر بعيداً و يعود ملفعاً بسواد يفضي إلى مجهول يحاصره بأنياب لا ترحم ، ما دام الخلل الاجتماعي هو السائد .
بشرى محمد أبو شرار ، اقتلاع ، إبداعات فلسطينية ، غزة ، 2004 .
كاتبة فلسطينية مقيمة في مصر ، صدرت لها ثلاث مجموعات قصصية و رواية في الإسكندرية .
زكي العيلة
http://www.mediafire.com/?ik2111avv3m6sem
إذا كان الرابط لايعمل لسبب ما, فالرجاء البحث في مجلد الكتب المحملة حتى اليوم:
http://www.mediafire.com/#ms1dzyv1tns14
or
http://www.4shared.com/folder/QqJXptBS/_online.html
إذا كان الرابط لايعمل لسبب ما, فالرجاء البحث في مجلد الكتب المحملة حتى اليوم:
http://www.mediafire.com/#ms1dzyv1tns14
or
http://www.4shared.com/folder/QqJXptBS/_online.html